خرج شوفين وقصَد مقر التجارة الذي يقوم عليه أقزين، وبِمجرّد وصوله.. سارعَت إليه سولان من بعيد، وكانت راموليا قد أخبرَته بأنها سبق وأتَت تبحث عنه، لم يهتم شوفين كثيراً لأنه فهِم الأمر بدون شرح، لذلك واصل مشَيه حتى وصل إليها وكانت تعابيرُها أكثر ودّية هذه المرّة، ابتسمت وقالت

"لقد أتيتُ إليك لكن قيل لي بأنك كنت تتدرب، هل شُفيَت إصاباتُك واستعدتَ تدريبَك ؟"

أومأ وقال

"ليس من السهل استعادة تدريـبي السابق، لكني أتقدّم بِطريقة جيدة"

ابتسمَت وقالت

"هل ستُشارِك في مسابقة الصيد ؟"

نظر نحو درج الطابق العلوي وقال

"بالتأكيد، هل أبوك موجود هنا ؟"

شعرَت بأنه لا يُريد إطالة الحديث معها لذلك قالت

"لقد غادر في مهمة تجارية وأوصاني أن أُعطيك الأغراض التي طلبتَها، اتبعني رجاءً"

تبعها وأعطَته الأغراض فقام بتصفّحها والتأكّد منها ثم قال

"كم المجموع ؟"

اتّسعت عينا سولان وهي تنظر إليه قبل أن تقول

"لقد قال أبي بأنها هدية، ويتمنى منك أن تقبلَها"

عبس شوفين قليلاً وتذكّر أن أقزين ربما كان يُحاول التقرّب منه بِسبب علاقتِه مع الكيميائي واريان، حتى أنه أرسل ابنتَه وأجبرَها على تغيِير طريقة حديثها معه، خزّن الأغراض ثم ابتسم وقال لها

"لا أحب أن أكون مديناً لِأحد، لذلك سأقوم بِتعويضِك لاحقاً"

استدار وغادر على الفور تاركاً إياها في حيرة، خاصة أنها كانت تعرِف شوفين القديم جيداً وكان طفلاً مغروراً لا يدري ما يخرُج من فمِه، أما شوفين الحالي فقد بدا لها وكأنه عجوزٌ قديم، كلامُه، حركاتُه وقراراتُه لا تُشبِه شوفين القديم بتاتاً.

غادَر شوفين نحو قبّة الكيميائي واريان، وبِمجرد اقترابِه.. استقبلَه الأتباع باحترام لأن واريان كان قد عرّفهم عليه وطلب منهم احترامَه، وبعد دقائق كان قد التقى بِواريان ودخل في صلب الموضوع مباشرة

"أريد استخدام الفرن الخاص بك.. سيد واريان"

تهلّل وجه واريان لأنه سيرى مهارة شوفين لِأول مرّة، لِذلك وافق بِسرعة وأدخلَه إلى قاعة الفرن بعد أن أمَر أتباعَه بإشعالِه عبر قِواهم الخاصة حيث يحتاج إلى عشرة أشخاص على الأقل ويكون تدريبهم في مستوى تقوية الروح.

دخل كلاهُما إلى الفُرن وأغلق واريان باب القاعة لأن كل كيميائي له طريقتُه الخاصة لِصقل الحبوب، ولولا أن شوفين قد سمح له بالدخول معه لما دخل هو أيضاً.

نظر شوفين إلى النار البيضاء داخل الفرن ثم قال

"أنا أحتاج نار الفرن فقط وليس الفرن نفسَه، لذلك سأطلُب منك إخراج النار والسيطرة عليها خارجَه حتى لا نؤذي فُرنك الثمين"

استغرب واريان ولم يعلَم ما الذي قد يُؤذي فُرنَه، لكنّه أومأ بِرأسه وانتظَر إشارَته، وفي هذه اللحظة.. تغيّرت ملامِحُه عندما أخرج شوفين خمسة قطعٍ معدنية مختلفة من حيث النوع والحجم، ومعها بعض المواد الأخرى التي لم يستطِع واريان التعرّف عليها، طافَت الموادّ بين يدي شوفين ثم استعدّ للبدء وقال

"كان من الأفضل أن أذهب إلى ورشة الحِدادة بِما أني أرغب في صناعة أداةٍ معدنية، لكني لا أعرف هناك أحداً لذلك قررت استغلال النار من فُرنِك، ستأخذ هذه العملية ساعة على الأقل، أتمنى أن تصبِر معي"

