تحتَ السماء المظلمة التي غمرها الغبار المتصاعد من أنقاض قصر سكارليث، كان كل شيءٍ حول الثلاثة يتحول إلى رماد. الحرارة المنبعثة من الهجمات، الصرخات التي اختنقت في زوايا القصر المنهار، ووميض الطاقة السوداء المتطاير في كل اتجاه، كانت تجعل المكان يبدو وكأنه فُتح فيه باب إلى الجحيم ذاته.
جاستين، بجسده المشوّه وابتسامته المشبعة بالجنون، أطلق سلسلة من الهجمات العشوائية، سيفه يقطع الهواء بصافرات حادة، كل ضربة منه تُترك خلفها أثرًا من الدمار والفساد. كانت عيناه المتوهجتان تتراقصان بلذة القتال، ولسانه يلهث بين الضحكات والتنهيدات المريضة.
كاستر، رغم عمره، لم يكن سوى إعصار من الحركات الدقيقة. كانت يداه تتحركان بتناغم قاتل، يتحاشى سيف جاستين وكأن جسده يحفظ إيقاع الموت ذاته. رمحه الأسود، الذي لم يُستخدم بعد، كان لا يزال مغروسًا في الأرض خلفه، يتوهج كلما اشتدت ضراوة المعركة.
أما العجوز... فكان شيطانًا من طراز آخر. دوائره السحرية كانت تدور حوله، تتمدد وتنكمش، ترسل أعمدة ضوء حارقة في وجه جاستين، بينما يهمس بلغات منسية منذ آلاف السنين.
لكن جاستين لم يكن لينكسر. بل بالعكس... كان يضحك.
"كلما جرحتموني، شعرت بأنني أعود إلى شكلي الحقيقي... أنتم لا تفهمون، أنا لا أقاتل من أجل النصر، بل لأجل الإفراج."
صرخ صرخة مدوية، فتمددت يده اليمنى لتُحيط بجدار الغرفة بأكمله، ملتفة كالثعبان، محاولة سحق الاثنين معًا. لكن كاستر صرخ بدوره:
"الآن!!"
اندفع نحو الرمح الأسود، قبض عليه بكلتا يديه، ومن ثم قفز في الهواء، طاقته تتصاعد بشكل مرعب. رمزه العائلي احترق على جلده، طاقة عائلة رافيندال بدأت تتحرر من قيودها، وكل شيء حوله توقف للحظة، كما لو أن العالم حبس أنفاسه.
"إبادة ظلِّ الدم!"
رمى بالرمح نحو قلب جاستين بكل قوته، فشقت الضربة الفراغ، وأطلقت صرخة أرواحٍ مذبوحة عالقة في النصل منذ قرون... ضربة لا يمكن النجاة منها.
لكن...
شيء ما حدث.
قبل أن تصل الضربة، تجسد أمام جاستين ظلٌ بشري، تَشوَّه الضوء حوله للحظة، وانشق الفراغ ليظهر من داخله فتى...
شاب في الخامسة أو السادسة عشر من عمره، ذو قرون سوداء بارزة تلمع بلون الفحم الخام، وجهه كان حادًا كالسيف، لكنه لم يكن قاسيًا. كان وسيمًا... لكن بطريقة مرعبة. شعره الأسود الطويل تدلى على كتفيه، يتماوج مع الرياح الخانقة في القصر، وعيناه... لم تكن فيهما حياة. برود مطلق، صمت كوني، كأن الزمن نفسه لا يُؤثر فيه.
رمح كاستر... لم يصب جاستين.
لقد اخترق نصف صدر هذا الفتى الجديد، مزق لحمه وعظامه، خرج من ظهره وتثبّت به في الهواء، بينما بقي واقفًا، دون أن يتزحزح.
وجهه لم يُظهر ألمًا.
يده اليمنى الوحيدة المتبقية أمسكت بالرمح بهدوء غريب... سحبته من جسده وكأن شيئًا لم يكن. نصف وجهه كان محطمًا، مشوهًا، وكأن الرمح اقتلع الحياة منه، لكن عينيه بقيتا كما هما... لا تشعان سوى بالفراغ.
