قصر أودجين – باريس
23:00..........
ليس قصرًا من زمن ماضٍ ولا عتيقًا متشققًا تعلوه الأعشاب كما في حكايات النبلاء الساقطة…
بل هو صرح حديث، بُني قبل سبع سنوات فقط، على أنقاض ثكنة عسكرية فرنسية كانت تُستخدم لتعذيب الفيتناميين في القرن الماضي…
قصر من زجاج وعصب، من تكنولوجيا وهندسة مستحيلة.
لكنه في الداخل… لا يشبه الأرض.
الطابق الأعلى، قاعة واحدة، لا يُسمح لأحد بدخولها دون إذن إيفا.
تُسمى "قاعة الكتمان".
طولها مئة متر،
عرضها مئة متر،
لكنك ما إن تطأ أرضها حتى تشعر أنك ضئيل، صغير،
لا لأن السقف عالٍ… بل لأنه لا يُرى.
ضوءٌ غريب يملأ المكان.
ليس نهارًا ولا كهرباء، بل نوع من التوهج الخام، كأنك واقف في حلمٍ حارق.
لون الضوء بين الأزرق القاتم والرمادي… كأنه صادر عن ضمير مريض.
في قلب القاعة، كرسي واحد.
ليس عرشًا ملكيًّا، ولا أريكة، بل شيءٌ يبدو كجهاز طبي مقلوب، مركّب من الحديد الأسود والنُحاس المصقول، ملفوف بكابلات تحاكي أوردة الإنسان.
يجلس عليه جسد امرأة.
جسد، لا يتحرك كثيرًا، لكنه ليس ساكنًا أيضًا.
كأن كل ذرة فيه تتحرك بسرعة تفوق البصر.
كلّ من ينظر إليها يشعر أن قلبه يبطئ، ثم يسرع، ثم يتوقف لحظة… قبل أن يعود.
إيفا، الرأس الأعلى لعائلة أودجين.
شعرها يتدلّى مثل خيوط الظلام.
بشرتها بيضاء حدّ المرض.
عيناها لا تلمع، بل تسحب النور من حولها.
كأن من يحدّق فيهما طويلاً… ينسى شيئًا مهمًّا من ماضيه.
الجدران ليست حجرًا ولا خشبًا، بل معدن حيّ، يشبه نسيجًا نابضًا، يتلوى ببطء كأمعاء عملاقة.
كل حين تسمع همسًا…
صوت امرأة تقول "لا، لا تأخذني"،
صوت طفل يبكي دون صوت،
وصوت آخر… يشبه تنفسك حين تغرق.
كل هذا ليس هلوسة.
في قاعة الكتمان، لا توجد هلوسة.
كل شيء حقيقي.
حتى الأشباح التي تمر أمامك من زاوية عينك…
إن نظرت إليها مباشرة، توقفت.
وإن تجاهلتها، اقتربت أكثر.
الهواء… ثقيل.
كأنك تتنفس ذاكرة مقبرة.
روائح كثيرة تسكنه:
عطر ياسمين،
رائحة جلد محترق،
ولمسات خفية من الحديد القديم.
الأرضية ملساء لكنها غير ثابتة.
أحيانًا، تشعر أن الأرض تنبض،
وأحيانًا، تسمع تحتها ضحكات نساءٍ بُترت أصواتهن في حفلات أودجين الخاصة.
في الجهة الشرقية من القاعة، جدار كامل يتحرّك كأنه ستارة من الرماد، يُظهر وجوهًا تطفو للحظات ثم تختفي.
وجوه مألوفة… لمن لديه ماضٍ قذر.
في الجهة الغربية، مرآة واحدة.
طولها عشرون مترًا.
لكن لا تنعكس فيها صور.
بل إذا نظرت… ترى نفسك كما كنت قبل أن تخطئ تلك الخطوة الأولى في حياتك.
الخطوة التي لم تعترف بها لأحد.
لا توجد مقاعد أخرى، لا طاولات، لا خدم.
فقط كائنات تمرّ.
بعضها بلا رأس،
بعضها يعبر الجدار كما الماء،
وبعضها… يُشعرك أنه يعرفك، حتى لو لم تره من قبل.
وفي أعلى القاعة، على السقف الذي لا يُرى،
هناك ساعة.
