ترجمة:Reo

لم يتعجّل كلاين حالما آوى إلى حُجرته أن يزيل ذلك الجدار الروحاني الذي أقامه. بل بهدوء، امتدّت يده الخبيرة لتتناول شمعةً يفوح منها أريج خشب الصندل، فأرساها في قلب مكتبه.

ثم شرع في تأدية طقوسه، فأوقد بوهجٍ روحانيته فتيلَ الشمعة، وأخذ ينثر حولها شذراتٍ من الخلاصات العطرية والمساحيق العشبية التي ترمز إلى الحظ السعيد والغموض الأثيري. وظل يراقب الشعلة وهي تتراقص بين خفوتٍ وتوهّج، فيما كان يتنسّم ذلك العبير الذي يبعث في النفس السكينة والصفاء.

تراجع كلاين خطوتين إلى الوراء، وتعلّقت عيناه بتلك الشعلة المتألقة على المنضدة. ثم دوّى صوته بلسان العمالقة، مطلقًا صيحةً واحدةً جليلة:

"أنا!"

وبعد هنيهةٍ من الصمت، انطلق لسانه بلغة هرمس القديمة، قائلًا:

"باسمِي هذا، أنا أدعو:

أيها الأحمقُ الذي لا ينتمي لهذا الزمان،

أيها السيدُ الغامضُ المُتربّع فوق الضباب الرمادي،

ويا ملكَ الأصفرِ والسوادِ الذي يمسكُ بزمامِ الحظ السعيد."

وفي تلك اللحظة ذاتها، تلاحمت الشعلة المتراقصة مع عبيرها، فانبثقت عنهما دوامةٌ سرابيةٌ راحت تلتهم في نهمٍ كل ما في الحُجرة من روحانية.

ما إن فرغ كلاين من ترتيل تعاويذه، حتى استكانت الدوامة العاتية، مُتَحَوِّلَةً إلى حلقة سديمية شاحبة بحجم راحة اليد.

حدّق كلاين في ذاك الضباب لبرهة، ثم خطا بثباتٍ ودون أدنى تردد أربع خطواتٍ عكس اتجاه دوران عقارب الساعة. وفي لمح البصر، وجد نفسه قد عاد إلى عالمه الأثيري فوق الضباب، حيث رأى، كما توقع تمامًا، تموجاتٍ ضوئيةً صافية تنبثق من كرسيه الفخم ذي المسند العالي، لتُعمِّق الهالة الغامضة التي تكتنف الرمز العجيب المنقوش عليه: رمز "العين بلا حدقة" و"الخطوط المتلوِّية"

سحب نفسًا عميقًا إلى صدره، وسكَّن اضطراب روحه عبر طقس التفكُّر، قبل أن يمُد يده صوب مبتغاه.

في تلك اللحظة عينها، طرقَ سمعهُ صدى التعاويذ التي رتّلها قبل قليل، ورأى طاقته الروحية المتأججة وهي تتلاحم مع التموجات الضوئية، لتُجسِّد أمامه بابًا سرابيًا مهيبًا.

وخلافًا للمرة السابقة، بدا الباب هذه المرة مكتمل التكوين، وقد كسته من كل جانبٍ نقوشٌ غامضة تخطف الأنفاس!

لم تكن تلك النقوش سوى نسخة طبق الأصل من الرمز المنحوت على مسند كرسي الأحمق؛ ذلك الرمز المتألِّف من العين بلا حدقة والخطوط المتلوِّية ذاتها!

لمّا رمق كلاين الباب بنظراته، استجمع شتات فكره، وأطلق العنان لإرادته آمرًا إياهُ بالانفتاح.

وعلى غير ميعاد، اضطرب سكون الضباب الرمادي السرمدي والقصر المهيب، كوقع حجرٍ في بركةٍ راكدة، فانسابت تلك الرجفة صوب باب الاستدعاء.

