قديسة، ملك، بطل
بملعب كرة السلة، الذي أصبح معسكر الملاذ، كان الجنود يتدربون مع بعضهم البعض. وقد انقسمت تدريباتهم إلى نوعين: الأول هو التدريب على الفنون القتالية بالأسلحة الباردة مثل السيوف والرماح، والثاني هو التدريب على القتال الحديث بالأسلحة النارية.
دخل فيكتور الساحة وخلفه الجنرال إدوارد والمستشار الجديد تيموثي، مما أربك مدرب الجنود جون، فذهب بسرعة لتحية فيكتور وسؤاله عن سبب قدومه إلى هنا.
بالطبع كانت لوسييل بجانبه كالعادة، بل كانت تمسك يده رغماً عنه أيضاً، لذا تجاهلها فيكتور طوال الطريق وقال لجون: "لا تقلق، فأنا هنا فقط لتجربة شيء ما، وهؤلاء الثلاثة معي مجرد متفرجين".
جعل فيكتور الفتاة الشقية تتركه، ثم ذهب إلى منتصف الساحة بعد أن أمر جون الجميع بأخذ استراحة لإفساح المجال للقائد، وقد زاد هذا من عدد المتفرجين من ثلاثة إلى جميع من في المعسكر.
بدأ فيكتور بتمديد جسده كما لو كان يستعد لتدريبات مكثفة، وما سيجربه هو تقنيته السحرية.
السبب في ذلك هو أن معدل تطوره ازداد بشكل كبير بفضل لحوم "آكل الجبال"، كما سُميت الدودة العملاقة.
وقد كان متأكدًا أن كفاءته في تحويل الطاقة اللازمة للقيام بالتقنية قد ازدادت، كما ازدادت قدرة خلاياه على تخزينها.
لذا، كان واثقًا أن استهلاك الطاقة لم يعد مجنون كما كان سابقًا. ثم، بعد أن وقف بثبات، بدأت الفواصل بين حراشفه تتوهج بلون أزرق، مما جعل جميع من تمتموا اثناء الانتظار يصمتون في ترقب لما سيحدث.
بعدها بدأ الوهج الأزرق بالتغير إلى أبيض، كما بدأت شرارات كهربائية بيضاء تظهر بين حراشفه.
بمجرد رؤية ذلك اتسعت أعين الجنود وهم يفكرون إلى أي مدى وصلت شدة الكهرباء التي يستطيع إنتاجها.
وبابتسامة هادئة، بل في الواقع كان مستمتعًا وهو يفكر بما سيكون رد فعل الرجال بعد قليل، رفع فيكتور يده اليمنى إلى الأعلى وأشار فوقه، بينما لوّح أمامه بيده اليسرى بقوة.
عندها، بدأت السيوف والرماح المعدنية الموضوعة على حاملات الأسلحة الخشبية بالارتجاف، ثم الطفو لأعلى ببطء في البداية قبل أن التسارع اثناء التحليق والدوران فوق فيكتور لتشكيل دائرة.
فتح الجميع أفواههم بلا استثناء من المشهد العبثي، ولم يصدق أحد ما يرونه الآن. حتى لوسييل التي وثقت بمعرفة كل شيء عن زوجها بفضل اسئلتها المتكررة له لم تستطع التفكير في مبدأ علمي يفسر سبب تحليق الأسلحة فوقه، وكأنه فنان قتالي صيني.
وضع فيكتور يده اليسرى خلف ظهره، وأنزل يده اليمنى وشبكها بقبضة أمام وجهه، بينما رفع السبابة والوسطى إلى الأعلى كما لو كان يقوم بتعويذة ما، ثم قال: "فنون الألف سيف والألف رمح الإمبراطورية".
بمجرد أن انها فيكتور كلامه، توقفت جميع الأسلحة المعدنية عن الدوران في لحظة واحدة دون أن تحتاج للتباطؤ، ثم وجهت جميعها حوافها إلى دمية تدريب مسكينة أمام فيكتور، وانطلقت كقذائف مدفع الواحد تلو الآخر على الدمية لتتحول إلى خردة.
رؤية القوة الخارقة امامهم جعلت الجميع ينظرون إلى فيكتور بكفر، وأول ما فكروا به هو خالد من عالم الفنون القتالية ماعدا الطفلة التي لا تعلم ذلك.