خلفه، وقف جاستين وقد أصبح أكثر هدوءًا. لكن لم يكن هذا هو جاستين القديم. لا...
كان يرتدي قناعًا أبيض باكيًا، وتحت عيني القناع، كانت هناك دموع من الدماء الجافة، متصلبة على الوجه الصامت، كأنما يبكي على شيء... أو على أحدٍ ما.
كاستر تجمد في مكانه.
المرافق العجوز ارتجف لأول مرة.
أما الشاب، فرفع رأسه ببطء، وقال بصوت منخفض مبحوح... كأنما يتحدث من داخل قبرٍ قديم:
"...أنتم لم تُدركوا بعد... أن هذه الحرب قد بدأت بالفعل."
ثم اختفى الرمح من يده.
وأصبحت الأرض تحته تتشقق.
وظهرت خلفه أعين... عشرات، بل مئات العيون المتوهجة باللون الأسود، بدأت تُفتح في الظلال.
الدماء تحت أقدامه بدأت تتبخر، الهواء أصبح أثقل، وقلوب الجميع شعرت بشيء واحد:
"الكارثة وصلت."
لكنه لم يتحرك.
بل قال بهدوء:
"...لا تتأخر، يا أدريان."
الفصل لم ينتهِ بعد.
القصر... لم ينهار بعد.
الدماء... لم تجف بعد.
القتال... لم يبدأ حقًا بعد.
الدم لا يزال يسيل على أرضية القصر الذي أصبح أشبه بمقبرة مفتوحة. الجدران كانت تتنفس الهلاك، والأعمدة التي صمدت لأجيال، تتهاوى الآن على صرخات الموتى.
جاستين كان يقف بصمت، جسده يتنفس الشر، بينما الفتى... ذاك الذي تلقى ضربة الرمح بدلًا منه، كان لا يزال ممسكًا به بيده المتبقية. الدم يسيل من وجهه، من صدره المهشم... لكن عينيه بقيتا ثابتتين، باردتين، بلا ألم... بلا دهشة... بلا حياة.
ثم... حدث ما لم يكن في حسبان أحد.
بدأت عظامه تتصلب، صرير لحم يتحول إلى صخر. جسده بدأ يعيد بناء نفسه كما لو أن الجروح لم تكن أبدًا، وكأن الرمح لم يمسّه. اللحم ينمو على اللحم، الجلد يتمدد، والعين التي كادت تُقتلع عادت لتتوهج بهدوءٍ مقلق.
"مستحيل..." تمتم العجوز، وعيناه تتسعان.
"أي نوع من... الكائنات أنتما؟!" صرخ كاستر وهو يلوّح برمحه مرة أخرى.
لكن ما حدث بعدها كان برقًا أسود. تحرك الفتى بخطوة واحدة فقط... فقط خطوة... فاخترق قلب العجوز بكفه العاري. صرخة العجوز لم تخرج، لأن قلبه قد سحق قبل أن يدرك موته. رفعه بيد واحدة، ثم قطعه إلى نصفين أمام كاستر.
كاستر زأر بأعلى صوته، واندفع، لكن جاستين كان قد بدأ يتحرك. سيفه ارتجف في يده، ينبض وكأنه مخلوق حي، ثم اندفع نحوه من الخلف، وقبل أن يلتفت كاستر، كانت يد جاستين المليئة بالعيون قد التفتت حول رأسه.
"رأيتُ الكثير... لكن نهايتي... هنا؟" تمتم كاستر، وقبل أن يكمل، شد جاستين رأسه بقوة وحشية، وسُمِع صوت تمزق عنق، تلاه انفجار في الجمجمة.
تطاير الدم كأن المطر نزل من السقف.
سقط جسد كاستر بلا رأس.
وقف جاستين وسط الخراب، جسده يرتجف من النشوة. خلفه، الفتى لا يزال واقفًا، صامتًا، نظراته تحرق الهواء.
جاستين بدأ يضحك. ضحكته كانت جنونية، طويلة، أشبه بعواء وحش.
ثم... من يده الحمراء المشوهة، أخرج عرشًا أسود.
العرش لم يكن مصنوعًا من حجر أو معدن... بل من عظام.