وفجأة، دَوى في الفراغ صريرٌ مدوٍّ كجرِّ صخرٍ أصم، وانفرج الباب الثقيل الغامض عن شقٍّ ضئيل، بانت من ورائه غياهب عالمٍ سحيق الظلمة، يموج بأطيافٍ هلاميةٍ لا يُدرك كنهها ولا يحصيها عدّ، تتخللها خيوطٌ لونية متألقة تختزن في طياتها المعرفة المطلقة.

في تلك الآنية، أحسَّ كلاين بقوةِ جذبٍ قاهرة، لا تُقاوم ولا تُصَدّ، تنبعث من وراء الباب، فوجد نفسه يُجتَذَب إليها اجتذابًا، لا يملك من أمره شيئًا.

"تبًّا! أتسلبني حتى خيار الرفض؟" ما إن راوده ذاك الهاجس المفزع، حتى ولج جسده عبر الشق، وابتلعته غياهب الظلام.

رويدًا رويدًا، تلاشت تلك الزعقات الهوجاء التي تصم الآذان وتورث الدوار، حتى عاد إلى كلاين رشده.

فأبصر أمامه شابًا يافعًا، يرتدي قميصًا باليًا، بشعرٍ أسود وعينان عسليتان، وملامح لا تلفت النظر. كان متوسط البنية، يميل إلى النحافة، إلا أن هيئته كانت تُنبئ عن قوةٍ كامنة، وعليه سمتُ أهل العلم ووقارهم.

... حدَّث نفسه: "أليس هذا أنا؟" لم تكن مثل هذه المشاهد غريبةً عليه، فهو يلقاها كلما وقف أمام مرآته.

أومأ برأسه إيماءةً خفيفة لا تكاد تُرى، ثم جال بنظره في محيطه. رأى سريره الذي يعلوه ملاءة بيضاء، وقبعته نصف العالية ومعطفه الرسمي وسترته السوداء معلقة على المشجب. رأى رف كتبه الذي يئن بما حوى، ومنضدته المرتبة التي لم يكن عليها سوى شمعة واحدة... رأى لهيب الشمعة وهو يبعث وهجًا رماديًا شاحبًا.

وها هو الآن، يسبح في الفراغ أمام تلك الحلقة السديمية التي لا يتجاوز حجمها راحة اليد.

"إذًا... أأنا من استحضرتُ نفسي؟ الأمر أشبه ما يكون بتجربة الخروج من الجسد... وإن كان ينطوي على اختلافٍ ما." نظر كلاين إلى جسده المادي أمامه، إلى عينيه الفارغتين من أي تعبير، وغاص في تفكير عميق.

ولكنه أيقن أخيرًا حقيقةً واحدة لا ريب فيها: أن روحه وحدها، أو ما يُعرف في علوم الأسرار بـ"الجسد الروحي"، هي التي ارتحلت إلى عالم الضباب. وأنَّ ما يظهر للعيان ليس إلا إسقاطًا نجميًا.

لا عجب إذًا أنني كنتُ قادرًا وأنا في عالم الضباب على رؤية السطح النجمي لشخصيات مثل العدالة والمعلَّق والشمس، والتأكد مما إذا كانوا من المتجاوزين أم لا، بل وتخمين رتبة تسلسلهم... ويبدو أنَّ جسدي المادي محاطٌ بضربٍ من الحماية، ولعلها من بركات قوة الطقس ذاته، حتى أقف بهذا الثبات الشامخ، فلا أترنح أو أميل. ولا بد أنَّ الأمر سيانٌ بالنسبة للآنسة عدالة والآخرين... وهكذا، شيئًا فشيئًا، بدأ كلاين يألف حاله الجديد، وشرع يُحلِّل وضع جسده المادي وروحه.

أغمض كلاين عينيه للحظة، ثم حشد إرادته ليحرّك روحه التي امتزجت الآن بقوى ذلك الفضاء الغامض.

حفيف!

في طرفة عين، هبَّت ريحٌ صرصرٌ باردة أخذت تلتف في دواماتٍ حول الغرفة. فاستمتع كلاين بإحساس التحليق البديع، وأخذ يدور في أرجاء المكان جذلًا مسرورًا.

