الفصل الثاني — ما بين النور والظلام
.
.
.
.
.
يعقوب كان يلهث، صدره يعلو ويهبط بجنون، ويداه ترتجفان كأنهما على وشك أن تنفصلا عن جسده. أصابعه كانت مشدودة على قضبان القفص الباردة كأنها آخر شيء يبقيه واقفًا.
رائحة الدم كانت في كل مكان... ثقيلة، خانقة، كأنها تغزو صدره بدل الهواء. حاول أن يأخذ نفسًا عميقًا، لعل قلبه يهدأ، لكنه ندم فورًا. الرائحة التي دخلت أنفه كانت مقرفة، عفنة لدرجة جعلته ينحني ويتقيأ بلا تحكم.
أنفاسه المتقطعة، طعم القيء، إحساس الحرق في عينيه... كل شيء تداخل في دوامة جعلت جسده كله ينتفض. رفع رأسه رغمًا عنه، كأنه يبحث عن مخرج، عن تفسير، عن أي شيء.
ورآه مرة أخرى، خارج القفص.
كان يتمنى لو أنه لم يرَ. تمنى لو أن عينيه تنطفئان، لو أن أذنيه تصمتان، لو أن هذا الكابوس يتبخر فجأة. أراد فقط أن يختفي. أن يعود إلى العالم الذي لا يتذكره، أراد فقط، أن يرتاح.
أراد أن يبتعد. أن يهرب من كل هذا. لكن جسده لم يتحرك. حتى جفونه... لم يستطع أن يغلقها. الخوف جمده بالكامل، وكأن أحدهم قيده من الداخل.
خلفه، سمع أصواتًا مكتومة. أنين. تمتمات. بعضهم كان يبكي بصوت خافت، وبعضهم يردد أدعية لا يبدو أنه يصدقها أصلًا.
لكن رجلًا واحدًا كان مختلفًا، لم يستسلم
رجل ذو لحية كثيفة، وندبة طويلة تعبر عبر خذه.
كان يضرب القضبان بيديه العاريتين. ضربة وراء ضربة... كأن الجنون هو كل ما بقي له.
الدم بدأ يسيل من قبضتيه، ويده في النهاية... انكسرت.
سمع يعقوب صوت العظم وهو يُكسر، لكن الرجل لم يتوقف. استمر في الضرب، يصرخ ويبكي بلا صوت يُسمع...
والقضبان، كما لو كانت تسخر، بقيت صلبة. صامتة.
يعقوب لم يعرف كم مر من الوقت. كان كل شيء خارج القفص أشبه بجحيم. جثث ممزقة، عربات محترقة، أشلاء حراس تناثرت في الأرض. لكن وسط هذا الخراب... وسط كل هذا الجنون... كان هناك نور.
اثنان يقفان وسط الفوضى. الضوء والظلام.
لم يعرف يعقوب متى ظهر الكائن الأول. لكنه كان يقف هناك، أمام الوحش.
درعٌ نقيٌّ أبيض بلا زخارف، وهالةٌ فضيةٌ تحيط به تجعله يبدو ككائن لا ينتمي لهذا العالم. لم يكن مجرد جندي.
كان بتأكيد مختلف عنهم.
يعقوب لم يستطع أن يبعد عينيه عنه. كل مشاعره تجمدت، لكن هذا التجمّد لم يكن خوفًا. كان كأن روحه حبست أنفاسها، كان... مفتون.
ثم بدأ يشاهد، في صمت...
في الجانب الآخر.
الوحش.
طوله شاهق، ربما عشرون مترًا، كتلة من الظلام تتنفس. لم يكن مخلوقًا، كان كابوسًا حيًا. عيناه جمريتان، تتوهجان بشهوة الخراب. لعابه الأسود يسيل من بين أنيابه، يذيب الأرض التي يلمسها كما لو كانت حممًا حية.
زأر.
لكن الزئير هذه المرة لم يكن كالمرة السابقة.
