[منظور إيثان سكارليث]
كان الهواء باردًا. لا، ليس باردًا فقط… بل قاتلًا، كأن كل نفس يسحب معه ذرات من روحي.
خُطاي كانت ثقيلة، بل أثقل من الألم الذي سكن داخلي لسنوات.
أخيرًا… خرجت من غابة الكابوس.
كانت هناك بوابة… فتحتها لي تلك الطفلة الغريبة ذات القرون… سيرين، التي لم تتكلم سوى بكلمات غامضة:
"لقد نادوك… لقد حان الوقت لرؤيتك."
وبعد أن عبرت البوابة، اختفت. لا أثر، لا صوت، لا ظل.
ظننت حينها أن الرعب انتهى.
لكنني كنت ساذجًا… جدًا.
ما إن ظهرت في الجانب الآخر حتى صُعقت.
كأن شيئًا ضخماً ضرب قلبي بعنف.
السماء كانت ملبدة… السحب داكنة، والريح عاصفة، لكن… هذا لم يكن ما جمّد دمي.
كان… القصر.
قصر عائلة سكارليث.
كان مدمرًا تمامًا.
أنقاض محترقة، جدران مشققة، وسقف منهار، وأرض ملطخة بلون داكن… أحمر، أسود… مختلط.
كل شيء كان يحمل رائحة الموت.
لم أستطع الحركة للحظات.
شعرت وكأن الهواء حولي تجمد، وكأن العالم كله توقف عن التنفس.
"لا… مستحيل…" همست… أو حاولت.
كل شعرة في جسدي وقفت.
قلبي كان يضرب بقوة… لا، لم يكن ينبض، كان يصرخ.
تقدمت بخطوات ثقيلة، مترددة… كمن يقترب من جثة يعرفها، لكنه لا يريد أن يرى الوجه.
كان داخلي خوف واحد فقط.
خوف من أن تتحقق الرؤيا التي زارتني قبل سبع سنوات… عندما كنت في التاسعة.
رؤيا لم أخبر بها أحد.
رأيت فيها عرشًا أسود… محاطًا بخمسة رؤوس بشرية، معلقة بشكل دائري حوله… لم أستطع تمييز ملامحهم، فقد كانت مشوهة بالدماء، بينما كنت قد شعرت بأنني أُنتزعت من جزء من إنسانيتي.
...
...
وقفت أمام أنقاض البوابة الرئيسية.
الدماء كانت ما تزال رطبة.
كأن المجزرة حدثت للتو.
الهواء كان ملوثًا برائحة الحديد والنار والرماد.
كل خطوة داخل الأنقاض كانت كأنني أخوض في ذكريات تموت… أحذية ممزقة، شُرف محترقة، سيوف محطمة.
ثم رأيته.
المشهد.
تجمدت قدماي.
الزمن توقف. الهواء تجمد.
لم أعد أتنفس.
سقطت على رُكَبَيّ.
كان هناك… العرش.
عرش أسود… من مادة لا أعرفها، كأنها من حجر ودم وظلال متجمدة.
وحوله… خمس رؤوس بشرية معلقة بدقة، كأنها زينة جحيمية.
في دائرة مثالية.
خمس رؤوس… وعرفتهم… فورًا…
أبي… بلاين سكارليث.
ملامحه القوية، المفتتة الآن، والدم المتجمد يسيل من عنقه.
أمي… أليس سكارليث.
وجهها الذي كان دومًا دافئًا، الآن شاحب، بارد، وعيناها مفتوحتان… دون حياة.
أخي الأكبر… ويليام.
الابتسامة التي كان يزين بها وجهه… الآن مشوهة بفك مكسور وعين مفقوءة.
إيميليا… أختي الكبرى.
كانت الأجمل بيننا… لكنها الآن؟ لا أستطيع أن أصف… ما تبقى من وجهها.
أرينا… الصغيرة…
الزهرة التي لم تتفتح بعد… رأسها المتدلي من المسمار… وعيونها التي كانت فارغة، وكأنها كانت تلومني… قبل أن تُقتل.
أردت أن أصرخ. أن ألعن. أن أبكي.
لكن لم يخرج شيء.
حتى الدموع… كانت قد تجمدت داخلي.
ثم رأيت ما كان خلف العرش.
سبعة رؤوس أخرى.
كلهم… مصلوبون.
متدلين.
وعيونهم مفتوحة، كأنهم ماتوا وهم يرون العرش يرتفع.
ثم…
نظرت إلى العرش.
وجهي تجمد تمامًا.
كان هناك… جدي. جاستين سكارليث.
جالس على العرش الأسود.
يده اليسرى كانت حمراء، مشوهة… تحتوي على عشرات العيون التي كانت تتحرك ببطء، ترمش، تنظر نحوي.
نصف وجهه كان كأن النيران أكلته… الجلد ذائب، والعين اليمنى تحترق بلا توقف.