"أستطيع الآن أن أقوم بدور المرسال في هذه المدينة... ولكن، هل يا تُرى بمقدوري حمل أشياء مادية معي؟" تمالك نفسه وكبح جماح حركته، وظل سابحًا في الهواء، وشرع يختبر قدراته الأخرى.

حاول أن يتناول دفترًا من على رف الكتب، لكن يده اخترقت الدفتر وكأنه سراب.

"أشعر بلزوجة خفيفة، لا يشبه الأمر اختراق الهواء تمامًا... لعلّي أتمكن من الإمساك به حين أزداد قوةً وأُحسن استغلال القوى الغامضة لعالم الضباب." حاول كلاين مجددًا الإمساك بورقة واحدة، ولكن بلا جدوى.

وبعد تفكيرٍ دام بضع لحظات، حلّق نحو مشجب الملابس ومد يده الشفافة إلى جيب معطفه الأسود، حيث لامس "تمائم السُّبات" و"تمائم السكينة" التي استعادها مؤخرًا.

كانت تلك أغراضًا مشبعةً بروحيته، تختلف في طبيعتها الخارقة عن سائر الجمادات. ولذا، أراد كلاين أن يرى إن كان بمقدوره حملها.

مرة أخرى، عبرت كفه من خلال التمائم، لكنه شعر بوجودها شعورًا جليًا، أحسّ بتمازج الطاقات الروحية، غير أنه كان يفتقر إلى "القوة" الكافية لرفعها. بالطبع، كان هناك تفسير آخر محتمل، وهو أن الروحية الكامنة في التمائم لم تكن كافية لخلق صدى قوي مع حالته الراهنة.

"الروحية ليست قوية بما يكفي..." حدّث نفسه وهو ينتقل إلى الجيب الآخر. كان ذلك الجيب يحوي "تمائم الشمس المتأججة" التي صنعها من القوة التي اغتصبها من الدم الإلهي ومزجها بروحيته.

وسرعان ما سرت في كيانه دفءٌ غامر، جعل هيئته الطيفية أكثر ثباتًا وأفكاره أشد وضوحًا.

استطاع أن يُخرج الصفيحة الذهبية الرقيقة من جيبه. وفي مرآة غرفته، بدت التميمة وكأنها تطفو خارجة من الجيب من تلقاء نفسها، تمامًا كما تصفها حكايات الأشباح.

"بمقدوري تحريك تمائم الشمس المتأججة، ويمكنني أيضًا إصدار الأصوات بروحي... إذًا، أنا أمتلك قدراتٍ معينة في هذه الحالة..." حلّق كلاين نحو المرآة وتوقف أمامها، فلم يرَ في انعكاسها سوى الصفيحة الذهبية الرقيقة، وما عدا ذلك، لم يكن هناك إلا أثاث الغرفة وعتمتها التي سبّبتها ستائره المسدلة.

بعد لحظات من التفكير، وضع تميمة الشمس المتأججة على السرير قبل أن يعود ليقف أمام المرآة، فقد أراد أن يرى إن كان يستطيع العبور من خلالها.

أظلمت رؤيته فجأة، فإذا بمنظوره يتبدل في لمح البصر. رأى الغرفة كما تنعكس في المرآة، والأثاث الذي تبرزه مصادر الضوء الخافتة. شعر وكأنه يتربص في زاوية خفية، يختلس النظر إلى جزءٍ يسيرٍ من الغرفة.

"أستطيع حقًا عبور المرآة. لكنها مجرد أداة عادية لا تقود إلى عالمٍ غامض أو عجيب..." أومأ كلاين برأسه واندفع إلى الأمام، عائدًا مرة أخرى إلى غرفته.

إنَّ نجاحه في حمل تميمة الشمس المتأججة قد أورثه ثقةً عارمة، لذا، حاول الإمساك بشيء آخر.

صافرة السيد آزيك النحاسية!

وما إن لامس ذاك الأثر العتيق ذا النقوش الدقيقة، حتى أحسّ بروحيته تتمدد وتتجمد في آنٍ واحد.

