يُقالُ إنَّ الجمالَ لعنةٌ، وإنَّ الحُسنَ تاجٌ فوقَ الرؤوسِ يورثُ الشقاء، وأنا التي كُتِبَ عليها أن تكونَ الأسطورةَ التي لا تُنسى في هذا الفضاء.
شعري كضوءِ القمرِ ينسابُ، فضيٌّ كأنَّهُ خيطُ المساءِ، وعينايَ مزيجٌ من بحرٍ وزرعٍ، زرقةٌ تتراقصُ مع خضرةِ الأرجاءِ.
بشرتي كبياضِ الثلجِ، ناعمةٌ كأنَّها قصيدةٌ لم يُكتبْ لها انتهاء، وثوبي الأبيضُ الفاخرُ يُشبهُ أجنحةَ ملاكٍ يعبرُ السماء.
لكن ما جدوى الجمالِ إذا كان القلبُ فارغًا، وإذا كانت الروحُ تسيرُ في الطرقاتِ بلا انتماء؟
كنتُ أميرةَ مملكة اليريس، الملاكَ الذي يبتسمُ للناسِ، يُضمدُ جراحَهم، يُطفئُ أوجاعَهم، ويرويهم حنانًا كما تروي الأمطارُ ظمأَ الصحراء.
كنتُ أطببُ مرضاهم، أُهدهدُ بكاءَ أطفالِهم، وأحملُ عنهم أثقالَ الشقاء، لكنني كنتُ وحدي من يغرقُ في بحرِ العناء.
لم أكنْ أحتاجُ للشكرِ، ولم أكنْ أرغبُ في الثناء، كنتُ فقط أبحثُ عن سعادةٍ تملأُ فراغي، عن دفءِ يشعرني أنني لستُ هباء.
كلما رأيتُ البسمةَ تعلو وجوهَهم، شعرتُ أنني حية، أنني خُلقتُ لأكونَ ضياء، لكنني كنتُ حين أعودُ إلى غرفتي، أُدركُ أنني لستُ سوى ظلّ في الخفاء
يقولونَ إنَّ النورَ يسكنُ ملامحي، لكنهم لم يروا العتمةَ التي تحتلُّ داخلي، لم يسمعوا صوتَ الأنينِ الذي يصرخُ في أحشائي دونَ نداء.
كنتُ أعيشُ لأجلِهم، أسقيهم دفئًا من روحي، وأرسمُ على وجوهِهم طيفَ الرجاء، لكنني كنتُ أجهلُ كيفَ أُضيءُ ظلمتي، كيفَ أُداوي صدعَ الشقاء.
كم مرةً وقفتُ أمامَ مرآتي، أُحدّقُ في وجهي، وأتساءلُ: هل هذا انعكاسي، أم شبحٌ يحاولُ أن يجدَ في عينيّ مأوى؟
كم مرةً ابتسمتُ رغمَ الألمِ، رغمَ الخواءِ، رغمَ أنني كنتُ أموتُ في كلِّ مساء؟
لم أُولدْ لأكونَ أميرةً، لم أُخلقْ لأزينَ القصورَ، بل كنتُ نورًا مشى في الظلامِ ليُداوي القلوبَ الكسيرةَ، ويُشعلَ في أرواحِهم الضياء.
لكنَّ النورَ يحترقُ ليُضيءَ لغيرهِ، وأنا احترقتُ حتى أصبحَ في داخلي رمادٌ، يصرخُ دونَ صوتٍ، يبكي بلا بكاء.
كلما مررتُ في الأسواقِ، رأيتُ الناسَ ينظرونَ إليَّ كأنني أسطورةٌ، كأنني وهمٌ، لا يرونَ أنني رغمَ الألقِ، أنزفُ في الخفاء.
لم يروا كيفَ تعبتُ من حملِ الأوجاعِ، كيفَ كنتُ أُداوي الجراحَ، بينما جرحي ينزفُ دونَ دواء.
كنتُ أُهملُ نفسي، أُنكرُ حاجتي للراحةِ، وأُقنعُ قلبي أنَّ وجودي في حياتِهم هو أعظمُ عزاء.
لكنَّني في نهايةِ كلِّ يومٍ، كنتُ أعودُ إلى وحدتي، إلى عالمي الذي لا يسمعُ فيه أحدٌ صوتي، إلى صمتي الذي يُزهرُ داخلي كالبلاء.