لكن رغم كل شيء… كان يبتسم.
ابتسامة باردة، هادئة، مرعبة.
وبجانبه…
رأيت من كان يقف بصمت.
شاب في عمري.
ذو قرنين ملتويين للخلف، بشرته باهتة، ووجهه لا يحمل أي مشاعر.
كان ينظر نحوي… لكنه لم يهتم.
كأن وجودي لم يكن أكثر من ذبابة في غرفة مغلقة.
شعرت بالبرد يتسرب إلى عظامي.
صوت في داخلي همس:
“لقد تحققت الرؤيا…”
“كل ما رأيته قبل سبع سنوات… حدث الآن.”
لم أستطع التحدث.
لم أستطع أن أصرخ.
لم أستطع أن أهرب.
لم أستطع أن أُهاجم.
ولم أستطع أن أبكي.
كان كل شيء داخلي ميتًا.
والأصعب من الموت… أن تعيش لحظة موتك وأنت واقف.
كل شيء كان ينهار في عقلي.
طفولتي… عائلتي… ذكرياتي… الضحكات… حتى كوابيسي السابقة أصبحت أحنّ إليها مقارنة بما رأيته الآن.
العالم من حولي كان ساكنًا… لكنه يضج بالصراخ.
صرخات الموتى… وصرخة واحدة بداخلي لم أستطع إخراجها:
"لماذا؟!!"
لكن لا أحد أجاب.
فقط العرش… فقط الرؤوس… فقط العيون… والقرون… والدماء.
وهناك… في وسط هذا الجحيم.
جلس جدي… على عرش جثثنا.
...
...
الهواء كان ثقيلًا…
كأن الثلج في السماء توقّف عن الهبوط احترمًا لما سيأتي.
كان عقلي ما يزال مشوشًا، مغطّى برماد المصيبة.
الدماء في عروقي بالكاد تتحرك.
عيناي… لا تبكيان. فقط… تنظران للأعلى.
ثم سمعت صوته…
صوت جدي… جاستين سكارليث.
ببطء… بكلمات ثقيلة، مشوبة بالسخرية والندم، قال:
"أوه… تبقّى واحد..."
"إيثان… لقد نسيتك حقًا."
تجمّدت.
شعرت بشيء ما في صوت جدي لم أعهده من قبل.
لم يكن فخرًا… ولا غضبًا… بل شيء آخر… شيء… مظلم… عميق… كأنه يكلمني من أعماق حفرة لا قاع لها.
بدأ يتحرك.
خطواته كانت بطيئة، لكنها ثقيلة، كأن كل خطوة تغرس في الأرض جرحًا جديدًا.
كنت ما أزال على ركبتيّ.
لم أستطع النهوض.
لم أستطع الهرب.
لم أستطع حتى أن أشيح بنظري عنه.
الدماء حولي كانت دافئة رغم الثلج.
وجدي… يقترب.
وجهه المشوه… الأعين في يده… كل شيء فيه كان كابوسًا حيًا يتحرك نحوي.
لكني لم أكن أسمع كلماته بوضوح.
كان صوته كصدى بعيد يتردد في رأسي، يتكسر، يتلاشى.
عقلي… توقف عن التفسير.
ثم…
ظهر شيء.
من خلفي…
من نقطة في الهواء لم تكن هناك من قبل…
ظهرت بقعة سوداء.
مجرد ظل… لكن ليس ظلًا عاديًا.
ظل لم يتبع أي نور.
ظل كأنه تمزق في نسيج العالم نفسه.
تجمّد جاستين فورًا.
توقف في منتصف خطوته، عيناه اتسعتا، ويده الحمراء المُغطاة بالأعين بدأت ترتعش.
قالها… بصوت خافت… أقرب إلى الهمس المرتجف:
"مستحيل…"
ثم بصوت أخفض… كأن اسمه وحده يُحرق اللسان:
"الـ... هاوي؟"
الهواء من حولنا… تغير.
كأن الكون نفسه خاف.
حتى الرجل الذي كان يقف بجانبه، صاحب القرنين والوجه البارد الذي لم يُظهر أي مشاعر منذ ظهوره… تراجع خطوة، للحظة اهتزت ملامحه.
عيناه… ضاقتا.
شفته السفلى ارتجفت.
الخوف تسلل حتى إلى من لا يحمل قلبًا.
ثم… خرج الكائن.
من داخل البقعة السوداء.
كائن… لا أستطيع وصفه بكلمات البشر.
لم يكن له شكل ثابت.
كان يتغيّر… يتحرك… يزحف… يتحوّر.
جسدٌ من الظلام الكامل.
عيونٌ تظهر وتختفي.
أفواه تفتح وتصرخ… لكن دون صوت.
أذرعٌ لا تُعد، تتكاثر ثم تتلاشى.
الظلام نفسه بدا كأنه يغلي، يتمزق، يعيد تشكيل ذاته.
