"اِنهض يا فتى"

هذا ما سمِعه شوفين عندما خرج بطريقة غامضة من الجسد الهلامي الذي كان قد ابتلعه منذ وقتٍ غير معلوم، تحامل على نفسه ونظر في الأرجاء لعلّه يرى أين هو، أما الصوت الذي سمِعه فقد اعتقد أنها مُخيّلته فقط، لكنه ومع ذلك كان خائفاًً أن يكون أحد الرجال بالملابس السوداء قريباً منه فتذهب محاولة معلّمته هباءً.

بعد دقيقتين.. استعاد شوفين تركيزه وتأكّد بأنه لا يوجد أحدٌ آخر في الجوار ثم بدأ يبحث عن مخرج، لكن.. وفي هذه اللحظة.. سمع نفس الصوت القديم يقول

"أنت محظوظ يا فتى، لابد أن القدر هو الذي أتى بك إلى هنا"

ارتجف شوفين عندما سمع الصوت مرة أخرى، ليس فقط لأنه صوت غريب ويجعل الروح ترتجف، وإنما بسبب أنه يتحدّث إلى ذهنِه مباشرة وليس مجرد صوتٍ مسموع، التفَت يميناً وشمالاً بذعرٍ قبل أن يصرخ

"من هناك ... من الذي يتحدّث"

أجابه الصوت القديم

"لا تجزع، أنا سببُ قدومِك إلى هنا، لقد كنت أراقبُكم قبل أن تدخلوا إلى كهفي، وممّا أرى فأنت الشخص الذي تم التضحية لأجل نجاته، للأسف.. مُعلّمتك ليسََت في حالٍ جيدة، لكن الأوان لم يفُت بعدُ على إنقاذ حياتِها"

تغيّرت تعابير شوفين بشدّة قبل أن يصرخ

"السلف العظيم.. أرجوك، أنقذ معلّمتي، أنا مستعدٌّ لأفعل أي شيء لأجلِها"

قد يكون شوفين مغروراً ومتكبراً، إلا أنه لن ينسى فضل معلّمته التي ربّته بعناية وصرفت عليه أغلى الموارد، ومع أنه كان يشكّ أحياناًً في غرضها النهائي من تدريبه إلا أن تضحيتها بنفسها لأجل هروبه جعله يعلم أنها كانت تحبّه حقاًً، لذلك سيفعل كل ما يستطيع لإنقاذها

صمت الصوت القديم لبعض الوقت قبل أن يقول

"سيكون عليك إخراجي من هنا إذا أردت مني مساعدتك، لكن الأمر لن يكون سهلاً عليك، هل أنت مستعدٌّ لهذا ؟"

عبس شوفين قليلاً ثم قال بِحزم

"السلف العظيم.. أنا مستعد لأدفع حياتي لأجل مَن أحسن إليّ"

ضحك الصوت القديم طويلاً قبل أن يقول بِنبرة سعيدة

"الوفاء عملة نادرة في هذا العالم البائس، لم أعتقد أنك ستكون وفياً لمعلّمتك إلى هذه الدرجة، حسناً.. أنا لا أريد حياتك، بالعكس.. سأساعدك أنت ومعلّمتك على التقدّم في التدريب مقابل خِدمتي"

اهتزّ قلب شوفين لأنه سبق وسمع عن الحظوظ التي يُصيبها بعض الأشخاص عند فتح ميراث الأسلاف القدماء، ويبدو أن هذا السلف القديم سيعتني به وبِمعلّمته أيضاًً، ابتسم بسعادة وقال

"السلف العظيم.. ما الذي يجب عليّ فِعله ؟"

قال الصوت القديم

"أعداؤك سيصلون إلى هنا بعد بِضع ساعات، اقترِب من العمود الحجري أمامك وضَع يدك عليه ثم أوقِف دِفاعاتِك الروحية والجسدية"