كنتُ أعيشُ كما تعيشُ الوردةُ التي تُزينُ الحدائقَ، الكلُّ يُعجبُ بجمالِها، ولا أحدَ يسألُها عن جذورِها، عن عطشِها، عن خوفِها من الفناء.
ربما لهذا كنتُ أُحبُّ المطرَ، لأنَّهُ الوحيدُ الذي يسقي الزهورَ دونَ أن يسألَها عن اسمِها، دونَ أن ينتظرَ منها جزاء.
وفي خضمِّ كلِّ هذا، جاءَ أبي إليَّ ذاتَ مساء، ألقى عليَّ خبرًا كالرصاصِ، هدمَ ما تبقى في داخلي من بُنيانِ الوفاء.
قالَ لي: "اليريس تحتاجُ سلامًا، وأنتِ وحدكِ من سيُطفئُ نارَ العداء."
لم أفهمْ ما أرادَ قولهُ، لكنني شعرتُ أنَّ كلماتهُ لم تكنْ عابرةً، بل كانت سهامًا ستُصيبُ روحي بالفناء.
"أميرُ مملكة داركفيل ينتظرُ زفافَكِ، لقد عُقدَ الاتفاقُ، وستكونينَ جسراً للسلامِ، بينَ مملكتينِ لا تعرفانِ إلا العداء."
شعرتُ أنَّ الأرضَ تميدُ تحتَ قدمي، أنَّ روحي تسقطُ في هاويةٍ، لا قرارَ لها، لا مفرَّ من الشقاء.
داركفيل!!... مملكةُ الظلامِ، مملكةُ الحقدِ والاستبدادِ، حيثُ لا تعرفُ الشمسُ طريقَ السماء.
كيفَ لي أن أكونَ أميرةً في قصرِهم؟ كيفَ لي أن أُصبحَ جزءًا من عالمِهم؟ كيفَ لي أن أُطفئَ نيرانَ الحربِ، وأنا لا أزالُ عالقةً في نيرانِ الفقدِ، أبحثُ عن نفسي بينَ الرمادِ؟
نظرتُ في عينيِّ أبي، رأيتُ فيهما رجاءً وقرارًا لا رجعةَ فيه، أدركتُ أنني لستُ سوى ورقةٍ في يدِ الرياحِ، عليها أن تستسلمَ لما يُمليهِ عليها القدرُ دونَ عناد.
حاولتُ أن أبحثَ عن الكلماتِ، لكنَّ صوتي لم يخرجْ، صمتّ كما يصمتُ القمرُ في ليلٍ بلا نجومٍ، يُضيءُ رغمَ وحدتهِ، رغمَ بردِ الهواء.
ابتسمتُ رغمَ انكساري، رغمَ أنني شعرتُ أنَّ عالمي قد انهار، وأجبتُه: "كما تشاءُ، يا أبي... سأكونُ أميرةَ السلامِ، حتى لو كانَ الثمنُ هو فنائي."
دخلتُ غرفتي، أغلقتُ البابَ خلفي كما لو أنني أُحاولُ حبسَ العالمِ خارجي، تركتُ خطواتي تجرُّني نحوَ ذلكَ الركنِ المنسيِّ، حيثُ تُقيمُ ذكرياتي في إطارٍ قديمٍ، هناكَ، حيثُ صورتُها لا تزالُ تنظرُ إليَّ بذاتِ الابتسامةِ التي أحرقتْ قلبي لسنواتٍ طوالٍ.
الفانيا... يا ظلِّي الذي رحلَ قبلي، يا روحًا تشبهني حدَّ الفناء، كيفَ استطعتِ تركي وحدي؟ كيفَ غدرتِ بي الحياةُ وخطفتكِ قبلَ أن نشيخَ سويًّا، قبلَ أن نُكملَ أحلامَنا التي كتبناها على ضوءِ القمرِ ذاتَ مساء؟
مددتُ يدي نحوَ الزجاجِ الباردِ، وكأنني أُحاولُ اختراقَ الزمنِ، أُحاولُ لمسَ دفءِ روحِكِ التي بقيتْ عالقةً بينَ الحبرِ والخطوطِ، لكنَّ كلَّ ما لمستُه كانَ فراغًا، كانَ ألمًا يتكاثرُ كلَّما حاولتُ أن أُقنعَ نفسي بأنَّكِ لستِ هنا، بأنَّكِ لن تعودي مهما صرختُ، مهما بكيتُ، مهما توسلتُ للسماءِ أن تُعيدَ لي نصفَ روحي الذي احترقَ في غيابِكِ.