هزّ الهواء، جعل الأقفاص ترتج، وجعل يعقوب يتمسك بالقضبان بكل ما تبقى من قوته.
وثانية واحدة فقط، تحرك الوحش.
قفز بسرعة لا تناسب ضخامة حجمه، كان سريع، سريع جدا، تحرك كأنه ظل يتمدد، كان في كل مكان في نفس الوقت، أطلق مخالبه إلى الأمام، معها، انطلقت موجة سوداء، طاقة خالصة من الدمار، شقت الهواء بصوت أشبه بانفجار البرق.
الضوء تحرك.
تفادى الهجوم بحركة تشبه إنسياب الماء، لا أثر للترد أو الخوف، بلمح البصر، كان في الهواء، جسده دار نصف دورة، ومع الدوران أنطلق وهج من سيفه.
لمع النصل بطاقة فضية نقية، هبطت على رأس الوحش كالشهاب.
الوحش استدار في اللحظة الأخيرة، رفع أحد مخالبه لاعتراض للهجوم.
اصطدم الضوء والظلام.
"بوم!!"
انفجر كل شيء
موجة الطاقة دفعت كل شيء للخلف، الأقفاص ارتجّت، العربات المحطمة تفتت، يعقوب ارتطم رأسه بقضبان القفص، الدم يسيل من رأسه، ولكنه لم يتحرك، كان جامد، كتمثال تم نحته منذ زمن بعيد.
كان يفكر في رأسه.
'هذه ليست معركة بين المخلوقات الفانية'
'أنها حرب بين مخلوقات سامية'
لكن... يبدو أنه حتى الساميين يمكن أن ينزفو.
قبل أن يهبط الحارس على الأرض، كان الظلام قد تحرك، التف كدوانة سوداء، ثم اختفى.
ثم... ظهر خلف الحارس.
يعقوب لم يدرك حتى أن صوت قد انفجر خارج صدره.
"احذر!"
مخالب الوحش اخترقت الحارس.
درعه انكسر.
دمه تناثر في الهواء.
جسده ارتد للخلف، خيط قرمزي عبر درعه الأبيض، كان هناك جرح عميق على جانبه.
"حتى هو لم يستطع هزيمته؟ هل سوف نموت هنا أخيرا؟"
تكلم أحد السجناء الناجيين مع يعقوب بجواره، لكن يعقوب كان أمنيته بأن يصبح أصم قد تحققت، لم يعد يسمع شيء.
'مستحيل'
كان يضم أن الحارس كان منيعا، قويا، أليس النور دائما يهزم الظلام؟ إذا لماذا، لماذا كان الحارس جاثيا على ركبتيه، يظهر على الجرح العميق جانبه، والدم يدفق ببطء منه.
إن كان النور لا يستطيع الانتصار، فمن يستطيع؟
يعقوب لم يكن كالمعتاد في هذه اللحظة، لم يكن خائف.
كان يراقب، يدرس، يحلل لم يكن يعرف السبب، لكن قلبه بدأ ينبض بشكل مختلف، كأن هناك جمرة قديمة بدأت تتوهج من جديد داخله.
الحارس... ابتسم، ابتسامة شريرة، مشوهة، لا علاقة لها بالبطولة والصلاح.
رغم الدماء عليه، وقف.
لكن هذه المرة، لم يعد هناك أي حس بشري فيه.
كأن النور الحقيقي قد إستيقظ.
بدأ وهجه يزداد، لم يكن كالنور الفضي السابق، كان أقوى، أعمق، أكثر كثافة، كشمس حية تمشي على الأرض، عيناه توهجو بوهج نقي.
ثم... اختفى.
في لحظة، أصبح وراء الوحش.
ضربة واحدة.
لم يكن هناك أي صوت.
فقط إنفجار ضوء نقي.
الطاقة البيضاء اجتاحت المكان، مسحت كل الظل و الظلام كأن شمسا قد أشرقت على هذا العالم المظلم.
