بالصباح الباكر كانت الشمس قد بدأت تتسلل خلف الأفق ملقية بأشعتها على شوارع أتلانتيك سيتي ، كان الهواء ما زال يحمل برودة الليل حيث إمتزجت معه رائحة الفحم المحترق والخبز الطازج من المخابز الصغيرة ، على طول الممشى الخشبي القريب من الشاطئ بدأ عمال المحلات في فتح واجهات متاجرهم بينما نادى اطفال باعة الصحف المتجولين بأحدث العناوين بأصواتهم المبحوحة .
كان قسم شرطة أتلانتيك سيتي يقع في مركز المدينة بالقرب من البلدية ، بني هيكله من الطوب الأحمر مرتفعًا ثلاثة طوابق متجاوزا بوضوح معضم البنايات من حوله ، فوق المدخل الرئيسي تدلت لافتة معدنية باهتة كتب عليها
– قسم شرطة أتلانتيك سيتي –
بعد صعود بضع درجات ، تستقبلك رائحة قوية من القهوة الرخيصة الممزوجة بدخان السجائر كالسحاب بالهواء ، اسفل الأقدام اصدرت الأرضية الخشبية صريرًا مع كل خطوة بينما انتشرت المكاتب في القاعة الرئيسية مكدسة بالأوراق والملفات المتناثرة .
جلس بعض الضباط خلف مكاتبهم مشغولين بتحريك أصابعهم فوق الة الكتابة او الدردشة وهم يحتسون أكوابًا ورقية من القهوة ، بينما على الحائط تدلت أوراق تحمل أوامر اعتقال وأسماء وصور المطلوبين عليها برسومات تقريبية لن تساعدك في التعرف عليهم حتى وإن وقف الجاني امامك
في نهاية الممر بالطابق الثاني تواجد باب خشبي من السنديان علقت به لافتة معدنية صغيرة نقش عليها "الرقيب كولمان" .
بالداخل جلس رجل في منتصف الخمسينات أصلع من الأعلى مع بعض الشعر الرمادي على الجانبين ، كانت بشرته خشنة و غطى شاربه الكثيف جزءًا من فمه ، إرتدى قميصًا أبيض بأكمام مطوية حتى مرفقيه و ربطة عنق مفكوكة قليلا حول عنقه ، على المكتب تواجدت كومة من الأوراق غير المرتبة وبجانبها منفضة سجائر ممتلئة الأعقاب .
" حادث قتل ثنائي راح ضحيته رجل وإمرأة ، لا يوجد اي دليل على المشتبه بهم وعلى ما يبدو ان الدافع هو .. "
عند قرائته الجزء الأخير تفاجئ قليلا
" بضعة صناديق كحول "
اعاد وضع الورقة على المكتب ثم رفع سماعة الهاتف لأذنه وادخل بضعة ارقام عبر القرص الدوار مجريا إتصالا .
بعد بضعة دقائق صدرت دقدقة رتيبة من بابه
" أدخل "
دخل شاب بدا في منتصف العشرينات من عمره ، طويل القامة لكنه ليس قوي البنية ، ملامحه حادة لكن لم تكتسب بعد قسوة المحققين المخضرمين ، إرتدى معطفًا رماديًا طويلاً فوق بدلته الداكنة حيث كانت كل من ربطة عنقه المحكمة وحذاؤه الجلدي اللامع يكشفان عن اهتمامه الكبير بمضهره
" المحقق إدوارد ، تفضل بالجلوس "
اعطى الرقيب كولمان الإذن وبمجرد جلوسه مرر له ورقة احتوت معلومات الحادثة التي قرئها قبل قليل .
بعد قراءته لها هو الاخر ، وضع الشاب الورقة على المكتب ثم سأل
" قرية بلاكستون ؟ "
وضع الرقيب كولمان سجارته بالمنفضة ثم قال
" تقع على بعد ميلين من مدينة فينتور "
" اعذرني على سؤالي الوقح يا سيدي ، لكن مادخلنا بشؤون القرية إن كانت تابعة لمدينة اخرى ؟ " تسائل
" حاليا لا تملك القرية مركز شرطة خاص بها بعد حيث تمر عليها دوريات شرطة تابعة لمدينة فينتور من حين لأخر لإبقاء النضام ، صادف انني ادين للعريف هناك بخدمة ، يمكنك ايضا إعتبار هذه القضية كتدريب لك ، على الأرجح سيكون الجناة بعض قطاع الطرق ولن يستغرق الامساك بهم وقتا طويلا "
انهى حديثه بإبتسامة متكئا على كرسيه .
