مضى أسبوعان آخران على بدء شوفين العمل لِنقل البُحيرة بأكملِها، ومع أن مسألة الطاقة لم تعُد مشكلة الآن إلا أن حجم البُحيرة كان مزعِجاً، لكن شوفين لم يكُن يُضيّع وقتَه هباءً وإنما كان يعمل على المصفوفة ويتدرّب في نفس الوقت، صار خيط النور والظلام يصل الآن إلى مائة متر، ويمكن تقسيمُه إلى عدّة خيوط على حساب طولِه، حيث يكون طول الخيطين خمسين متراً للواحد، وطول الثلاثة خيوط ثلاثين متراً، وهكذا..

لم يكن التحكّم بالخيوط صعباً على شوفين بسبب قوّته الروحية، لكن الأمر سيُصبح أصعب عندما نتحدّث عن ألف خيط، وهذا بالتأكيد ليس شيئاً يقلق عليه في الوقت الحالي، لذلك كان يصبّ باقي اهتِمامِه على تقنية الجسد الخالد وتقنية الألف ظل، واللتَين وصل تدريبُه عليهِما إلى قمّة المستوى الأول.

صار الجسد الخالد أكثر توافقاً من السابق، ويعمل الجسد المعنوي بسرعة أكبر، كما زادت صلابة الجسد المعدني، ومع توفّر الطاقة اللازمة.. بدأت علامات الجسد الهلامي تظهر، لكنّها تحتاج إلى التدرّب جيداً لأن التحوّل إلى هلامٍ قد يُؤثر سلباً على الجسد، لذلك يجب الاعتناء أكثر بالجسد المعدني حتى يتم استخدامُه آلاف المرّات قبل أن ينهار ويُضطرّ إلى استخدام الجسد الهلامي.

صارت سرعتُه الآن أضعاف أي شخصٍ في مستوى تعزيز الجسد، وثلاثة أضعاف متدرّبي مستوى تقوية الروح على الأقل، وربما أسرع من بعض متدرّبي مستوى تهئية الوعاء، ورغم أن هذا لا يزال أبعد من هدفِه إلا أنه يستطيع التعويض عبر استخدام النسخة شبه الأصل لِتشتيت العدو، حيث صار الآن يستطيع تكوين نسخةٍ شبيهة به اعتماداً على تقنية الألف ظل.

بسبب جمود راموليا في تدريبِها.. نصحها شوفين بالتركيز على تقنية طُغيان النار والجليد لأنها ستكون كافية بالنسبة لها حيث توفّر الدفاع والهجوم والسرعة، ومع أن سرعتَها تعتمِد على الاندماج مع الجليد والنار واستخدامهِما للانتقال.. إلا أنها تُعتَبر تقنية قوية ومُربِكة للعدو، لذلك لم يُعطِها أيَّ تقنية للسرعة حتى تركّز على التقنية الأصلية.

أثناء انشغال شوفين.. كانت راموليا تحقِن السموم باستمرار في نِطاقِها، وصارت مناعتُها الآن أكبر من السابق بأضعاف، كما صار تأثيرها على الخصم أفضل، أما ريكو فقد دخل في حالة تأمل تشبه النوم حيث كان صعباً عليه فهم الروح بسبب جسد الوحش الخاص به، ومع أن شوفين يستطيع مساعدتَه إلا أن الوقت لم يكن مناسباً الآن لأنه كان يركز على تدريبِه الشخصي أكثر من تدريب رِفاقه، وكانت هالتُه لا تزال في مستوى تقوية الروح بسبب اتساع نطاقِه واندماجِه مع عالمِه الفراغي، ومع ذلك فهو يستطيع الضغط على متدربي تهيئة النطاق.

...