الوحش تجمد.
وقف هناك للحظة، جسده بدأ ينبض، يحمل نضرة جامدة.
ظهرت عليه شقوق بيضاء ببطء.
بدأت من نقطة واحدة، ثم بدأت تتوهج وتمتدّ عبر كل جسده الضخم.
ثم، بصوت تحطيم الزجاج، انفجر الوحش إلى شظايا.
اختفى.
صمت...
الحارس وقف وسط الأنقاض جسده لا يزال يشع بنوره الطاغي، لكن ببطء، ذلك النور بدأ يخفت، عاد إلى حالته الطبيعية، يبدو كأي بشري عادي، ساقاه بالكاد تحمل أنه، جلس على الأرض، يضغط على جرحه، يلتقط أنفاسه بهدوء.
يعقوب عاد إلى وعيه بعد انتهاء المعركة، ولكن كانت نظرته مختلفة هذه المرة.
"أريدها"
"تلك القوة... أريدها"
جفل يعقوب.
القى نظرة حوله، "الحراس بعضهم ميت، والآخرين بالكاد على قيد الحياة، ماذا يجب أن افعل."
نظر إلى حارس قريب منه، ثم إلى المفتاح بجانبه.
'هذه فرصتي، لن اكون ضحية بعد الان، لن اكون تحت رحمة الآخرين، سوف اهرب، وأصبح أقوى، سوف اصبح مثله!!"
رفع رأسه، قلبه ينبض بجنون، يداه ترتجف أن، بدأ يزحف بكل ما لديه من قوة.
'هذه لن تكون نهايتي'
'سوف تكون البداية'
دقات قلبه تتسارع مع كل خطوة، الزحف كان بطيء بشكل مروع، كان يشعر كأن الزمن عالق ولا يتحرك.
الأرض تحت جسده مغطاة بالدماء الملطخة والحجارة القاسية، راحة الجثث القديمة والجديدة جعلت الأمر اسوء، لكنه لم يكن يرى إلا هدفا واحد أمامه: المفتاح، كأنه ليس مجرد مفتاح للحرية بل لكل شيء.
بدأ يسمع همسات السجناء المتعبة من خلفه.
"هيا اسرع، قم بها، ارجوك، انت تستطيع"
كانت اصواتهم مختلطة، لدرجة أصبحت غير مفهومة، هو لم يهتم لهم، فقط أكمل زحفه، بعد ما بدا كأن الزمن قد توقف تماما ، أخيرا وبعد عناء، وصل إلى هدفه، توقف للحضة، نظر إلى السلال التي على قدمه المتشابكة مع القفص، وأرى أنها في حدها.
بدأت عيناه تتسابق بين الحارس الذي يبدو كأنه في سبات عميق، وبين المفتاح.
فكر أن يديه مكبلة، لن تصل إلى المفتاح، ثم، بكل ما لديه من قوة متبقية انتزع المفتاح من الارض بفمه، ثم انطلق في اتجاه الزنزانة، يده بدأت تتحسس القفل، والسجناء خلفه ينضرون إليه بتأمل عميق، العرق يتصبب من جبين يعقوب، أطراف أصابعه المجروحة كانت تعطيه شعور كأنها تتحطم في كل حركة.
"ّطَق!"
انفتح القفل...
كأنها لحضة خلاص تمتزج بالحلم، انطلق العبيد كموج هائج، ودافعوا نحو الخارج، شوقهم الحرية أعظم من كل شيء، يعقوب بدأ يركض مع الجميع، يشعر بقلبه ينبض بين ضلوعه.
لكن، لا أحد وعد بأن تكون السماء عادلة.
أمام الجميع، ظهرت امرأة واقفة في منتصف الطريق، تحيط بها هالو غامضة مخيفة، كانت ترتدي عباءة صفراء داكنة، مع زخرفة غريبة، تخفي معالم جدسها، لم يكن يرى منها سوا فما مبتسما ابتسامة مهذبة، تحمل سخرية غير مرئية في تفاصيلها.