لكنها لا تُصدر صوتًا.
تُصدر… نَبْرة.
كل دقيقة، تصدر همسة بلغة غير بشرية.
لغة لا تُفهم… لكن كل من يسمعها، يشعر بالبرد في قلبه، كأنها تذكرة أن الوقت لا يُقاس هنا بالدقائق، بل بالأفعال التي لا تُغتفر.
إيفا لا تتحدث، ولا تتحرك.
كأنها تنتظر شيئًا.
تجلس بصبر.
الزمن يدور حولها كما الأقمار حول ثقب أسود.
في هذا المكان، لا تموت الأرواح…
بل تُحفظ.
كما تُحفظ المخللات في جرار الخل، تُحفَظ الأرواح هنا داخل الجدران المعدنية الحية،
تنكمش، ثم تتمدد، ثم تنهار كأكياس جلد فارغة تصرخ دون حبال صوتية.
وجوههم تظهر في الجدار كل دقيقة،
بعضها نصف محروق،
بعضها مقلوب من الداخل إلى الخارج،
بعضها مجرد عيون…
تدور، تبحث عن صاحبها.
الصرخات ليست بشرية.
هي ليست صوتًا يسمع…
بل إحساسٌ يُبث إلى دماغك مباشرة.
تشعر فجأة أنك تغرق،
ثم كأنك تُسحب من أنفك بأظافر صدئة،
ثم تتذكر كل مرة ظلمت فيها أحدًا…
لكن في جسد غير جسدك.
كأن كل روح هناك تتلبسك لحظة، وتريك لحظة موتها.
مئات اللحظات.
في وقت واحد.
هناك من يصرخون لأنهم لم يموتوا بعد.
نُزعَت قلوبهم، ولكنهم ظلّوا هنا،
يُعاد تشريحهم مرارًا… في الذاكرة، لا في الجسد.
وهناك من يصمتون.
لا لأنهم أقوياء… بل لأن أصواتهم بيعت في صفقة منذ سنوات.
أصواتهم تُستخدم الآن لتفعيل التعويذات.
أما التعاويذ…
فليست حروفًا مكتوبة، ولا طلاسم على ورق.
بل كيانات حيّة، صغيرة، من لهب رماديّ.
تطفو في الهواء مثل كائنات دقيقة،
لكل تعويذة عين.
بعضها يملك جناحين شفافين، كأنها ذباب ناري منحرف.
بعضها له ذيلٌ كذيل عَقرب، يلوّح في الهواء حين تقترب روحٌ هاربة.
التعاويذ لا تُقرأ…
بل تُلدغ.
حين تقترب تعويذة من جدار الأرواح، تغرس إبرتها في الجدار…
فتخرج منه إحدى الأرواح، ملوّحة بذراعيها، تصرخ بلغة غريبة، وتذوب كالسكر في النار.
بعض التعاويذ تُخرج صوتًا… ليس حروفًا، بل كأنها أصوات آذان تقطع،
كأن كل حرف فيها يُكتب بشفرة حلاقة على جمجمة طفل لم يولد.
هناك تعويذة دائمة الطواف، اسمها "ليليتون"،
تدور حول رأس إيفا مثل قمرٍ مَسعور.
كلما اقترب منها أحد، تهمس في أذنه:
> "أنتَ لا تستحقّ أن تُنسى…"
ثم يدخل في نوبة صرع، يرى فيها نفسه يُدفن حيًّا، بينما الناس يضحكون عليه.
الأرواح…
تلعن.
تتوسل.
تنتحر ثم تعود.
لا يمكن أن تهرب من قاعة الكتمان.
لأن ما يُربط فيها، ليس الجسد… بل الإثم.
وإيفا؟
لا ترفّ لها عين.
لا ترحم.
كأنها جلست هناك لتحرس هذا الجحيم، لا لتحكمه.
ثم…
الباب.
ذلك الباب الفولاذي، الذي لا يُفتح باليد، بل بإذن النفس…
انزاح ببطء كجفن أعمى، فزحفت منه برودة غريبة،
ليست برودة هواء… بل برودة إعلان.
دخل الخادم.
شاب، نحيل كأن الحياة لم تنجح في الإمساك به.
خطاه حذرة، كمن يدخل إلى فم ثعبان عارفًا أن اللسان سيبتلعه.