خارج الفراغ.. اجتمع كبار العشائر ونصّبت كل عشيرة مُعسكرَها الخاص، وقد أحضَرت كل عشيرة أقوى مُقاتليها لِفرض هيمنتِهم بِغرض الحصول على السلاح السفلي، لكن الغريب هو أن القصر الحاكم لم يأت بعد، وهذا جعل العشائر في دهشةٍ مِن أمرِها وبدأت تتساءَل ما إذا كان القصر الحاكم لا يملِك القوة لِفرض رأيِه أيضاً في مثل هذه القضية الحساسة، أو أنه ربما كان يُعاني من بعض المشاكل الداخلية، لذلك قرّروا بدء المناقشات حول تلاميذ عشيرة القمر الأحمر.

تحت ضغط القِوى المجتمعة.. ابتلَع رئيس عشيرة القمر الأحمر ريقَه وهو يقول بينما يقِف في خيمة الاجتماع

"كما أخبرتُ الجميع.. شوفين لم يعُد جزءً من عشيرتنا منذ هاجم زملاءَه، لذلك نحن لن نحميه، بل على العكس.. نحن أيضاً سنقوم بِمطاردتِه عندما يخرُج"

عقّب عليه باريمآن من وادي الرياح

"وماذا عن التلميذة سويكا ؟"

عبس الرئيس ونظر نحو الشيخ راجو، همهم راجو ثم قال

"سويكا هي تابعتي، وأنا أضمن لكم بأنها لا علاقة لها مع شوفين، اسمحوا لي بِالحديث معها حتى أتبيّن منها حقيقة ما حدث، أما حجزُها دون دليل فهذا لن يوصِلنا إلى الحقيقة"

كانت سويكا محجوزة منذ خروجِها ولم يُسمح لأحدٍ بالحديث معها، والآن.. بِما أن الجميع حاضر فقد كان من الغريب ألا يُسمح لِسيّدها أن يتحدث معها، لذلك قال أحد شيوخ العشائر الأقوى الثلاث

"بِما أنك سيدُها فلديك الحق لِزيارة واحدة، لكن.. لا تُحاوِل تهريبَها أو حثّها على القيام بشيءٍ غبي"

أومأ راجو باحترامٍ ثم جلس وواصل الاجتماعُ النقاشَ حول شوفين وطريقة حصولِه على السلاح السفلي، وكان تفكير الجميع يسير في اتجاهٍ واحد وهو الكهف الذي قُتِل فيه المئات قبل بضعة أشهُر، وكانت العشائر القريبة منه قد أرسلت رِجالها لكنها تكبّدت الكثير من الخسائر بسبب العدد الهائل من الوحوش القوية في ذلك الكهف، وما جعلَها تتراجع عنه هو أنها لم تحصُل على أية كنوز رغم الخسائر، لذلك تركَت كل عشيرة مجموعةً من الحراس قرب الكهف ومنعوا الدخول إليه.

وحسب ما يبدو فقد كانت خطتهم الآن هي انتظار شوفين لِسؤاله عن مكان الكنوز، وبعدَها سيقومون بتنظيم حملات جديدة لاستكشاف الكهف، وهذه المرة ستكون العشائر القوية الثلاث في المقدّمة.

انتهى الاجتماع وسُمِح للشيخ راجو باللقاء مع تابِعته لِوحدِهما، دخل عليها ووَجدها في حالة بائسة بِسبب منع معارِفها عنها، وعندما رأت الشيخ راجو.. لم تعلم إن كان عليها الفرح أم القلق، وهذا التناقض في عواطفها قد حدث بعد حديثها مع شوفين، ورغم عِلمها بأن شوفين هو السبب الأكبر لِما حدث لها إلا أنها لم تلُمه لأنه لم يقصِد إيذاءَها.