لم يشكّ شوفين ولو قليلاً فيما قاله الصوت القديم لأن الأسلاف أشخاص عاشوا لوقتٍ طويل ومعروفون بالنزاهة، كما أنه لا يملك ما قد يطمع فيه السلف القديم، لذلك سارع إلى العمود الحجري الضخم ووضع يده عليه، ومباشرة.. بدأ يشعر وكأن تياراً حاراً يغزو جسدَه ووَعيه، وقبل أن يسأل.. قال الصوت القديم

"سيستغرق هذا بعض الوقت، أَغلِق عينَيك واسترخِ، سنذهب لإنقاذ مُعلّمتك مباشرة بعد انتهائنا، سأتواصل معها الآن حتى أعطيها بعض الأمل لأنها في حالة مأساوية وتكاد تفارق الحياة"

فعل شوفين ما طلبَه الصوت القديم وشعر براحة غير مألوفة وكأنه قد انسلخ عن هذا العالم، استمرّ هذا لأكثر من نصف ساعة حتى شعر بشيءٍ غريب وكأنه قد انسلخ حقاً عن العالم، عبس وحاوَل استدراك ما يحدث لأن عينَيه صارتا مفتوحتين رغم أنه لم يفتحهما، وقبل أن يُدرك.. كان جسدُه قد بدأ بالحركة دون إذنِه، تغيّرت ملامحُه داخل قلبِه وصرخ، إلا أن فمه لم يتحرّك كما تعوّد دائماًً، وبعد عدّة محاولات.. سمع صوتاً داخل عقلِه يقول

"لقد فصلتُك عن جسدِك واستوليتُ عليه مؤقتاً، بهذه الطريقة سأنقذ معلّمتك، يمكنك الحديث معي عبر التخاطُر الذهني بما أننا في نفس الجسد"

صمت شوفين لوقتٍ طويلٍ، ربما لأنه كان يفكّر في أنه قد خُدِع، أو ربما لم يعرف فقط كيف يتخاطر مع الصوت القديم، وبعد عدّة دقائق.. قال

"السـ.. السلف العظيم، متى ستُرجِع لي جسدي ؟"

ابتسم الصوت القديم باستخدام تعابير جسدِه الجديد ثم قال

"لحسن حظّك أني لا أستطيع قتلك حتى لا أفضح نفسي أمام المراقبة الدورية، لذلك سأبحث لك عن جسدٍ مؤقت، وإذا قرّرت أن تكون خادماًً مطيعاً فسأرجِع لك جسدك بعد ذهابنا إلى القارة العظيمة لأني أملك هناك جسداً آخر أكثر تناسباً معي، وعندما أُرجع لك جسدَك فسيكون جسداً قوياً مُدرباً ومُطوّراًً لأني أملك أساليب تدريب خاصة ستجعل منك أحد أقوى اليافعين في هذا العالم"

صمت شوفين وبدأ يفكّر لأنه أحس بخِداع هذا السلف القديم، لكنّه تنهّد عندما تذكّر حماسََه السابق حيث كان مستعداً لِدفع حياته مقابل حياة معلّمته، لذلك تنهد وقال

"سأصدّقك.. لكن عليك الوفاء بوعدِك وإنقاذ معلّمتي"

ابتسم الصوت القديم وقال

"نحن ذاهبان إليها، لكن.. يجب أن نسلُك طريقاً مختصراً حتى لا نلتقي بأعدائِك، فجسدُك هذا ضعيف جداً ولا أستطيع هزيمتهم باستخدامه"

صمت شوفين لأنه لا يملك أي خيارٍ بعد فقدانه السيطرة على جسده، لم يُحاول استعادة السيطرة لأن هذا الشخص الغريب يتحدث عن الانتقال إلى الأجساد وكأنه أمرٌ طبيعي، لذلك سيكون من العبث المحاولة من الأساس.