تنهد فيكتور بينما عادت حراشفه إلى طبيعتها، ثم نظر حوله ورؤية الكفر في عيون الجميع بلا استثناء جعله لا يقاوم لفترة طويلة قبل الانفجار بالضحك عليهم وقال بمرح وسخرية: "حقاً؟ ألا يوجد شخص واحد يمكنه التعرف على تأثير القوة المغناطيسية على المعادن؟ أسلحتكم تعمل بنفس المبدأ أيها الحمقى".
ذهل الجميع مجددًا، لكن هذه المرة من مدى غبائهم بسبب عدم إدراكهم لما يحدث. فجميعهم من عصر ما قبل الكارثة، وقد درسوا خواص المجال المغناطيسي حتى بكوا من صعوبته بصغرهم، هذا غير أن مسدساتهم جميعًا تعمل بنفس مبدأ تحريك المعدن بالمجال المغناطيسي، لذا كان من الغريب ألا يدرك أي واحد منهم مبدأ عمل قدرته.
"مهلا زوجي، أنا لا أعلم كيف تعمل الأسلحة"، قالت لوسييل بغضب على كلمات فيكتور.
وكانت على حق، إذ وُلدت بعد الكارثة، لذا لم تحصل على تعليم أساسي جيد. ومجرد قدرتها على القراءة كان يستحق التقدير.
كما أن معظم معرفتها كانت تقتصر على مجالي الكيمياء والأحياء بسبب طبيعة التجارب التي كانت تجريها مع فيكتور. ويمكن القول إن معرفتها بالفيزياء معدومة.
ذهب فيكتور إلى لوسييل وداعب شعرها بينما قال بهدوء: "إذاً اسألي مارجريت، فهي معلمتك كما تعلمين".
بدون انتظار رد من الطفلة الغاضبة، بما أنه يعلم ردها بالفعل، غادر بهدوء وأتبعه إدوارد وتيموثي.
"لكني أريدك أن تعلمني، زوجي"، لم تستطع لوسييل سوى التمتمة بحزن عند رؤية فيكتور يغادر، وأدركت أنه فعل ذلك تجنباً لطلبها، لذا ضاقت عيناها على ظهره المبتعد وبدأت بالتخطيط لكيفية الحصول على ما ترغب به من زوجها كالعادة.
أثناء التوجه إلى مكتبه، سأل فيكتور الرجل على جانبه الأيمن بفضول: "كيف تسير رحلة الجنوب؟". مباشرةً وبدون تردد رد إدوارد بثقة وجدية على فيكتور: "كل شيء يسير بسلاسة، سيدي، فقد أرسلت فريقي الصيد بيتا وديلتا بشاحنة محملة بالموارد لبناء معسكر قرية الجنوب، بينما سيكمل أحد الفريقين السير إلى مدينة القمة الفضية".
أومأ فيكتور بتقدير، ثم نظر إلى يساره وسأل تيموثي: "ماذا عن تربية الدجاج؟ هل استثمار مواردنا في تربيتهم يعطي عوائد تستحق؟".
كما فعل إدوارد، أجاب تيموثي، لكنه لم يستطع إخفاء الحماس في لهجته: "العوائد رائعة، سيد فيكتور! يمكن للدجاجة الواحدة وضع أربع بيضات يوميًا في المتوسط، وطعامهم يمكن أن يكون أي شيء عضوي، وحتى الأشياء مثل الثمار الفاسدة وجثث الزومبي لا تؤثر على جودة لحومهم أو بيضهم، بل فقط تقلل عدد البيض إلى حوالي بيضتين. ومع امتلاكنا لخمسين دجاجة، فمزرعة الدجاج وحدها تكفي لإطعام معظم الناجين دون الحاجة لمصادر طعام أخرى".
بمجرد الدخول توجه فيكتور الى مكتبه المريح وجلس ليتصفح تقارير الأقسام المختلفة، ويحدد نسبة استثمار لكل قسم حسب عوائده واحتياجاتهم الحالية.
وكان يقوم بهذا الإجراء كل شهر للتأكد من عدم إهدار أي موارد، إذ ما زالوا في مرحلة النهب من البلدة ولا يمكنهم إنتاج معظم هذه الموارد في الوقت الحالي.
مر الوقت، وأتت لوسييل لإزعاج زوجها الحبيب كالعادة. يبدو أن خطتها هذه المرة هي الإلحاح المتكرر حتى يستسلم فيكتور ويوافق، وكانت هذه أكثر خطة تستخدمها لأنها دائمًا ما تنجح.
"بوم!".
"كيااا!"، فجأة فُتح باب المكتب بقوة، مما أفزع لوسييل الجالسة على المكتب امام فيكتور، فاستغلت الفرصة وقفزت في حضن زوجها الآمن والدافئ.
