يجلس على النافذة، يتأمل السماء بهدوء شديد، جسده في المكان لكن عقله في مكان آخر، يتأمل السحب، لكن عيناه فارغتان تشاهد أشياء أخرى، هبت نسمة لطيفة تسحب معها رائحة الذكريات، حين دخل عليه مارون، إلا انه لم يتحرك من مكانه. نظر مارون نحو سيده بحزن، ثم وضع الصندوق الذي يحمله على المكتب.
- هل أنتَ متأكدٌ سيدي؟
لكن الصمت أطبق المكان، بالكاد يسمح صوت نسائم الهواء المتراقصة في الأرجاء. نظر مارون نحو الصندوق بحزن، وأردف:
- أعني ... لمَ على سموك مواجهة عشيرة لازاك، لم لا تسلمها لشخص آخر.
- هذا مستحيل!
- سيدي!
نظر نحوه بدهشة، فاستطرد روهان دون أن يتحرك انشاً واحداً:
- اذا كان من هناك لمواجهتهم، فعلي فعل ذلك.
-سيدي!
همس متأثراً ثم عاد ينظر إلى الصندوق، حجر كريم قرمزي يتوسطه، وحوله إطار من الذهب منقوش، جعله يشرد في أفكاره.
-عودة للوراء-
في الزقاق الضيق، وفي أروقة القرية، جدرانها من حجارة ضخمة مهترئة، تفوح منها رائحة العفن، تصل تلك الأزقة فيما بينها، هدوء ساكن، يقطه صوت أنفاس متقطعة لطفل هارب، تتقطر الدماء منه، يحاول بصعوبة السير والمضي للامام لانقاذ حياته. نظر نحو الخلف مترقباً، سمع أصواتهم لا تزال تتبعه، أصوات خطواتٍ هائجة، يشع نورٌ أحمر بين الأزقة، وتخرج صرخات النساء والأطفال المتواجدين في المكان، لكن كيف له أن يفكر بانقاذهم بينما يجب أن ينقذ نفسه.
يتابع السير بحذر، يحاول الاختباء في إحدى الأزقة الخالية، لكن تباً هؤلاء العصابة لا تنكفئ تتبعه من تلك الأزقة المأهولة، يبدو أن مهمتهم لا تقتصر على الامساك به فحسب، بل على الاستمتاع في قتل هؤلاء الأبرياء. انهم حريصين على وصم الفتى بالعار ليكرهه الجميع، فهذه ليست القرية الأولى التي يخرج منها بسبب ذلك.
يتوقف خلف حائط، ليتلقط أنفاسه، الدماء تلطخه من جميع الجهات وكانه غمر في حوض من الدماء، عيناه الياقوتين هما الشيء الوحيد الذي يلمع في جسده. ظهرت سيدة في المكان، بدت كأنها عائدة إلى المنزل حين رأته. تراجع خائفاً، عيناها تنظران نحوه بفزع شديد كأنها رأت وحشاً دموياً، أراد الهرب، إلا أنها قالت بحنان:
- هل أنت بخير؟ دعني أعالج جراحك.
مدت يدها اللطيفة نحوه، لكنه أخذ متراجعاً، هو لا يريد أن يورط شخصاً آخر معه، لكنها ابتسمت، وقالت باللطف ذاته:
- لا تقلق، فلدي طفل في نفس عمرك، سيسره أن تكونان صديقين.
زاده ذلك ذعراً، لكن خطواتهم التي أصبحت تقترب أكثر جعلته في حالة من التوتر والهيجان.
- هيا بسرعة! قبل أن يقبضوا عليك.
سحبته بسرعة دون أن يقاومها، وهمت تركض به على طول السلالم، نظرت حولها، ثم فتحت باب منزلها الخشبي العتيق المحفور في تلك الأحجار المهترئة، وأدخلته المكان.
البيت ليس بالمكان الجلل، غرفة صغيرة تتوسطها سجادة يدوية الصنع وبعض الأثاث، بقيت خلف الباب حتى مرت الأصوات من المكان، ثم اختفت، تنهدت ثم نظرت نحو الفتى الذي بدا أنه نهض من غفوته للتو، ينظر نحو الفتى المغطى بالدماء بذعر شديد.
- مارون.
قالت بلطف:
- أحضر الماء بسرعة.
نظفت جسده، وطهرت جروحه، ثم ألبسته ملابس جديدة، وأجلسته، ثم قالت تخطاطب مارون:
- اهتم به ليثما يجهز الطعام يا عزيزتي، اتفقنا؟
ومسحت على رأس طفلها بحنان، ثم ذهبت نحو الداخل، بينما أخذ مارون يتأمل الطفل بحذر.