أنزل رأسه.
لم يجرؤ على رفع عينيه، لا نحو العرش، ولا نحو الجدران التي بدأت تتقلص وتتمدد ببطء كأنها تنتبه.
بقي صامتًا، ثم ركع.
وحدها ركبتاه أصدرتا صوتًا، كأن الأرض تشهق منه.
أما الأرواح؟
فقد سكنت.
وكأنها تعرف: حين يتكلم الخوف، تسكت الذكريات.
صوتٌ واحد فقط بقي…
هو صوت إيفا.
لكنه لم يكن صوتًا بشريًا.
كان إحساسًا ينبعث في صدر الخادم، كأنها تحدث قلبه قبل أذنه.
قالت:
> "أنت ترتجف."
ردّ، وصوته يخون رئتيه:
> "لقد… لقد حاولت ألا أفعل، سيدتي."
تنفست.
لكنها لم تنفث هواءً، بل طيفًا شاحبًا من البرد،
عبرَ القاعة كدخان نسي الحريق.
قالت:
> "إن كنت ترتجف من الحقيقة… فأنت حيّ.
وإن كنت ترتجف من كتمها… فأنت خائن.
فأيّهما أنت؟"
بلع ريقه.
كان الطعم… كالتراب.
قال:
> "أنا… فقط رسول، سيدتي. والخبر الذي جئتُ به، لا يصلح أن يُحكى إلا لكِ."
رفعت إيفا يدها، بإيماءة لم تكن إشارة، بل أشبه بضغط زرٍ على شيء في العالم الآخر.
وفجأة، تنفّس الجدار.
وأخرج وجهًا بشريًّا… يشبه وجه الخادم تمامًا.
لكنّه كان مشوّهًا، يبتسم ابتسامة غريبة، ويهمس بـ"افضح… افضح…".
تجمّد الخادم.
لكنّ إيفا قالت، بنبرة أكثر هدوءًا:
> "تابع."
هزّ رأسه، وكأنه يعتذر من الهواء.
> "السبعة… سبعة مختبرات لتشريح البشر، المخصصة لبيع الأعضاء… التابعة لنا في غرب أفريقيا…
كلها، داهمتها عصابة واحدة، عصابة تيوانا."
ثم سكت.
كأن ما تبقى من الجملة يرفض أن يُقال.
لكن إيفا لم تعطه الخيار.
عيناها اشتعلتا بلون لا يُصنّف،
لون كأنك رأيت فيه كلّ أحلامك تتعفن في ليلة واحدة.
قالت ببطء:
> "ثم ماذا؟"
أجاب، كأن الكلمات تنهشه من الداخل:
> "لقد… لم يقتلوا أحدًا. لم يتركوا أثراً.
لكنهم… أخذوا الجثث. كلّها.
بلا استثناء."
سكون.
القاعة صمتت.
حتى الأرواح صمتت، كأنها خائفة مما ستقوله إيفا بعد ذلك.
لكنها لم تتكلم مباشرة.
بل ابتسمت.
تلك الابتسامة… لا تشبه ابتسامة بشر.
هي انحناءة من الزمن، من السخرية، من الفقدان الطويل.
قالت بصوت ناعم، يشبه خنق طفل بوردة:
> "لماذا أخبروني الآن فقط؟"
ردّ:
> "الأوامر كانت… أن يُعلَن الأمر في تقرير دوري.
لكنني… لم أستطع.
شيءٌ بداخلي أخبرني أن عليّ الحضور فورًا."
ابتسمت مجددًا، ثم قالت:
> "ذلك الشيء بداخلك… سيكون له اسمٌ من الآن فصاعدًا."
نظر إليها، مذهولًا، ونطق:
> "ما هو؟"
قالت وهي تقف، تتمايل في مشيها كظلٍّ يحترق:
> "حدسك."
ثم اقتربت منه حتى كاد أن يشعر بجلده يذوب من قربها،
ولمسته على كتفه برفق.
> "حدسك هذا… أنقذك من أن تصبح وجهًا جديدًا في الجدار."
ثم استدارت،
وعادت نحو العرش،
تاركة خلفها خادمًا لا يعرف هل خرج حيًّا أم لا يزال يموت ببطء.