كم مرةً حلمتُ بكِ، رأيتُكِ تضحكينَ، تمدينَ يدَكِ نحوي، ثم تختفينَ كطيفٍ هاربٍ من الصباح؟ كم مرةً صحوتُ على وسادةٍ مُبللةٍ، على قلبٍ مثقلٍ، على صدرٍ يختنقُ من وجعِ الفراغ؟
عشرُ سنواتٍ مرَّت، وما زلتُ أقفُ هنا، في ذاتِ المكانِ، أبحثُ عن بقاياكِ في المرايا، في الزوايا، في الأوراقِ التي لم تكتملْ حروفُها، لكنَّكِ لم تتركي لي سوى صدى رحيلِكِ، سوى فراغٍ أوسعَ من الكونِ، وسؤالٍ يطاردُني كلَّ ليلةٍ: لماذا أنتِ؟ لماذا لستُ أنا؟
كنتِ تقولينَ دائمًا: "سيلينا، نحنُ نعيشُ لنمنحَ الحياةَ لمن يحتاجُها، حتى لو أُنهِكَنا العطاءُ، حتى لو أحرَقَنا الحزنُ، سنكونُ النورَ في عتمةِ الأقدار."
لكنني الآن أتساءلُ، ماذا لو أنَّ النورَ نفسهُ احترقَ؟ ماذا لو أنَّ من ينقذُ الآخرينَ يحتاجُ هو من يُنقذُه؟ ماذا لو أنني تعبتُ، يا فانيا؟ ماذا لو أنني لم أعدْ أُريدُ أن أكونَ ضوءًا، لم أعدْ أُريدُ أن أكونَ شيئًا سوى ظلٍّ ينتهي كما انتهيتِ؟
أغمضتُ عينَيَّ، تركتُ الدموعَ تسقطُ دونَ أن أمسحَها، دونَ أن أخجلَ منها، فأنا لا أبكي اختي فحسب، بل أبكي نفسي معها، أبكي ذلكَ الجزءَ الذي ماتَ حينَ فارقتني، ذلكَ النصفَ الذي لم يعُدْ ينبضُ حتى وإن كنتُ على قيدِ الحياةِ.
خرجتُ من الغرفةِ، لكنني لم أخرجْ من ذكرياتِها، لم أخرجْ من الألمِ الذي تركتْهُ في قلبي، فكيفَ أعيشُ دونَ أن أكونَ ظلَّها؟ كيفَ أبتسمُ دونَ أن تكونَ بجانبي، دونَ أن أُشاركَها أحلامي، دونَ أن أرى في عينيها انعكاسَ روحي؟
تركتُ الصورةَ في مكانِها، وغادرتُ الغرفةَ، لكنني كنتُ أعلمُ أنَّني لا زلتُ هناك، مُعلقةً في زمنٍ لن يعودَ، وفي وجعٍ لن يُشفى، وفي حبٍّ لن يموتَ حتى وإن ماتتِ الحياةُ من حولي.
خطواتي بطيئة، كأنها تأبى أن تحملني نحو المجهول، كأنها تتمسكُ بالأرضِ التي عرفتُها، التي شهدتْ أحزاني قبلَ أفراحي، لكنَّ القدرَ لا يُصغي للعابرين، ولا يمنحُ أحدًا فرصةَ التراجعِ حينَ تحينُ لحظةُ الوداع.
لم أكدْ أخرجُ من ممراتِ القصرِ حتى وجدتُه واقفًا هناك، كبيرُ الخدمِ، الرجلُ الذي لم يكنْ مجردَ خادمٍ بل كانَ أبًا حينَ فقدتُ دفءَ أبي، سندًا حينَ احتجتُ أن أتكيءَ على روحٍ تُدركُ وجعي دونَ أن أُفصحَ عنه.