نُقشت عليه وجوه تصرخ، كأنها أرواح من صرخات من قُتلوا على مر التاريخ.
من خلف العرش، خرجت سبعة مسامير سوداء، طويلة، ملتوية، مغطاة بطبقة داكنة تشبه قطرات الزيت الفاسد.
ثم، بدأ بجمع الرؤوس.
رأس كاستر رافيندال٬ رأس العجوز ٬
رأس الإمبراطور فالكون فيرزادن، حاكم إمبراطورية فيرزادن العظيمة،
رأس الإمبراطور روبيرت نيفيريا، قائد إمبراطورية نيفيريا٬
رأس الإمبراطور ريكس زاندرا، قائد إمبراطورية زاندرا٬
رأس الإمبراطور أليستر إيسكار، سيد إمبراطورية إيسكار السحرية.
سبعة رؤوس... تم تعليقها على المسامير السوداء خلف العرش، الواحدة تلو الأخرى، والدم لا يزال يقطر منها على الأرض، يشكّل دائرة حمراء تلتف حول العرش.
لكن الأمر لم ينتهِ بعد.
جاستين مشى ببطء نحو مجموعة أخرى من الجثث، هذه المرة... لم تكن رؤوسًا لمحاربين، بل...
رأس أليس سكارليث – زوجة بلاين، عيناها لا تزالا مفتوحتين، تبكيان موت أطفالها.
رأس ويليام سكارليث – الابن الأكبر، كان لا يزال يرتدي درع العائلة.
رأس إيميليا سكارليث – الفتاة التي حاولت حماية أختها الصغيرة.
رأس أرينا سكارليث – لم تتجاوز العاشرة... رأسها الصغير غُسل بالدم، عيناها مغلقتان كأنها تحلم.
تم تعليق الرؤوس الأربعة على شكل دائرة حول العرش، ومعها رأس بلاين نفسه – جعلها خمسة رؤوس تدور حول العرش مثل طقوس مظلمة.
جاستين جلس على العرش.
السيف في حجره.
يده المشوهة تستريح على ذراع العرش.
وبجانبه، وقف الفتى...
عيناه الباردتان، جلده المشوه، وجهه الهادئ.
جلس الاثنان وسط الدماء والرؤوس، وسط الخراب، وسط الجحيم الذي خلقاه.
وساد صمت...
صمت ما قبل الأسطورة.
...
...
كان الثلج يسقط بصمت مميت، يغطي العالم ككفن أبيض يخفي تحته تعفن الأرض وخرابها. في أعلى قمة منسية بين جبال “نيرفاليس”، وقف العجوز “كرومكا” على صخرة حادة الشكل، يحدق في السماء الرمادية التي تنزف بلورات جليدية بلا توقف.
الريح تعوي من حوله، تجلد جلده المتشقق والقديم، لكنّه لم يرتجف. لم يكن يرتدي شيئًا سوى عباءة رمادية قديمة، متآكلة الحواف، وشعره الأبيض كان يتطاير مع الريح كأنه شبح زمن مضى.
جفونه كانت ثقيلة، لكنه لم يكن نائمًا.
كان يرى.
تمتم بصوت متشقق بالكاد يُسمع:
"أدرياس... أظن أنك رأيت كل شيء."
لم يجبه أحد.
لا صوت، لا طيف، لا نسمة. وحده الثلج.
ظل كرومكا يحدق في السماء لدقيقة... ثم دقيقتين... ثم خمس، قبل أن يحرك قدمه أخيرًا ويبدأ في النزول عن القمة، حيث لا طريق، فقط هاوية من الثلج... لكنه لم يتوقف.
كل خطوة كان يخطوها على الامتداد الأبيض، كانت تغرق في عمق الأرض كأن الأرض تبتلعه، لكنه لا يسقط. كان يسير وكأنه لا ينتمي لهذا العالم، وكأن الثقل الوحيد الذي يحمله هو في ذاكرته.
**
كان الزمن هناك غريبًا.
لا شمس، لا قمر، فقط اللون الأبيض... والأصوات القادمة من عمق الثلج.