استمر الشخص القديم في المشي حتى وصل إلى حفرة نتِنة وكانت مليئة بمادة هلامية رخوة، قفز مباشرة داخلها ثم بدأت تتحرك، رأى شوفين هذا فعلِم بأن الشخص القديم هو الذي جاء به إليه، ما يعني بأن وصولَه إلى العمود الحجري لم يكُن مصادفة، وهذا جعل شوفين قلقاً لأنه كان لعبة في يد غيره منذ البداية، لكن الندم الآن لا ينفع، وكل أمله هو أن يفي الشخص القديم بوعوده.

استمرّ سفر الاثنين داخل الوحش الهلامي الذي يُسيطر عليه الشخص الغريب لأكثر من ساعة، وهذه المرة.. لم ينَم شوفين لأنه كان مشغول البال ويفكّر في هوية هذا الشخص الغريب، وبعد صمتٍ طويلٍ قال

"السلف العظيم.. مَن أنت، ولماذا أتى هؤلاء الأشخاص إلى هنا ؟"

كان الشخص القديم جالساً داخل الوحش الهلامي مُغلق العينين وكأنه نائم، صمت طويلاً قبل الإجابة

"يبدو أن أعداءك قد وجدوا خريطة قديمة واعتقدوا أنه كنزٌ قديم أو إرثٌ لأحد الأسلاف، لكن هذا المكان لا توجد فيه كنوز غير جسدي القديم المتهالِك، حسناً.. لقد أخذتُ أهم الأجزاء منه قبل رحيلنا"

لم يُجِبه عن السؤال الأول وإنما انتقل إلى السؤال الثاني مباشرة، وﻷن شوفين شخص ذكي فقد فهِم بأن الشخص القديم لا يُريد الإفصاح عن هويتِه، لكن الشخص القديم أردف قائلاً

"يمكنك مناداتي ضرغام أو غضنفر، أو ربما سرحان، همممم.. أعتقد أنه ليس جيداً مثل الاسمين الأولين، حسناً.. ماذا عن عُقاب أو شاهين ؟"

أخرج شوفين ضحكة مكتومة قبل أن يقول

"السلف العظيم.. هذه الأسماء قديمة جداً وغير مألوفة، يمكنك استخدام اسمي -شوفين- ريثما تحصل على جسدِك الخاص"

عبس الشخص القديم لبعض الوقت ثم قال بازدراء

"مع أن اسمك مُخنّث مثل شكل جسدك إلا أني سأستخدِمه مؤقتاً، خاصة أني أرغب بالعودة إلى عشيرتِك للاستفادة من مواردِها في الوقت الحالي"

عبس شوفين لأن هذا الشخص مُباشرٌ جداً حيث لا يستحي أن يستغل عشيرة القمر الأحمر لأغراضِه الشخصية، وما أزعج شوفين أكثر هو أنه ربما يكون قد جرّ الويلات على عشيرتِه التي اعتنَت به منذ ولادته، وقبل أن يُدرِك.. كان قد دخل في دوامة تفكيرٍ جديدة دون أن ينتبِه إلى أن الشخص القديم قد قرأ أفكاره وعلِم من خلالها الكثير عن العشائر والأوضاع في الخارج.

استمرّ سفرهُما لساعة أخرى قبل أن يخرُج الشخص القديم من الوحش الهلامي ويقول

"لقد وصلنا إلى معلّمتك، لكن وضعَها أسوأ ممّا كنت أعتقِد"

عبس شوفين وهو ينظر إلى معلّمته التي لم يبقََ من جسدها غير نصفها العلوي بينما تحتضن الفتاة الصغيرة وكأنها تحميها، وبصعوبة.. فتحت المعلمة راموليا عينيها وابتسمت بألم وهي تقول

"أنا سعيدة لِنجاتِك يا شوفين، للأسف.. لقد مات جميع رِفاقِك"

ابتسم الشخص القديم وهو ينظر إليها ثم قال بتعبير غريب

"أستطيع إنقاذك، لكن.. هل أنت مستعدّة لدفع الثمن ؟"

2020/01/08 · 1,170 مشاهدة · 1176 كلمة
simba
نادي الروايات - 2024