اقتربَ مني، عيناهُ المتجعدتانِ تحملانِ أكثرَ مما تستطيعُ الشفاهُ أن تبوحَ به، وصوتهُ المتهدجُ اخترقَ سكونَ المكانِ وهو يهمسُ: "هل حقًا سترحلينَ عنَّا يا سموَّ الأميرة؟"
لم أُجبه، لم أستطعْ، شعرتُ بالحروفِ تتكسرُ في حنجرتي، بالقلبِ الذي لم أُصغِ إليه يومًا وهو يرجفُ تحتَ ضلوعي، كأنَّهُ يُحاولُ الفرارَ من قفصِه، كأنَّهُ يُدركُ أكثرَ منِّي أنَّ هذا ليسَ وداعًا عاديًا، بل انطفاءٌ آخرُ في سماءِ عمري.
أمسكَ يدي بينَ راحتيهِ، كانَت دافئةً رغمَ قسوةِ الزمن، رغمَ كلِّ البردِ الذي يسكنُ القصور، وقالَ بصوتٍ مُتهدجٍ: "لقد كبرتِ أمامَ عيني، كنتِ طفلةً تُلاحقُ الفراشاتِ بينَ الممرات، ثم صرتِ شمسًا تُنيرُ هذهِ المملكة، كيفَ لها أن تخبو؟ كيفَ لها أن تُغادرَ وتتركني للظلام؟"
أردتُ أن أقولَ لهُ إنَّ الشمسَ قد تُجبرُ أحيانًا على المغيب، لكنني كنتُ أعلمُ أنَّ الكلماتِ لن تُغيِّرَ شيئًا، لن تُوقفَ ساعةَ الرحيلِ، لن تُعيدَ الزمنَ إلى الوراءِ ولو للحظةٍ واحدة.
ضغطتُ على يدهِ بصمتٍ، نطقتُ من خلالِ نظراتي ما لم أستطعْ أن أقولهُ بصوتي، ثم ابتعدتُ ببطءٍ، تاركةً وراءي جزءًا آخرَ من روحي، جزءًا سيبقى هنا مهما ابتعدتُ.
خرجتُ من بوابةِ القصرِ، حيثُ امتدتْ أمامي شوارعُ المملكةِ التي عرفَتْني كما أعرفُها، الطرقاتُ التي سرتُ عليها منذُ طفولتي، الأسواقُ التي رددتْ اسمي أكثرَ مما فعلَ الملوك، الوجوهُ التي لطالما لمحتُ فيها الامتنانَ حينَ كنتُ أُداوي الجراحَ، وأُطعمُ الجياعَ، وأُعيدُ الأملَ للمُنهكين.
لكنني لم أُردْ أن أُودِّعَ أحدًا هنا أولًا، كانَ عليَّ أن أذهبَ إلى مكانٍ آخرَ قبلَ أن أودِّعَ الجميع، إلى بيتٍ صغيرٍ أعلى التل، حيثُ تعيشُ امرأةٌ كانتْ تعني لي أكثرَ مما يُدركُ أيُّ شخصٍ آخر.
كانتْ هناكَ دائمًا، جالسةً أمامَ كوخِها العتيق، تراقبُ الغروبَ بعينَيها العجوزتين، كما لو أنَّها تُحصي الأيامَ التي مضتْ، والأيامَ التي ستأتي، وكأنَّها تعلمُ كلَّ شيءٍ قبلَ أن يُقال.
حينَ اقتربتُ من الكوخِ، رفعتِ العجوزُ نظرَها، وكأنَّها كانتْ تتوقعُ قدومي، وكأنَّها قرأتْ في ملامحي أكثرَ مما حاولتُ أن أُخفيه، لم تسألْ، لم تتحدثْ، فقط فتحتْ ذراعيها، ووجدتُ نفسي أهرعُ إليها كما كنتُ أفعلُ حينَ كنتُ طفلة.
"أعلمُ يا صغيرتي..." همستْ وهي تُمرِّرُ يدَها على شعري، وكأنَّها تُهدِّئُ العاصفةَ التي تدورُ داخلي، وكأنَّها تُباركُ الوداعَ قبلَ أن يُقال.
كنتُ أُريدُ أن أُخبرَها بالكثيرِ، أن أُخبرَها أنني خائفة، أنني لم أعتدِ الفراغَ الذي ينتظرُني، لكنني لم أفعلْ، فقط تمسكتُ بها، كأنني أُحاولُ التعلقَ بلحظةِ أمانٍ قبلَ أن أغرقَ في المجهول.