ابتلع واريان ريقه ولم يعلم كيف سيقوم شوفين بصناعة أداةٍ معدنيةٍ اعتماداً على النار وحدها، كما أنه لا يدري ما نوع الأدار التي سيقوم بصُنعِها، لكنه أومأ بِرأسه ولوّح نحو نار الفُرن فخرجَت وتكثّفت حسب طلب شوفين، تنهّد شوفين بِصعوبة لِأنه ليس واثقاً من سيطرتِه على جميع هذه المواد اعتماداً على تدريبِه الحالي، لكنّه لم يكُن يائساً أيضاً، لذلك قذف بعض المواد داخل النار وبدأ الصناعة.

تلألأت عينا واريان لِأنه رأى شيئاً جديداً لم يكُن يعرِفُه، وطيلة نصف ساعة من الصقل.. كان شوفين يصبّ كل تركيزِه على دمج وصهر المعادن الخمسة الغريبة، وبعد نصف ساعة.. كانت المعادن الخمسة قد اندمجَت وصارَت صهارة واحدة وأعطت شعوراً بارداً رغم أنها كانت مصهورة بالنار، ابتسم شوفين ثم بدأ بإضافة بعض المواد الأخرى حتى وصل إلى زجاجةٍ فيها سائل أسود، ارتعَب واريان عندما أحسّ بِهالتِها التي كانت تتآكل مع نفسِها، علِم مُباشرة بأنها سمٌّ قوي جداً.

ابتلع شوفين ريقَه وفتح الزجاجة ثم أحاطها بِهالتِه حتى لا يتسرّب السم، وفي لمحة عين.. كان السم قد اختلط بِالمعدن وجميع الموادّ الأخرى وبدأت النار البيضاء ترتجِف وتبتعِد تلقائياً عن المعدِن المصهور والمسموم، ابتسم شوفين عندما رأى هذا وقال

"زِد الحرارة، لقد شارفنا على الانتهاء"

ظهر العرَق البارد على جبين واريان عندما رأى نفور النار التي من المُفترض أن تصقُل جميع أنواع المواد، وراح يتصفّح وجه شوفين الواثق وهو يُحاول استعادَة طاقتِه المفقودة، وبعد عشر دقائق.. اقترَب شوفين من المعدن المصهور وأخرج كمية كبيرة من الطاقة الروحية وجعلَها تُحيط بِالمعدن حتى غشِيَته وصار غير مرئي، وفجأة.. اختفَت النار البيضاء مع المعدن المصهور الذي كان داخلها.

تنهّد شوفين وتراجع ثم طلب مِن واريان إطفاء الفُرن لأنه قد انتهى من مهمّتِه، لم يفهم واريان ما حدث، لكنّه فكّر في أن شوفين لا يُريد منه أن يعرِف شيئاً عن الأداة التي يُريد صُنعها، لذلك سيقوم بإنهاء العمل في مكانٍ آخر، وهذا أمرٌ مفهوم بطبيعة الحال، خاصة أن واريان ليس مهتماً بِصقل المعادن وإنما تكفيه الوصفات والتعليمات التي يمنحُها له شوفين بين وقتٍ وآخر.

خرج الاثنان من غرفة الصقل وسلّم شوفين بعض الوصفات الجديدة لِواريان ثم قال له

"أنا مدينٌ لأقزين في أمر معيّن، أتمنى منك إرسال حبّة تعزيز الجسد ذات الثلاث تحوّلات لابنته سولان كتعويض"

وافق واريان مباشرة ولم يعترِض رغم أن قيمة الحبة ليس بسيطاً، وذلك لأنه قد استفاد من شوفين بأعظم من ذلك بكثير، كما أنه سيكون من الجيد أن يقوم بعض اليافعين بتجربة الحبة حتى تشتهِر ويزداد عدد طالبيها، وحينها ستكون لديه الفرصة لِتسويقها للعشائر القريبة أو ربما حتى للعاصمة.

عاد شوفين مباشرة إلى قصرِه ودخل العزلة مرة أخرى، استخدَم وعيَه ودخل إلى العالم الخاص به، ظهر على المنصة الحجرية الواسعة واقترَب من الشعلة البيضاء التي صارت الآن بِحجم طفلٍ صغير، وداخِلها.. كان المعدن المصهور والمسموم الذي أذابه سابقاً مع واريان.