دون ان يسأل مرة اخرى اومئ إدوارد برأسه موافقا ثم نهض بشكل مستقيم مأديا التحية
" سأباشر بالعمل سيدي "
عند رؤية موقف الشاب امامه زفر الرقيب كولمان بإسترخاء
" جيد ، بالمناسبة هل لديك رخصة سياقة ؟ "
" نعم سيدي " اجاب
" ممتاز ، ستجد سيارة فورد سوداء بإنتضارك بالخارج , هنالك خريطة بالمقعد الخلفي " قال الرقيب
للحضة إرتسمت المفاجئة على ملامح ادوارد
" إعتقدت انهم يجعلوننا نجتاز اختبار السياقة كاجراء شكلي ، للاعتقاد بأنهم كرماء هكذا .. " فكر بداخله بينما شكر الرقيب أمامه على كرمه قبل ان يخرج .
بالرغم من عدم ندرة السيارات ، الى انها كانت وسيلة نقل خاصة بالطبقات العليا في المجتمع ، وحتى تأجيرها هو الأخر لم يكن سعره بالهين .
بعد نصف ساعة على طريق جبلي متعرج غطته الأتربة والحجارة الصغيرة تحركت سيارة سوداء من نوعية فورد بسرعة ثابتة
" ان احضى بسيارة في قضيتي الاولى ، يالي من محضوض " كانت هذه هي المرة الأولى التي يركب إدوارد فيها سيارة خارج اكاديمية القيادة التابعة لشرطة اتلانتيك سيتي ، وكما هو متوقع طغت الإثارة عليه ، إحساسه بالمقود الخشبي بين يديه ، والمكابح المعدنية اسفل حذاءه ، المقعد الجلدي أسفل مؤخرته ، لم يسعه ان يكون اكثر سعادة .
على طول الطريق كانت الرحلة سريعة واكثر راحة بكثير من قيادة العربة ، بإتباعه المسار بالخريطة بين فخضيه لم يستغرق وصوله لوجهته سوى ساعة واحدة .
عند مروره على السور الحجري المحيط بالقرية خفض سرعته تدريجيا قبل ان يتوقف تماما بالقرب من المدخل ثم نزل منها .
" المعذرة اريد سؤالك "
بعد لحضات من نزوله لمح ادوارد قرويا ارتدى قبعة قش وملابس بسيطة فضفاضة يصعد المنحدر وبيده دلوان من الماء بإتجاه المدخل هو الاخر
" همم ؟ " بعد القاء نضرة على الشاب المتأنق امامه تحول انتباهه للسيارة خلفه حيث ثبت بصره عليها
" حادثة قتل حدثت بالقرية منذ بضعة أيام ، اتعرف اين ؟ "
تقدم ادوارد بضعة خطوات ناحية القروي سائلا إياه
ارفع القروي بصره اخيرا ثم قال
" نعم ، الحانة "
" هل يمكنك توجيهي إليها ؟ " سأل
اكتفى القروي بإيمائة خفيفة برأسه ثم اكمل خطاه وتبعه ادوارد
" دعني اساعدك في حمل هذا .. "
بعد بضعة دقائق وبناء على توجيه القروي وجد إدوارد نفسه امام حانة تقليدية احاط بها الهدوء ، حدق بها لبرهة ثم تقدم ناحية الباب مدقدقا
" من ؟ " تردد صوت اجش من الداخل
" المحقق إدوارد كين من شرطة اتلانتيك سيتي ، ان لم يكن ذالك مزعجا لكم اريد طرح بضعة اسألة حول الحادثة " صرح
بعد لحضة صمت افتتح الباب اين استقبله رجل ثلاثيني اقصر منه قليلا لكنه ممتلئ الجسم ارتدى معطلفا بنيا مهترئا عند الحواف وفاحت منه رائحة شراب قوية ، من النضرة الاولى لشعره المبعثر وأعينه محمرة اللون أستطاع إدوارد القول بأن الايام السابقة لم تكن بالهينة عليه
" لقد اخبركم اصدقاء خوسيه بكل شيء ، ليس لدي المزيد لإخباركم به " قال ذالك وكان على وشك الاغلاق
" انتضر قليلا ، كما ذكرت سابقا انا من شرطة اتلانتيك سيتي وليس فينتور "
اوضح ادوارد على عجل مضهرا هويته ، حدق الرجل قليلا بالهوية ثم اعاد بصره للشاب امامه
" مالذي تريد سؤاله ؟ "
" مارأيك ان نتحدث بالداخل "
بعد لحضة من التفكير افسح الرجل المجال متيحا لإدوارد الدخول ، كان المكان ذي اضائة حافتة قادمة من إحدى المصابيح الزيتية خاليا من اي زبائن احتوى رائحة كريهة جعلت ادوارد يتنفس من فمه عوضا عن انفه ، عندما ادار عيناه ملقية نضرة بالارجاء لمح العديد من القارورات الفارغة ملقاة بعشوائية بالزوايا ..