حينَ ابتعدتُ عنها، كانتِ الدموعُ قد حفرتْ طريقَها بصمتٍ على وجهي، لكنها لم تمسحْها، فقط ابتسمتْ وقالتْ: "كوني قويةً، فأنتِ لم تُخلقي للانكسار."
ابتلعتُ الألمَ، أعطيتُها آخرَ ابتسامةٍ تحملُ أكثرَ مما يبدو، ثم استدرتُ، تاركةً خلفي امرأةً لطالما اعتبرتها الوطنَ حينَ شعرتُ بالغربةِ في قصري.
عدتُ إلى شوارعِ المملكة، وكانَ كلُّ شيءٍ يبدو كما هو، لكنني كنتُ أشعرُ أنَّ العالمَ كلَّهُ تغيَّرَ، أو ربما أنا التي تغيَّرتُ، أو ربما لأنني كنتُ أرى الأشياءَ بعينِ من يراها للمرةِ الأخيرة.
بدأتُ أُودِّعُ الجميع، العجوزَ التي كانتْ تبيعُ الأزهارَ عندَ الساحة، الأطفالَ الذين كانوا يركضونَ نحوي في كلِّ مرةٍ أعبرُ الطريقَ، الحدادَ الذي كانَ يُصلحُ لي أسلحتي حينَ كنتُ أتدربُ، والنساءَ اللواتي كنَّ يأتينَ إليَّ حينَ يمرضُ أطفالُهنَّ، كانَت هذهِ المملكةُ أكثرَ من مجردِ وطن، كانتْ قطعةً منِّي، كيفَ أتركُها؟ كيفَ أُغادرُها وأنا لم أتعلمْ العيشَ دونَها؟
رأيتُ الدموعَ في أعينِ الجميع، في نظراتِ الرجالِ الذين لطالما رأيتُهم أقوياء، في ملامحِ الأطفالِ الذين لم يفهموا معنى الوداع، لكنهم شعروا بهِ رغمَ صِغرِ سنِّهم، في أنفاسِ العجائزِ اللواتي ترددنَ في قولِ الكلماتِ التي تُحطمُ القلب.
حينَ عدتُ إلى القصرِ، كانَ كلُّ شيءٍ صامتًا، كأنَّ الحياةَ حبستْ أنفاسَها حدادًا على رحيلِي، حتى الجدرانُ شعرتُ أنَّها تُحدِّقُ بي، كأنَّها تُحاولُ استيعابَ أنَّ الأميرةَ التي احتضنَتْها لسنواتٍ لن تكونَ هنا بعدَ الآن.
وقفتُ عندَ بوابةِ القصرِ، التفتُّ للمرةِ الأخيرة، كنتُ أُحاولُ حفرَ هذا المكانِ في ذاكرتي، أُحاولُ الاحتفاظَ برائحةِ الأرضِ التي لن ألمسَها مرةً أخرى، بصدى الأصواتِ التي ستصبحُ يومًا مجردَ ذكرى، ثم تنفستُ بعمقٍ، وأخذتُ خطوتي الأولى نحوَ قدري، نحوَ الغياب.
عدتُ إلى القصرِ، وقلبي يتناثرُ كأوراقِ الخريفِ الميتةِ تحتَ أقدامِ الريح.
لم أُدرك أنَّ خطواتي الأخيرةِ بينَ جدرانِه ستكونُ مثقلةً بهذا الصدى الجريح.
ناداني والدي، وصوتهُ كانَ أشبهَ بجرسٍ ينذرُ بانتهاءِ فصلٍ وبدءِ آخرٍ كئيب.
"سيلينا، جهّزي نفسَكِ، غدًا مساءً سترحلين."
كلماتهُ سقطت كالصواعقِ، تمزّقُ آخرَ خيطٍ كنتُ أتشبّثُ بهِ لأبقى قريبةً من الحياة.
رمقتهُ بعينينِ تحملانِ بقايا رجاءٍ متكسّر، لكنَّه لم يرَ سوى صدى قرارهِ يتردّدُ في أرجاءِ الغرفةِ الباردة.
"لا تحملي معكِ شيئًا، فقط حقيبةً تحوي ما تحبين."