دخل ستة أشخاص غرباء بملامح أجنبية، وصرخ أحدهم بغضب وخوف: "هل تجيد اللغة الصينية؟!".
دخل إدوارد بسرعة خلفهم ومعه مسدس وجّهه نحو الأشخاص الستة، وصاح بغضب: "أيها اللعينون! كيف تجرؤون على استغلال طيبة قلبي للهروب؟!".
رفع الجميع أيديهم في الهواء برعب عند رؤية المسدس، وقالت المرأة الوحيدة بين الستة: "اللعنة عليك، لو شيو! بسببك أغضبنا أحد الجنود".
"إذاً، فما تفعلونه هو خطة هذا الأحمق المدعو لو شيو، أليس كذلك؟ فهمت"، تحدث فيكتور بلغتهم الأشخاص الستة والتي هي الصينية، مما جعل الجميع ينظرون إليه بذهول، بما فيهم لوسييل وإدوارد اللذان لم يفهما كلمة واحدة مما قاله.
"أخيرًا، شخص يمكنه التحدث بلغتنا، حتى لو كان شيطانًا! مهلاً، لماذا تبدو هكذا؟ هل أنت متحوِّل؟"، قالت المرأة الصينية بسرور بعد أن تحررت من ذهولها الأولي، لكن سرورها لم يدم كثيرا قبل التحوّل إلى فضول وقلق بسبب الشكل غير البشري للرجل أمامها.
رفع فيكتور حاجبه من سؤال المرأة، ومن ملاحظته لطريقة كلامها وملامحها، بدا أنها كانت على معرفة شخصية بأحد هؤلاء المتحولين.
لكن هذا لم يذهله، فمن خلال سجلاته عن المشروع الذي أنتجه، علم أن مشروعه كان مشابه في المبدأ لنوع خاص من الامصال تدعى مصل التحول، الذي كان الخطوة الأول نحو تطوير البشر للتكيف مع الظروف القاسية على الكواكب المختلفة باستخدام مميزات الحيوانات المختلفة.
ومع ذلك، كان للمصل آثار جانبية، مثل نمو فرو أو حراشف حيوانية لتغطي الجسد بالكامل، أو ظهور ذيل ،أو أذنين حيوانيتين، وأحيانًا حصول الشخص على جميع هذه الصفات ليصبح جسده أقرب للحيوان.
تنهد فيكتور وشرح لهم حقيقته كسايبورغ، بينما طلب من إدوارد المغادرة وجعل المطبخ يرسل مشروب لضيافتهم.
كالعادة، كان للشاي تأثير سحري جعل الصينيين الستة يسكبون كل معرفتهم لفيكتور بمجرد طرحه لبضع أسئلة، ولذا أستمع بمهل وهو يداعب شعر لوسييل التي نامت غير قادرة على فهم كلمة واحدة من المحادثة الصينية.
سبب عدم امتلاك أي شخص منهم القدرة على التحدث بالإنجليزية هو سماعات الدبلجة، التي كان معظم البشر يمتلكونها قبل الكارثة.
كانت هذه الأداة الصغيرة تُرتدى حول الأذن كالسماعات المخصصة للصم، وتعمل على دبلجة أي لغة إلى اللغة الأم للمرتدي، مع الحفاظ على القافية واللهجة وحتى المشاعر بنبرة الصوت.
كانت الدبلجة دقيقة لدرجة أن مرتديها، إذا لم ينظر إلى حركة شفاه المتحدث، لن يدرك أن ما يسمعه صادر عن دبلجة الجهاز.
لهذا السبب، فقدت دراسة اللغات الأخرى أهميتها، بل إن العديد من الدول أزالتها من مناهجها الدراسية لصالح زيادة التركيز على المواد العلمية.
أما عن قصة هؤلاء الستة، فقد كانوا أجانب قدموا من الصين في رحلة عمل. وأثناء إقامتهم في الفندق بجوار محطة البنزين في الجنوب، مع العديد من الأجانب الآخرين، وقعت الكارثة.
ومع نفاد بطاريات أجهزتهم، فقدوا القدرة على التواصل مع الآخرين بسبب توقف سماعات الدبلجة عن العمل وعدم قدرتهم على تحدث الانجليزية.
رغم ذلك توجهوا إلى مدينة القمة الفضية بحثًا عن ملجأ يؤويهم، لكن كل ما وجدوه كان الموت واليأس.
ومع مرور الوقت وارتفاع مستوى الإشعاع بسرعة، مات أصحاب الأجساد الضعيفة واحدًا تلو الآخر خلال الأيام الأولى.