كان يسير بخطى ثابتة، خطوات من يعرف طريقه رغم أنه لا يرى شيئًا أمامه سوى الضباب الكثيف والثلج الكثيف والأفق الكثيف.
**
بعد ساعات، أو ربما أيام، توقف عند حجر مدفون نصفه في الثلج. انحنى ببطء، وأزاح الثلج عن وجه الحجر.
كان عليه رمز... قديم، شديد الغرابة. دائرة تتقاطع مع خيوط مثل شبكة عنكبوت... وفي المركز، عين مغمضة.
كرومكا مد إصبعه، ولمس العين.
وفور لمسه لها، تزلزلت الأرض تحته ببطء، وانشق الجليد على جانبيه كأن شيئًا عملاقًا تحرك في الأعماق.
لكنه لم يتراجع.
أخرج من جيبه زجاجة صغيرة، بداخلها قطرة واحدة فقط من سائل أسود يتلوى في الزجاج وكأنه حي.
فتح الزجاجة... وسكبها على الحجر.
وهمس:
"انتهى الفصل الأول... فليبدأ التالي."
في لحظة، تراجع الثلج من حوله.
كل شيء تحول إلى رماد أبيض.
والأرض تحت قدميه تغيرت، لم تعد صلبة... بل أصبحت كلمات.
نعم، الأرض نفسها بدأت تكتب وتُسطر حروفًا تمتد إلى الأفق.
كان يمشي على نصوص، كل سطر ينفتح بمجرد أن يخطو فوقه:
“في اليوم الذي جلس فيه على العرش الأسود، بدأ كل شيء يُكتَب من جديد.”
“لكن ما لا يعرفه هو أن هناك من سبقه، من راقب، من احتفظ بالحقيقة، ومن سيرويها لاحقًا.”
“كرومكا، حافظ السر. الذاكرة التي لم تُحرَق.”
كان يسير فوق نصوص تصرخ.
كل خطوة يخطوها كانت تُعيد مشاهد دموية، لمعارك، لخيانة، لرؤوس مفقودة، لأطفال يُذبحون، لملوك يُسحقون.
رأى بلاين سكارليث يُقطع رأسه.
رأى كاستر يُمزق صدره.
رأى أرينا الصغيرة تسقط... وعيناها تبحث عن أمها.
لكن لم يكن خائفًا.
كان يعرف... كل هذا مكتوب.
وكان يجب أن يُكتب.
بعد مئات الأمتار... أو ربما آلاف، وصل إلى سهلٍ مسطح... لا شيء فيه سوى تمثال أسود ضخم.
التمثال كان لرجل... يجلس على عرشٍ يشبه تمامًا ما صنعه جاستين.
لكن الرأس كان مفقودًا.
فقط الجسد، واليد المشوهة، والسبعة مسامير.
في الدائرة المحيطة بالتمثال، كانت هناك عشرات الأحجار الصغيرة... عليها أسماء لم تُكتَب بعد.
اقترب كرومكا، وبدأ ينحت اسمًا جديدًا على أول حجر:
“أرينا سكارليث”
ثم الثاني:
“إيميليا سكارليث”
ثم الثالث...
واحدًا تلو الآخر.
كلما كتب اسمًا، أضاء الحجر لوهلة... ثم خبا.
وعندما أنهى، جلس أمام التمثال.
أخرج دفترًا جلديًا قديمًا، وبدأ يكتب فيه بخطٍ بطيء، وعيناه تتحركان عبر الهواء، كأن هناك شاشة غير مرئية أمامه.
كتب:
"الفصل التالي سيبدأ حين يعود الدم الأخير إلى الأرض الأولى. حين يفتح الباب الذي لا باب له. حين يتكلم الصمت."
"وسيكون أول من يسمع... هو الذي لم ينطق أبدًا."
أغلق الدفتر، ووضعه بجانبه، ثم تمدد على الثلج.
رفع عينيه للسماء... حيث لا نجوم.
وهمس:
"أدرياس... أخبرهم أنني لم أخنهم."
ثم توقف عن الحركة.
الثلج غطاه ببطء...
حتى اختفى كليًا.
لكن الدفتر بقي.
وكانت صفحته الأخيرة... ما تزال تكتب من تلقاء نفسها.