حقيبة؟ أهذا ما تبقّى لي من مملكتي؟ من ذكرياتي؟
غضبي لم يكن صراخًا، بل صمتًا يشتعلُ في عروقي، كجمرٍ يخنقُهُ الرماد.
كيفَ لهم أن يختزلوا عالمي بحقيبة؟ أن يُفرغوا قلبي من كلِّ شيءٍ إلا الذكريات؟
تساقطت الكلماتُ على قلبي كسكاكينٍ باردةٍ، تجرحُ ولا تتركُ أثرًا للشفاءِ.
أشعرُ وكأنني زهرةٌ اقتُلعت من تربتها، تُساقُ لمصيرٍ مجهولٍ دون أن يُسأل عن عطائها.
مملكتي؟ أصدقائي؟ ضحكاتي التي كنتُ أخبئها في أركانِ هذا القصرِ؟
كلها ستتلاشى خلفَ عربةِ الرحيلِ، وستبقى روحي وحدها تسيرُ بلا دليل.
لكنني وقفتُ، رغمَ انكساري، كجبلٍ يعرفُ أن الريحَ لن تُسقطهُ وإنْ ناحت حولهُ طويلاً.
لن أبكي أمامهم، فدموعي أمانةٌ لا يراها سوى الليلِ حين يختبئُ القمرُ خلفَ الغيوم.
جمعتُ شتاتَ نفسي في صمتٍ، وفي قلبي صدى لحنٍ حزينٍ، يُردد: "ليسَ كلُّ رحيلٍ اختيارًا، وليسَ كلُّ وداعٍ عادلًا."
وها أنا أُجهزُ حقيبتي، لا أضعُ فيها سوى شظايا قلبي، وبعض الذكرياتِ التي تأبى أن تُفارقني.
كانَ الممرُّ طويلًا، كأنَّهُ يمتدُّ ليقيسَ ثقلَ قلبي في كلِّ خطوةٍ أخطوها.
صدى خطواتي يترددُ على جدرانِ القصرِ الصامتةِ، وكأنَّ الحجرَ ذاتهُ يبكي معي بلا صوتٍ ولا دمعةٍ.
شفاهي بدأت ترتجفُ وهمسَ قلبي يعلو، أُغنّي تهويدةً قديمةً، كانتْ أمي تُداعبُ بها أرواحَنا الصغيرةِ قبل أن ترحلَ بلا رجعةٍ.
كانت تغنيها لنا تحتَ ضوءِ القمرِ، بصوتٍ دافئٍ يبعثُ الأمانَ ويُطفئُ نارَ الخوفِ في صدورِنا المُرتجفة.
واليومَ… أُغنّيها وحدي، والفراغُ يحتضنُ صوتي كأنَّهُ آخرُ صديقٍ لم يتخلَّ عني.
"نامي يا صغيرتي، فالليلُ لا يؤذي الطاهرين…
عيونُ النجومِ تُراقبكِ، وتكتبُ لكِ السلامَ بينَ السحابِ الحزين."
كانتِ الكلماتُ تخرجُ كأنها تنهيدةُ وداعٍ تائهةٍ في ممراتِ الذاكرةِ.
أُغنّي وأنا أمرُّ فوقَ ظلالِ ماضٍ لم يعدْ موجودًا، فوقَ بقايا ضحكاتٍ انطفأتْ مع آخرِ نبضٍ في قلبِ أختي.
وصلتُ إلى قبرها، انحنيتُ هناكَ حيثُ النسيانُ مستحيلٌ، حيثُ الترابُ يحملُ ملامحَ مَن أحببتُ وافتقدتُ.
جلستُ فوقَ صمتِ الأرضِ، وغنّيتُ بصوتٍ منكسرٍ:
"هل تسمعينني يا توأمَ روحي؟ هل يسمعُ قلبُكِ هذا اللحنَ الذي لم أعُدْ أُتقنُ غناءَهُ بدونكِ؟"
دفنتُ وجهي بينَ يديَّ، كأنني أُخبّئُ حزني عن السماءِ، لكن كيفَ أُخفي دموعي عن نجمةٍ كانت تشهدُ صغري وضحكتي؟
صدى الأغنية تلاشى، لكن الألمَ بقي، يترددُ في قلبي مثلَ صدى جُرحٍ لم يلتئمْ.