" لقد كانت اختي وصديقي المقرب من تم قتلهم ، ولأجل ماذا ؟ بضعة صناديق لعينة من الكحول ! "
مباشرة بعد جلوسهم حول طاولة مستديرة من خشب قديم غير مصقول هلم الرجل بالشكوى بنبرة تملئها الحسرة ، شد قبضته في غضب وهو يصر اسنانه ثم تجرع جرعة اخرى من قارورة الخمر بيده
" تجشئ "
" إبن العاهرة محضوض حقا انني لم اكن هنا وقتها والا .. "
" دعنا نهدئ قليلا سيدي " قاطعه إدوارد مهدئا إياه وتابع سؤاله
" إذا لم تكن هنا وقت الحادثة من كان هنا ؟ "
" اصدقاء خوسيه لكن لا تتعب نفسك لقد إستجوبتهم عشرات المرات بالاضافة للشرطة سابقا " قال
" اذا ماهي ملامح المشتبه بهم ؟ " اخرج ادوارد من جيب سترته الداخلي دفترا صغيرا وقلما أسودا واستعد للتدوين
" قالو ان احدهم كان بدينًا بعض الشيء والأخر كان شابا متوسط القامة والبنية .. عديمو الفائدة لم يستيطعو حتى القاء نضرة فاحصة على ملامحهم إذ قالو ان الاضاءة كانت خافتة بحلول الليل وان كلاهما ارتدى قبعات "
" همم .. " دون ادوارد كل المعلومات بمذكرته واضاف
" بخصوص طريقة القتل ، لقد كان مسدس صحيح ؟ "
" نعم رصاصة لكل واحد منهما " عند حديثه اكثر لم يستطع الرجل منع نفسه وتساقطت دموعه
" ايها المحقق ارجوك .. ارجوك امسك به " توسل بيأس وهو يضرب الطاولة بقضبته
عند رؤية حالته لم يكن بوسع ادوارد سوى مواساته عن طريق التربيت على يده قائلا انه سيبذل قصارى جهده
" هل لي ان اسأل عن اسمك ؟ "
" توماس .. " قال بصوت منخفض
" حسنا توماس ، إذا اردتني ان اساعدك عليك بمساعدتي كذالك ، هل انت متأكد من ان كل ما تم سرقته هو صناديق المشروبات وليس النقود او اي شيء اخر ؟ "
بعد مسح دموعه اومئ توماس برأسه مأكدا
" نعم ، لقد قالو ان الشاب متوسط القامة والبنية هو من تولي القيادة واردى خوسيه رصاصة برقبته ، بمجرد سماعهم صوت طلق النار توجهو صوب غرفة المخزن ليجدوه يضم ليلي ناحيته بيد ومسدسه بيد اخرى بإتجاههم مانعًا إياهم من التصرف "
مع استمرار حديثه ، حرص ادوارد على تدوين كل شيء بعناية فائقة مع اصغر التفاصيل ..
" آآه ، لقد سمعو كذالك الشاب ينادي البدين بإسمه .. امم دعني اتذكر .. " عقد توماس حاجبيه محاولا إستحضار الإسم
" آوه صحيح ، نيتش .. لا ريتش ، نعم ريتش كان هذا الإسم الذي نادى رفيقه به "
بصمت دون ادوارد الإسم
" بخصوص الجثث ، هل قمتم بدفنها ام حرقها ؟ "
" قمنا بدفنها بالمقبرة خارج القرية "
" حسنا .."
بعد إضافة بضعة اسألة كانت اجوبتها عبارة عن شتائم وتوعد بقتل القاتل إضطر ادوارد للتوقف حيث كانت حالة توماس تزداد سوءا مع كل رشفة يحتسيها .
" تنهد "
نهض ادوارد من كرسيه مدخلا الدفتر والقلم بجيبه ومد يده قصد مصافحة توماس الذي تجاهله واستمر في اطلاق همهمات غير مفهومة ..
" شكرا على وقتك سيد توماس ، سأعلمك إذا توصلت لأي شيء .."
لم يلقي ادوارد بالا لفعل الأخير وهلم بالخروج تاركًا توماس يثرثر لوحده واكتفى ان رمقه بنضرة شفقة ..
بالرغم من بزوغ الشمس بالسماء الصافية إلى ان هذا لم يخفف من برودة الجو و الرياح التي كانت تهب بقوة من حين لأخر .
" سرقة الكحول بدلا من النقود خصوصا عند إقتراب موعد الحضر ... غريب "
فكر مع نفسه اثناء قيادة السيارة وهو يلقي نضرة على الدفتر الصغير بيده من حين لأخر
بعد حديثه مع اصدقاء خوسيه الذين صادف وان وجدهم على وشك الدخول للحانة للإطمئنان على توماس والتأكد من ان اقوالهم تطابق اقواله اكمل طريقه .
" حسب تصريحاتهم كانت لهجة الجناة مشابهة لخاصتي ، اي انهم على الارجح من اتلانتيك سيتي نضرا لأنها اقرب مدينة من قرية بلاك ستون بعد مدينة فينتور . "