اقترَب منها راجو بابتسامةٍ باهتة وجلس قُربها ثم قال بِنبرة عاطفية

"كيف وصل حالُكِ إلى هذا يا عزيزتي ؟"

تغيّرت تعابيرُها فجأة عندما ناداها "عزيزتي"، وذلك لأنه لم يستخدِم مثل هذه العبارات معها من قبل، ارتجفت داخلياً وشعرَت أن شيئاً ما ليس في محلّه، وهذا ما اتّضح عندما مدّ راجو يدَه وأمسك يدَها الرقيقة ثم قال

"لا تخافي من أي شيء، أنا سأحميك بِحياتي إذا استلزم الأمر"

توقّف تفكِيرها في هذه اللحظة على شيء واحدٍ فقط، وهو ما قاله شوفين لها، ومنذ متى كان الشيخ راجو يجعل حياة غيرِه أفضل من حياتِه الشخصية ؟

شعر راجو باضطرابِها وكان سيتراجع قليلاً، لأنه كان قد خطّط للاقتراب منها تدريجياً ثم مصارحتُها عندما تبلغ الخامسة والعشرين حتى لا تشعُر بالنفور بسبب الفارِق في العمر، إلا أنه قرّر المجازفة واستغلال هذه الفرصة حيث لم يعُد أحدٌ يقِف في صفّها الآن، لذلك ضغط على يدِها وقال بِنبرة مليئة بالقلق المُصطنع

"حالتك أصعب بكثير ممّا تعتقدين، فهُم يعتقدون بأنك شريكة في الجريمة ويرغبون بأخذِك إلى عشائرِهم وتعذيبِك حتى تُخبريهم عن المكان الذي وجد فيه شوفين كنوزَه، حتى عشيرتُنا مستعدة للتضحية بك تفادياً للمشاكل"

صمت قليلاً بينما يراقب ملامِح وجهِها الجميل قبل أن يقول بِنبرة تميل إلى الانحراف

"لكني لن أسمح لأحد أن يأخُذك مني، أنت.. ربما لم تُلاحظي هذا لأنك صغيرة، لكن ... أنا ... أ - عـ - ـشـ- ـقـ - ـك"

وآآآآآآآآآآآآآآه~

صرخت في قلبِها بأعلى ما يُمكن، وشعرَت بِعجزٍ لا مثيل له بعد أن نزَلت عليها حروف الكلمة الأخيرة وكأنها سكاكين تخترِق قلبها النقي، لكنّها لم تُبدِ أي شيء مِن هذا وإنما طأطأت رأسها أرضاً ولم تنبِس بِكلمة واحدة.

ابتسم الشيخ راجو عندما لم تنتفِض عليه أو تصرخ في وجهِه، وكانت هذه أولى علامات القبول، لكنّه لم يُلاحظ الدماء على شفتِها السفلى حيث قامت بِعضّها دون شعور، سحب يدَه ووقف وكأنه شخصٌ مستقيم، استدار وقال

"تذكّري بأني سأفعل المستحيل لأجلك، هذا.. لأني لن أترك أي شيء يحدُث لِامرأتي"

قال هذا ثم خرج لأنه لا يُريد الضغط عليها كثيراً، أما قضيتُها فليست كبيرة كما تبدو، حيث لا توجد أي أدلة ضدّها كما أنها لا تزال طفلة صغيرة ويمكن التساهُل معها، وعندما يُعيدُها معه.. سيقضي بِضع سنواتٍ في تليِينها حتى تقع له.

بقيَت سويكا في مكانِها لوقتٍ طويل بعد خروجِه، وقد كانت الصدمة أكبر ممّا تخيّلته مع أنها كانت تشكّ في الأمر، وكانت أصلاً قد عادت حتى تكتشِف حقيقة شكوكِها، لكنّها ظنّت أن الأمر سيأخُذ على الأقل بِضع سنوات، لذلك كان حدوثُه بِهذه السرعة صادماً جداً، خاصة لِفتاة في عمر الخامسة عشر من عمرها، وعندما نقول في الخامسة عشر فنحن نعني بأنها قد عاشت خمس سنواتٍ فقط، لذلك كان عقلُها غير ناضج لِدرجة أنها لن تستحمِل عُشر مزاح شوفين مع راموليا العجوز والخبيرة في شؤون الحياة.

استرخَت قليلاً ورفعَت رأسها لِأعلى ثم قالت في نفسها والدموع تنهمِر على وجنتَيها

'شوفين ... هل سأحصل على فرصة أخرى ؟'

...