تحولت عيناه الطيفيتان إلى جمرتين من لهبٍ أسود متقد.

"أشعر وكأنني اكتسبت مزيدًا من القوة. هيئتي الآن تشبه هيئة الريث، ولكن دون تلك الرغبة العارمة في الانتقام..." استحضر كلاين هيئته الحالية في ذهنه ليرى صورتها بعد أن سكّن اضطراب فكره.

كانت تلك إحدى قدرات "المهرّج".

"إنَّ صافرة السيد آزيك لشيءٌ مذهل حقًا." أومأ برأسه وقد لاحظ أنه أصبح الآن قادرًا على التقاط الأوراق ذات الوزن اليسير، بل وحتى الإمساك بتمائم السُّبات.

"يا للأسف، يمكنني حمل الخنجر الفضي الطقوسي، لكن المسدس أثقل من اللازم..." أنهى كلاين تجاربه والتفت ليرى إن كان بإمكانه استخدام أي تعاويذ في هذه الحالة.

وبعد اختباراتٍ جادة، استنتج أنه قادر على إطلاق تعويذتين: الأولى عواءٌ أثيريٌ يزلزل الأرواح، والثانية بثُّ صقيعٍ يجمِّد الأوصال بمجرد الملامسة.

توقف كلاين وقد غمرته موجة من الرضا. نظر من نافذته الناتئة، صوب ضوء الشمس والشارع المحجوبين خلف الستار.

"أتساءل إن كان بإمكاني التحرك نهارًا في هذه الهيئة..." تمتم وهو يسبح نحو النافذة.

ثم رفع الستار بحذر، صانعًا شقًا سمح لقدر ضئيل من ضوء الشمس باختراق جداره الروحي والتسلل إلى الغرفة.

وتحت أشعة الشمس الساطعة، أحسّ كلاين بروحه تغلي ويتصاعد منها دخانٌ أسود، وقواه تتلاشى وتتبدد شيئًا فشيئًا.

أفلت قبضته على الفور، تاركًا الستار يهوي ليحجب النور.

"لا يمكنني..." فكّرَ للحظة، ثم ألقى نظرة على تميمة الشمس المتأججة المستلقية على السرير.

"تُرى، هل سيختلف الأمر إن استعنتُ بقوة الدم الإلهي للشمس الأزلية المتأججة؟" حلّق نحو السرير وحاول الإمساك بالصفيحة الذهبية الرقيقة.

ولكن ما إن لامس التميمة، حتى شكّل دفؤها النقي تناقضًا وجوديًا صارخًا مع برودة روحيته المتعاظمة، فكان أشبه بصراع الماء والنار الأزلي.

فانبعثَ صوتٌ كإطفاء الجمر في الماء!

قذف الصفيحة الذهبية بعيدًا وكأنما لدغته أفعى.

"لا يمكن لقوة صافرة السيد آزيك وقوة تميمة الشمس المتأججة أن تجتمعا في روحي." أدرك كلاين الحقيقة وهو يضع الصافرة جانبًا، فشعر بروحيته تنكمش، واللهيب الأسود في عينيه يخبو.

"في هذه الحالة، تضعف كلتا التعويذتين اللتين أستطيع استخدامهما..." وبعد جولة أخرى من الاختبارات، أمسك كلاين بتميمة الشمس المتأججة مجددًا، ليشعر مرة أخرى بتأثيرها المثبّت والمنقّي على جسده الروحي.

عاد إلى النافذة وانسلّ بحذرٍ عبر الستار.

لم يشعر إلا بدفء الشمس يلامس كيانه، دون أن يلحق به أي أذى.

"ليس سيئًا..." ارتسمت على محياه ابتسامةٌ يمتزج فيها الرضا بالحيرة. اجتاز جداره الروحي، ثم انساب خارج المنزل بخفة وحذر، عازمًا على استكشاف المزيد.

2025/09/22 · 41 مشاهدة · 1541 كلمة
Reo
نادي الروايات - 2025