كانت السماء فوق الجزائر العاصمة رمادية، تنذر بالمطر، والهواء محمّل برائحة البارود والعرق والخوف.
في الأزقة الضيقة للقصبة، كان الزمن يخطو على أطراف أصابعه؛ كل حجر، كل نافذة، كل ظلّ يحمل حكاية مقاوم أو خائن أو شهيد.
في قلب هذا المشهد المتوتر، كان يوسف بن سميان يشدّ البرنوس الرمادي على كتفيه، يخفي تحت طياته مسدسًا إيطاليًا قديما. عيونه السوداء كانت ترصد كل حركة، وأذنه تلتقط كل همسة.
لقد صدر الأمر: "الليلة، القصبة تشتعل."
منذ شهور طويلة، كانت خيوط الانتفاضة تُنسج خفية تحت أنوف الضباط الفرنسيين. في المساجد، في المقاهي، في البيوت، كان الرجال والنساء يحيكون الخطة كما يُحاك السجاد الأمازيغي: خيط فوق خيط، صبر فوق صبر.
"يوسف، تقدم!"
صوت علي بودراع، قائد الخلية، قطع عليه تأملاته. كان علي رجلا في الأربعين، ذو لحية خفيفة وندبة عميقة على وجنته، عاش سنوات السجن الفرنسي وأفلت منهم بأعجوبة.
وقف خلفه زهرة منصوري، الفتاة التي تحدت عائلتها وتعلمت تفكيك القنابل قبل أن تكمل العشرين.
تحركوا جميعًا عبر الأزقة المظلمة، كل واحد يعرف دوره.
الليلة لم تكن كغيرها. كانت الليلة التي اتفق فيها رجال القصبة أن يجعلوا المحتل يدفع ثمن كل دمعة، كل صفعة، كل شهيد عُلِّق جسده فوق أعمدة المدينة.
في ساحة "باب عزون"، كان الجنود الفرنسيون يتمركزون في نقاط تفتيش، مستخفين بعيون الأطفال الذين يرمقونهم من وراء الستائر.
يوسف كان يعرف أن الخطوة الأولى محفوفة بالموت، لكنه لم يتردد.
بإشارة من علي، اندفعوا.
دوت أول رصاصة. تبعها انفجار مدوٍّ عند الحاجز العسكري.
صرخات الجنود شقت السكون، وأصبح الليل بركانًا من النار والدخان.
كان يوسف يجري بخفة فوق الأحجار المبللة، يراوغ الرصاص، يشعر بكل نبضة دم في عروقه كأنها صرخة وطن.
وقف عند زاوية ضيقة، التقط أنفاسه، ثم صوب مسدسه نحو جندي فرنسي كان يصيح في رفاقه بلغة فظة:
"Attention! C'est une embuscade!"
طلقة واحدة أسقطته، واستمر يوسف بالجري، قلبه يلهث مع الريح.
وسط الفوضى، كان هناك من يراقب بصمت.
رشيد بوعلام، شاب من أبناء القصبة، خان الثورة مقابل حفنة من الفرنكات الذهبية.
من نافذته الضيقة، أشار للضباط الفرنسيين بمخبأ المقاومة الرئيسي.
لم يكن يعلم أن زهرة كانت قد لمحته.
حين أدركت الخيانة، ضغطت أسنانها غيظًا، لكنها لم تتوقف.
الليلة كانت للثورة، وليس للثأر... بعد.
تحولت القصبة إلى ميدان معركة.
كان صوت الرصاص يصطدم بالجدران القديمة، يُفتت الحجر، يحرق الخشب، ويوقظ الموتى من قبورهم.
في أحد الأزقة، اشتبك يوسف وجهًا لوجه مع ضابط فرنسي. كان الضابط يبتسم ابتسامة متغطرسة، ممسكًا بسكين طويل.
"أسلم نفسك أيها الكلب!" صرخ بالفرنسية.
لكن يوسف، بكل هدوء الصحراء التي حملها أجداده في عروقه، رفع مسدسه وأطلق النار.
سقط الضابط متشنجًا، بينما كانت عيناه تحدقان في السماء التي لم يسبق له أن فهمها.
حين اقترب الفجر، كانت القصبة قد نزفت كثيرًا.
جثث الفرنسيين تناثرت كالأوراق اليابسة، لكن دماء المقاومين كانت أثمن ما سال على تراب الأزقة.
اجتمع من تبقى من الخلية قرب الجامع الكبير.
كان علي ينزف من ذراعه، وزهرة تمسك بجرح مفتوح في خاصرتها.
يوسف، وإن كان قد نجا جسديًا، إلا أن عينيه حملتا ألف حرب وألف وداع.
"لقد سمعوا صرختنا الليلة"، قال علي وهو يبتسم رغم الألم.
"وسيسمعونها غدًا، وبعد غد، حتى تشرق شمس الجزائر حرة."
في إحدى الزوايا البعيدة، كانت امرأة عجوز تلف جسد حفيدها الشهيد في كفن أبيض.
كانت تغني بلحن قديم، أغنية عن الفرسان الذين لا يموتون أبدًا، عن الأرض التي لا تخون، عن الوطن الذي ينتظر أبناءه ولو بعد مئة عام.
وفي لحظة خاطفة، حين لامست أشعة الفجر الأولى قباب القصبة، بدت الجزائر وكأنها استيقظت.
رغم الدخان والدمار، رغم الخيانة والفقدان، كان هناك شيء لا يُهزم.
شيء يتنفس مع كل حجر، ويصرخ مع كل قلب ينبض:
"سنحيا... وسنحيا أحرارًا.