داخل العالم الفراغي الخاص بشوفين، كان الجميع واقفين على المنصة وينظرون إلى البحيرة العملاقة التي قام شوفين بإدخالِها باستخدام مصفوفة مكانية عظيمة، وعملية النقل هذه قد صرفَت خمسة في المائة من طاقة الوريد الروحي، لكن هذا لا يهم لأن المتبقي سيكون كافياً لوقتٍ طويل جداً، ومع أن شوفين ورِفاقه لن يعتمدوا عليه بعد اختِراقهم من "مرحلة التألق" نحو "مرحلة المجال" بسبب نوعية الطاقة التي سيحتاجون إليها في ذلك الوقت، إلا أن غرض شوفين من الوريد هو إعادة عالمِه إلى ما كان عليه في السابق.

لكن شوفين يعلم بأن هذا الوريد ليس كافياً لإنعاش عالمِه، لذلك قرّر أن يُصلح مساحة محدودة فقط، وهذه المساحة لا تتجاوز دائرة نصف قطرها عشرة أميال.

ظهرت البحيرة قرب المنصّة الحجرية حيث توجد الشعلة البيضاء، نظر إليها شوفين لبعض الوقت قبل أن يُخرِج قطعة صغيرة جداً من طحلب الانبعاث، وهو الطحلب الذي اشتراه له واريان من المزاد، وكان قد ترك قطعة منه للبحث عن طريقة لِزراعتِه، والوريد الروحي هو أفضل مكانٍ لِجعلِه ينمو بسرعة حيث يُعتبر هذا الطحلب بطيئاً في النمو، وبما أنه داخل الوريد الروحي فستكون سُرعة نموّه خيالية، ابتسم وهو ينظُر إليه يغوص إلى قاع البحيرة، وبِحركة خفيفة مِن يدِه.. اختفت البُحيرة تحت المنصة على عمقٍ كبير، وكان غرسُها في الأرض أسهل بِكثيرٍ من نقلِها لأن هذا هو عالمُه الخاص ويستطيع التحكّم في جميع أرجائه بسهولة.

بعدها.. تعاوَن شوفين وراموليا وأرفود على إنشاء العديد من القنوات من الوريد الروحي وربطِها بِالمنصة حتى صارت تُطلِق هالة قوية، يمكن للمتدرّب هنا أن يزداد تدريبُه بِسرعة كبيرة لِأن القنوات التي تم إنشاؤها كانت تُخرِج طاقة قوية على الدوام، وهذا حتى تندمِج مع الهواء ويعود العالم إلى الحياة من جديد، وبعد هذه الخطوة.. سيقوم أرفود بإنشاء العديد من القنوات الأخرى إلى أطراف الدائرة التي حدّدها له شوفين، لكن هذا لن يتمّ في يوم وليلة، خاصة أن أرفود ليس في كامل قوتِه.

انتهت مهمّة شوفين في الفراغ ولم يتبقَّ له غير الخروج، وكان في الأصل يرغب في جمع بعض الأعشاب الطبية وزرعِها، وربما حتى إدخال بعض الوحوش إلى عالمِه، لكنه تراجع عن هذه الفكرة بسبب الجودة الضعيفة للأعشاب والوحوش في هذا الفراغ، لذلك قرّر أن يُركّز على التدريب لِبعض الوقت قبل الخروج لأنه يعلم بِالمشكلة التي قام بالتسبّب فيها، لذلك سيستعدّ أولاً ثم يخرُج.

بعد شهر آخر.. وقف شوفين وقال لِراموليا

"سأخرج من الفراغ لِوحدي"

كان قد طوّر تقنياتِه حتى توقّف التقدّم بِسبب قلة المحفّزات الطبّية، لذلك لا يوجد أي داعٍ لِتضيِيع الوقت هنا، أخذ شهقاً عميقاً ثم تقدّم خطوة إلى الأمام قبل أن يختفي.

--------------
معلومة سريعة:
التعليق والإعجاب يزيد من عدد الفصول وجودتِها

2020/01/13 · 652 مشاهدة · 1619 كلمة
simba
نادي الروايات - 2024