ومع انتشار الفيروس الذي طور أجساد الناجين للتكيف مع الإشعاع، نهضت الجثث بالمقابل كزومبي.
وكأنها مدفوعة بالغيرة، بدأ الأموات بمهاجمة الأحياء، أكلهم، وتحويلهم إلى جثث متحركة.
وهكذا تحولت المدينة، التي كانت يومًا ما مأهولة بعشرات الملايين، إلى مدينة أشباح يسكنها الأموات.
رغم كل هذا اليأس، كان هناك من استغلوا الفرص للنهوض من الرماد كنيران تجلب الأمل لمن يرغب.
وبمدينة القمة الفضية، برز ثلاثة ناجين أصبحوا معروفين الآن بـ"قديسة النور"، و"ملك الحرب"، و"بطل النار"، وكل واحد منهم يحكم مستعمرة تضم مئات الناجين.
بالنسبة لقديسة النور، فلم يعلموا كيف، لكن بعد بضعة أيام من بداية الكارثة ظهرت امرأة استطاعت بشكل غريب ثقب الغيوم الإشعاعية الكثيفة لينزل ضوء الشمس على الأرضي المتجمدة والتي بعد ذلك أصبحت مستعمرتها، مما أكسبها لقبها وجعل أكثر من ستمئة ناجٍ يتبعونها كما لو كانت قديسة حقيقية تتبع وحيًا إلهيًا.
بالنسبة لملك الحرب، فقبل الكارثة كان من عشاق الأسلحة تحديدًا التي تعمل بالبارود. وبسبب قانون حظر الأسلحة الذي فُرض على العالم أجمع، كان من أكبر المعارضين لدرجة أنه بدأ في إنتاج وتجارة الأسلحة البارودية.
ومع بداية الكارثة، امتلك ترسانة من الأسلحة التي تكفي لإعداد جيش، بالإضافة إلى العديد من رجال العصابات تحت رايته، لذا كان من السهل عليه بناء مستعمرة ليصبح دكتاتورًا.
وهذا شيء طبيعي كونه رجل عصابة سابقًا. ورغم ما يفعله من أخذ النساء والطعام له ولأتباعه من باقي الناجين كرسوم حماية، فبفضل كون مستعمرته مبنية في ميناء المدينة ذو الأسوار المعدنية، ومع توفر الأسماك المتطورة في المحيط، لم يكن أمام الناجين سوى اختيار الذل والخضوع للديكتاتور وأعوانه مما جعل عدد الناجين بمستعمرته يصل لحوالي الثلاثمئة ومنهم فقط خمسون رجل هم اتباعه ومن يمتلكون الاسلحة.
أخيرًا يأتي بطل النار، الذي كان من عشاق المبارزة باستخدام السيوف قبل الكارثة. ولكن لم يكن هذا كافيًا لاكتساب مكانة مساوية للقديسة والملك.
سيفه الذي يستخدمه لم يكن سيفًا عاديًا بالواقع؛ بل سيفًا بقدرات خارقة جعله شخصية غامضة مثل القديسة وبطلًا لا يُقهر.
حتى أسلحة ملك الحرب لا يمكنها خدشه هو وسيفه، والأغرب أنه أعطى للعديد من أتباعه الموثوقين سيوفًا مماثلة لما معه فيما يعرف بتقوس الفروسية ليصبحوا فرسان النار ويؤسسوا مستعمرة خاصة بهم يصل عدد الناجين فيها لحوالي مئتي ناجٍ بسبب نقص الموارد والطعام والامل مقارنه بالمستعمرتين الآخرتين.
لم تكن هذه المستعمرات الثلاثة هي الوحيدة التي سكنها الناجون، فالنقص في الغذاء لم يكن شيئًا يمكن للبارود والنور والسيوف حله، مما جعل جميع المستعمرات الثلاث تدخل في حالة تشبع سكاني، رغم أن عدد الناجين بها لم يكن سوى نصف الناجين في المدينة.
والأخرين أصبح مصيرهم هو فئران تقتات على أي بقايا يعثرون عليها ويهربون من جنود المستعمرات الثلاث الذين لن يترددوا بالقضاء عليهم بمجرد رؤيتهم كما الهروب من الفئران الأخرى التي ستحاول قتلهم إذا سنحت الفرصة.
أما هؤلاء الأجانب كانوا من أحد فصائل الفئران بسبب عدم قدرتهم على التواصل، وكان مخبؤهم في الفندق خارج المدينة.