ربتُّ على الترابِ بيدي المرتجفة، وكأنني ألمسُ أنفاسَها الأخيرةَ من جديد.
همستُ بخفوتٍ: "نامي بسلامٍ، وسأحملُ وجعكِ ما حييتُ، لن أغني هذه التهويدة لأحدٍ بعدكِ… إلا لنفسي حين يضيعُ صوتي في غيابكِ."
قمتُ، لكن قلبي ظلَّ هناك، مدفونًا معها تحتَ ذاك الترابِ الباردِ.
تركتُ قبرَها، لكن روحَها سارتْ معي، كظلٍّ لا يُفارقُ خطواتي.
مضيتُ في الممرِّ الطويلِ، وصدى الأغنية القديمةِ لا يزالُ يُلاحقني… يُلاحقُ قلبًا لم يعرف إلا الفقدَ، ولم يتقنْ إلا الوداعَ.
عدتُ إلى غرفتي، أجرُّ خطواتي كأنها تثقلها سنواتٌ من الوداعِ المؤجل.
الجدرانُ التي لطالما احتضنتني صارت تضيقُ عليَّ، وكأنها تهمسُ: "لن تعودي."
تقدمتُ نحو الخزانةِ بيدينِ مرتجفتين، لا لجمعِ أشياءٍ… بل لجمعِ ما تبقّى من روحي.
كانت ليانا وماريسا تقفانِ خلفي، بصمتٍ يشبهُ صلاةً حزينةً، عيونهما لا تجرؤُ على النظرِ في عينيَّ، خوفًا من أن تسقطَ دمعةٌ غيرُ مسموحٍ بها.
تنهّدتُ ببطءٍ وقلتُ: "لن آخذَ شيئًا كثيرًا، فقط… ما يُبقيني على قيدِ الذكرى."
مددتُ يدي نحو عقدٍ قديمٍ، تعتّقَ برائحةِ أمي الراحلة، كان من الذهبِ الخالصِ، لكنَّ قيمتَهُ لم تكن في بريقِهِ، بل في وهجِ الذكرياتِ التي يسكنُها.
ضممتُهُ إلى صدري، شعرتُ للحظةٍ وكأنَّ قلبَ أمي ما زالَ ينبضُ بينَ ضلوعي.
همستُ: "كنتِ الضوءَ، والآنَ صرتِ الظلَّ الذي أتبعُهُ."
ثم التفتُّ نحو الرفِّ الخشبيِّ القديمِ، حيثُ تقفُ زجاجةُ عطرٍ صغيرةٌ، عطرٌ لم يتبقَ منهُ سوى أثرٍ خافتٍ، يشبهُ تمامًا أثرَ أمي في قلبي… لا يُرى، لكن يُشعرُ به.
فتحتُها ببطءٍ، تنفستُ عبيرًا خفيفًا كأنهُ بقايا همسٍ من زمنٍ بعيدٍ، فاغرورقت عينايَ بدموعٍ لم تطلبْ إذنًا لتسقطَ.
"رائحتكِ لم تذبلْ… فقط أنا من فقدتُ القدرةَ على التنفسِ بها."
وأخيرًا، أخذتُ صورةً صغيرةً لأختي التوأم، وجهُها يبتسمُ لي من خلفِ الزجاجِ الباردِ، وكأنها تسخرُ من فكرةِ أنني ما زلتُ هنا بينما رحلتْ هي منذ زمنٍ.
مررتُ بإصبعي على ملامحِها، كانت حقيقيةً أكثرَ منّي.
"كان يجبُ أن أكونَ أنا… لماذا أنتِ؟"
جمعتُ هذه الأشياءَ الثلاثة، لا حقيبةَ ثقيلةً ولا أمتعةَ كثيرةً، فقط حملتُ ما يُثقلُ القلبَ أكثرَ من أيِّ وزنٍ ماديٍّ.
وقفتُ أمامَ المرآةِ، رأيتُ فتاةً بعيونٍ زرقاءَ ممزوجةٍ بالخضرةِ، وشعرٍ أبيضَ يكسوهُ الحزنُ لا البياضُ.
لم أرَ أميرةً، بل رأيتُ ظلَّ فتاةٍ ضائعةٍ تحملُ عقدًا، وعطرًا، وصورةً… وألفَ وداعٍ صامتٍ.