عاد شوفين بِسرعة إلى القصر لأنه لم يستطِع المغامرة بِتركِه هنا لوقتٍ طويل حتى لا يبرُد أو يُؤثّر على الشعلة البيضاء، لذلك بدأ مباشرة بِتوجيه قواه نحو المعدِن، وبِطريقة احترافية.. بدأ بِتشكيل إبرة رقيقة وحادة جداً بطول الأصبع.

لِصناعة هذه الإبرة.. فقدَ ثُلث المعدِن، وذلك لأنها مصنوعة من جوهر المعدِن وليس من الشوائب، وبعد نصف ساعةٍ كان قد انتهى منها واستدعاها إلى يدِه، نظر إلى الإبرة السوداء البرّاقة وظهرت على وجهِه ابتسامة خبيثة، وذلك لأن هذه الإبرة بإمكانها إسقاط أو إضعاف مُتدرّبي مرحلة التألّق، أما متدرّبي مرحلة البناء فستقتُلهم في رمشة عين، لكن إيصالَها لِجسد المتدرّب وجُرحَه بها سيعتمِد على مهارة شوفين وثغرات العدو.

قام بِتخزين الإبرة ثم بدأ في تشكيل الإبرتين الأُخريَين، وبعد انتِهائِه.. قام بإخراج بعض الأعشاب التي جهّزها سابقاً وأخرى كان قد وفّرها له أقزين حسب طلبِه، رمى الأعشاب في النار وبدأ بِصقل الحبوب مباشرة، وبعد ساعةٍ أخرى.. كان قد حصل على ثلاث حبّاتٍ طبية تنبعِث منها هالة تُشعِر بالاشمئزاز، ابتسم وخزّنها ثم غادَر عالمَه واستلقى في غرفتِه للنوم قليلاً حيث لم ينَم منذ خرَج من الكهف قبل بضعة أشهُر.

...

في قصر شيخ القانون.. ركَع أحد الأتباع أمامَه بعد أن قدّم تقريرَه، ابتسم الشيخ راجو بِسعادة وقال

"سيشارِك في مسابقة الصيد ؟
هذا خبر جيد"

يبدو بأن أتباعه قد تجسسوا عليه عندما كان يتحدث مع سولان وسمعوا تأكيده لسؤالها عن مشاركته في مسابقة الصيد، وهذا خبر جيد فعلاً للشيخ راجو لأن هناك قانوناً مُشتركاً بين العشائر الثلاث المُشارِكة يقول بأن ما يحدُث داخل الفراغ المكاني.. يبقى هناك، بمعنى أنهم لا يستطيعون مُحاكمة المُشاركين عن السرقة والقتل ومثل ذلك، وهذا يعني أن قتل شوفين سيكون أسهل ولن يجلُب المشاكل لشيخ القانون أو أتباعِه، خاصة أن أغلب القتلى يموتون في الفِخاخ أو بين مخالب وأنياب الوحوش.

على يمين الشيخ راجو.. وقف شاب طويل في العشرين من عمرِه وله شعر قصير أسود ولديه تعابير باردة، وبجانِبه فتاة في الخامسة عشر تلبس فستاناً أرجوانياً يغطّي كامل جسدِها وتبدو فتاة صالحة ومُحبّة للخير، نظرَت الفتاة نحو الشيخ وقالت

"لماذا أنتَ مهتم بهذا المشلول ؟
لا أعتقد أن لديه شيئاً مفيداً لك"

كان حديثها مع الشيخ راجو أقلّ رسمية من أتباعِه، ما يعني بأن وضعها خاص جداً، ابتسم راجو ونظر نحوَهما ثم قال بِنبرة حكيمة

"المسألة لا تتعلّق بالمكاسِب وإنما بردّ الاعتبار، لقد وقف في وجهي ويجب علي أن أمحوه من هذا العالم، وإذا لم أفعل ذلك فكيف سيخافني الآخرون ؟"

استعاد نظرَه وتنهّد بِحسرة ثم قال

"لكنّه مجرد جبان ولا يخرُج من العشيرة، يبدو بأنه يعرِف مصيرَه جيداً"

نطق الشاب البارد دون أن تتغير ملامِحه

"لا تقلق يا أبي، بِما أنه سيُشارِك في رحلة الصيد فسأهتمّ بِه لأجلِك"

2020/01/11 · 703 مشاهدة · 1298 كلمة
simba
نادي الروايات - 2024