تجمد الجميع في أماكنهم دفعة واحدة، كأن الأرض فجأة تحول إلى مستنقع لزج يبلتع أي خطوة تقع فيه، تحولت عيون الكل من الدهشة إلى الخوف، ثم إلى الهلع، لوب الجميع بدأت تخفق بعنف، حضورها كان مرعب، حتى الهواء بدأ يلق في الجو.
بصوت ناعم لكنه يحمل في طياته نبرة قسوة رهيبة، قالت. "هذا لم يكن ضروريا كما تعلمون. "
بعدها انتشر ضغط ثقيل غير مرئي، الهواء القليل المتبقي تلاشى، شعرو كان العالم كله يضغط عليهم دفعة واحدة. شعرت أجسادهم بأنها محاصرة بشيء غير مرئي.
شعر يعقوب بجسده يثقل، ركبتاه تضعفان، ظن أن الموت أصبح قريباً.
أحد الأشخاص حاول المقاومة، لكنه سقط بقوة، صوت عظامه تتكسر، حتى الصراخ لم يخرج منه.
بينما كان يعقوب ينهار أدرك أنه لا فائدة من المقاومة.
'اللعنة'
كان هذا آخر شيء قاله قبل أن يفقد الوعي، ويتلاشى كل شيء.
ثم، ساد السكون فيه مرة أخرى.
————
فتح يعقوب عينيه ببطء، ليجد نفسه في غرفة مظلمة، بها ضوء خافت هادئ، يلون المكان بهالة من والهدوء، مع رائحة أعشاب خفيفة، تجعلك تشعر بالراحة.
"أين انا؟"
"هل استيقظت من الكابوس؟"
"أم هربت حقا؟ لا... لم اهرب"
تذكر تلك المرأة الغامضة.
قبل أن يكمل تفكريه، قاطعه، صوت عميق، به شيء من الحكمة.
"اوه، يبدو انك استيقظت، بدأت أقلق من انك لن تستيقظ أبدا."
التفت يعقوب إلى صاحب الصوت في مفاجأة، ليجد أمامه رجل مسن، نحيل قليلا، ذو لحية طويلة وشعر أبيض طويل، يرتدي ثيابا زرقاء، ويحمل في يديه عصى خشبية تبدو عتيقة.
ابتسم الرجل العجوز ابتسامة هادئة، ثم قال بنبرة لطيفة.
"تشرفت بلقائك، انا الطبيب هنا، لقد كنت في غيبوبة لمدة أربعة أيام، الآن، وقد فتحت عينك، هل تشعر بأي شيء غريب؟"
حاول يعقوب أن يجمع أفكاره، لكن الحيرة تملكت عينه وهذه، أغمض عينه للحظة.
"أربعة أيام؟، أيضا أين انا بضبط، أتذكر أنني كنت في تلك القافلة، ما الذي يحدث؟"
أراد يعقوب أم يطرح أسئلة لا تنتهي، لكن عقله كان في حالة فوضى.
'لم اعد افهم أي شيء بعد الآن'
كان متشككا في كل شيء.
كان يشعر أنه هناك خوف داخله، لكن شيئا ما داخل عقله كان يصر على أن يظل هادئا.
'علي أن اتصرف بحذر، يجب أن أكون ذكيا ، الهلع لن يفيدني، علي أن اعرف ما يحدث في هذا المكان الغريب، ما يحدث لي، وأيضا... أن أصبح مثله'
ثم سمع صوت العجوز اللطيف.
"نعم اربعة أيام، لكن المهم هو أن تخبرني حالتك الان"
فكر يعقوب للحضة ثم همس بنبرة كئيبة، وكان الكلمات تخرج منه بصعوبة. "أشعر وكأنني فقدت ذاكرتي... لا أتذكر أي شيء قبل القافلة."
.
.
.
.
استمتعو وأعطوني رأيكم في التعليقات ~