خرجتُ من الغرفةِ، وأغلقتُ البابَ خلفي… لكنَّ قلبي ظلَّ هناك، معلقًا على مسمارِ الذكرى، بينَ رائحةِ عطرٍ لم تعدْ لهُ صاحبةٌ، وصورةٍ تبتسمُ بابتسامةٍ لم تعدْ لي.
في صباحٍ باردٍ، كانَ الضبابُ يلفُّ مملكتي كما لو كانَ يُحاولُ إخفاءَ حزنهِ عن السماءِ.
لم تتوقفْ الأمطارُ الهادئةُ عن الهطول، خفيفةً كدمعةٍ لا تجرؤُ على السقوطِ، وكأنها تبكي بصمتٍ على رحيلي.
كان المطرُ يُشبهُ قلبي… لا عاصفًا، بل حزينًا بما يكفي ليغمرَ كلَّ شيءٍ بهدوءٍ قاتل.
ارتديتُ عباءتي البيضاءَ التي لم تعد تعني النقاءَ بقدرِ ما تعني الفراغ، وسرتُ في طرقاتِ مملكتي كما لو كنتُ أودّعُ جسدي قبلَ أن أغادرَهُ.
كلُّ حجرٍ، كلُّ رصيفٍ، كلُّ زقاقٍ… كانَ ينطقُ باسمي بصوتٍ لا يسمعهُ أحدٌ سواي.
خطوتي ثقيلةٌ، ليس لأن الطريقَ موحلٌ، بل لأن قلبي مثقلٌ بذكرياتٍ تخنقُني أكثرَ من أيّ وداعٍ.
مررتُ بالسوقِ القديمِ، حيثُ اعتدتُ أن أبتسمَ للأطفالِ وأمنحَ بائعي الزهورِ بعضَ القطعِ الذهبيةِ مقابلَ وردةٍ واحدةٍ.
اليومَ لم يكن هناكَ وردٌ… فقط وجوهٌ حزينةٌ، وعيونٌ تتجنبُ النظرَ في عينيَّ، خوفًا من أن يتساقطَ الحزنُ منهما كالعدوى.
رأيتُ امرأةً عجوزًا كانت قد فقدتْ ابنها في أحدِ النزاعاتِ القديمةِ، كنتُ أزورها دائمًا…
اقتربتُ منها، وضعتُ يدي على كتفِها المرتجفِ، فقالت بصوتٍ مكسورٍ:
"من سيأتي الآنَ بعدَ رحيلكِ ليجعلَ وحدتي أقلَّ وطأةً؟"
ابتسمتُ رغمَ الألمِ، وهززتُ رأسي كأنني أقولُ: "سأظلُّ هنا… ولو في الذاكرةِ فقط."
واصلتُ السيرَ نحوَ التلِّ، حيثُ يقفُ شجرةُ السنديانِ العتيقةُ التي لطالما كنتُ أختبئُ تحتها من المطرِ حين كنتُ صغيرةً.
جلستُ تحتها اليومَ، لكنني لم أهربْ من المطرِ هذه المرة، بل تركتُهُ يغسلُ وجهي، لعلَّهُ يزيلُ آثارَ الفقدِ المرسومةِ على ملامحي.
همستُ للشجرةِ:
"كنتِ شاهدةً على ضحكي… فكوني شاهدةً الآنَ على صمتي."
نظرتُ نحو الأفقِ، كان الضبابُ يبتلعُ حدودَ مملكتي تدريجيًا، كما لو كانَ يحاولُ سحبي معه.
شعرتُ حينها أنني لم أكنْ أميرةً لهذه الأرضِ… بل كنتُ مجردَ عابرةٍ كتبتْ اسمها على الرملِ، وجاءَ المدُّ ليأخذَهُ بعيدًا.
وقفتُ أخيرًا، ألقيتُ نظرةً أخيرةً على كلِّ شيءٍ:
على الطرقِ التي عرفتْ وقعَ أقدامي، على البيوتِ التي احتضنتْ دفءَ شعبي، عل
ى السماءِ التي لطالما حلمتُ تحتها.
ثم همستُ…
"وداعًا يا وطنًا كانَ قلبًا ينبضُ بداخلي، أما الآنَ… فقد صارَ قبرًا أحملهُ معي أينما ذهبتُ."