- من اسمك؟
تساءل مارون، حين نظر الطفل نحوه بعينين فارغتين، حينها ابتسم الطفل بمرح، وهتف ببراءة:
- أنا مارون، يبدو اسمي مضحكاً لكنه اسم والدي.
وضحك بخجل، إلا أن ذلك حرك من مشاعر الطفل فابتسم ابتسامة خفيفة، وقال:
- أدعى روهان، ويبدو أنني سميت على اسم والدي أيضاً.
- ايه!
صرخ مندهشاً:
- هذا يعني أن والدك توفي أيضاً!
- أجل.
- لكن لماذا كنت ملطخاً بالدماء، هل كنت مطارداً؟
أشاح وجهه، وضعت على كلتا يديه الصغيرتين، شعر مارون بالندم، لكنه سرعان ما خرج صوت روهان:
- قالت ميرا أن والدي قتل شخصاً مهماً، لذلك هم يتبعونني للانتقام.
- لكن هذا غير عادل!
صرخ مارون:
- ان كان والدك فعل أمراً سيئاً، فلماذا يحاسبوك أنت؟
نظر روهان نحوه بدهشة، ثم ابتسم، حينها أخرج من جيبه قلادة من حجر كريم قرمزي مأطر بإطار من ذهب منقوش، وقال:
- أخبرتني ميرا أن والدتي تركتني مع هذه القلادة، أعطتني إياها ميرا قبل أن يقتلوها، هي أنقذت حياتي ولكنني لا أملك أحداً أعود إليه.
- ألا تستطيع أن تعود إلى والديك؟
هز رأسه بالنفي، عاد ينظر إلى القلادة التي في يديه، وقال بحزن:
- أخبرتني ميرا أن والدي منفصلين، ولا أعرف أحداً منهما.
جحظتعيناه مارون بفزع، عجز لسانه عن قول أي شيء، طفل بعمر الحادي عشر، مثله تماماً إلا أنه لا يملك ما يملكه أغلب الأطفال في نفس عمره. قطع حديثهما صوت السيدة، وهي تقترب منهما بصينية تنتشر منها رائحة طعام لذيذ، وقالت بمرح:
- هيا لنتناول الطعام.
...
الظلام الدامس، والسماء الملبدة بالغيوم، أصوات صرارصير الليل تنتشر في الارجاء، وحركات الأشجار تتراقص مع نغمات الرياح، يقف بعض من الرجال الملثمين خلف الأشجار المطلة على ذاك القصر المهيب. حين أضاءت عينا مارون بشعاعها الأحمر، وقال محذراً:
- سيدي! من الأفضل أن لا تواجهها، دعني أقوم بذلك عنك.
ينظر مارون نحو القصر مترقباً، حين قال بحزم:
- أنتَ لستَ نداً لها يا مارون، واجبي أن أقتلها من أجل سلامة المملكة.
ثم نظر إليه، وأردف:
- أنا لا أريد أن أخسرك بسببي.. وعدتني أنك ستبقى بجانبي، اليس كذلك؟!
- سيدي!
قال متأثراً، حينها اشار روهان بيده ليقتحموا المكان، فهمت جماعته نحو القصر، ليواجهون العصابة، حين تسلسل روهان ومارون من بينهم نحو القصر. الدهليز الطويل مغمرٌ بالمشاغل، إلا أنه بالكاد يمتلئ سوا بالسجاد الذهبي بزركشات حمراء، خيل لمارون أنها بقع دماء، إلا أن حالة مفزعة اجتاحت المكان، وخرج من بين الممرات رجل ذو منكبين حادين، تلوح في عينيه شهوة القتل، يبدو أنه من جماعة جبلية بملابسه المغطاة بالفرو، تحيطه هالة مرعبة، جعلت مارون يرتعد مكانه.
- مارون!
أيقظه صوت روهان، لتشع عيناه ذاك الرجل باللون الأحمر، حينها استيقظ من ذعره، وشعت عيناه، ثم هتف:
- سيدي تابع طريقك، واتركه لي.
ابتسم روهان راضياً، وقال:
- أعتمد عليك.
ثم هم يشق طريقه، حين صرخ الرجل:
- وهل تظن أني سأسمح لك ...
قاطعه سيف مارون متجهاً نحوه، حينها تراجع ليهم بسحب خنجره، واحتدم القتال بينهما، حينها ركض روهان مسرعاً نحو هدفه.
...

2019/09/25 · 295 مشاهدة · 953 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024