الكائن… كان الهاوي.
اللاشيء الذي يبتلع كل شيء.
جاستين رفع يده، كل عيونها فتحت في آنٍ واحد.
صرخ:
"ارجع! لن تسمح لك هذه الأرض بالوجود!"
لكن الكائن لم يرد.
في لحظة… تحرك.
أسرع من الفكر.
تسلل من الأرض… ومن الهواء… ومن الظل.
بدأ الذبح.
الفتى ذو القرون حاول الهجوم، لكنه لم يستطع حتى أن يتحرك قبل أن ينفجر جسده من الداخل.
خرجت آلاف الأشواك السوداء من عينيه، فمه، أذنيه… ثم تهشّمت جمجمته بلقمة لا تُرى.
جاستين حاول الصراخ… حاول استخدام كل قواه… لكن الظلام أحاط به من كل جانب.
أذرع سوداء أمسكته من فمه… عينيه… صدره…
وفتحت فمه بالقوة.
ثم…
أُدخلت داخله آلاف الأفواه الصغيرة.
كأن كائنات أصغر من الهاوي كانت تتغذى عليه من الداخل.
صراخه كان ممزقًا… عاليًا… ومخنوقًا.
كل جزء من جسده كان يتم التهامُهُ وهو حي.
كل عين في يده انفجرت واحدة تلو الأخرى.
وجهه تحطم ببطء.
ثم…
سُحب إلى داخل الظلام.
أما الرؤوس المعلقة…
فقد سقطت.
ثم…
بدأت تحترق… تحترق بلون أسود، لا يخرج منه دخان، فقط ألمٌ بلا صوت.
واحدة تلو الأخرى…
إلى أن اختفت تمامًا.
وفي النهاية… اختفى الظلام.
لكن قبل أن يختفي تمامًا…
نظر إليّ.
لم تكن نظرة تهديد.
ولا رحمة.
كانت فقط… نظرة.
نظرةٌ من كائن لا يفهم البشر.
ثم…
دخل داخلي.
شعرت بانفجار في صدري.
كأن الكون انطوى داخلي.
لكني لم أتحرك.
لم أصرخ.
لم أُغمى عليّ.
فقط… كنت ما أزال أنظر إلى الأعلى.
تجمد كل شيء في داخلي.
كنت… مجرد جسد.
دون عقل.
دون مشاعر.
دون روح.
لم أعلم ما حدث.
كل ما رأيته كان النجوم.
كأنها كانت تراقبني من بعيد.
ساكنة… باردة… صامتة.
تحققت الرؤيا…
ومات من مات.
وظهر من لا يجب أن يوجد.
والآن…
الهاوي يسكن داخلي.
لكنّي… ما زلت لا أعلم.
...
...
وسط سهلٍ محطّم… لا يحيط به شيءٌ سوى أطلال متفحمة…
وقف رجلٌ في الخمسينات من عمره.
شعره الرمادي يتدلى على كتفه، يتماوج مع الرياح كالرماد الحي.
مظهره هادئ… لكن هدوءه لم يكن بشريًا.
أمامه…
كان يقف كائن ذو قرون ملتوية بشكل غير طبيعي، ملتفة إلى الداخل والخارج كأنها تُمثّل تعقيدًا لا يمكن للعقل البشري أن يفهمه.
جلده مغطّى بخطوط مظلمة تتلوى باستمرار، وكأن جسده نفسه يتم إعادة تشكيله ببطء طوال الوقت.
بينهما…
الهواء يتشقق، الأرض ترتجف، والسماء تئن.
لقد كانا يتقاتلان.
لكن ليس كما يتقاتل الآخرون.
بل كما يتقاتل مفهومان متضادان.
الرجل ذو الشعر الرمادي تحرك أولًا.
بخطوة واحدة فقط… اختفى.
ظهر خلف خصمه، يده امتدت بسرعة تفوق الرؤية، لكن الكائن ذو القرون لم يتحرك.
بل… انفجر شيءٌ من ظهره.
شوكة سوداء بطول مترين، تحركت كما تتحرك الأفعى، صدّت الهجوم تمامًا.
الرجل تراجع خطوة… تمتم:
"حركتك أسرع مما توقعت… يا مورلنا."
ردّ الكائن بصوت لا يشبه صوت الكائنات الحيّة:
"وأنت ما زلت تمتلك ذلك الهدوء القاتل… يا رماد الزمن."
ارتطما مجددًا.
الضربة الأولى فجّرت الأرض تحت أقدامهما لمسافة ثلاثين مترًا.
الصخرة التي ارتفعت بينهما من شدة الضغط ذابت.
ركلة من الرجل ذو القرون أصابت الفراغ، لكنها قطعت الأشجار البعيدة نصفين.
بينما قبضته الأخرى تشكلت من الظلال، وضرب بها الأرض فظهرت مئات الأذرع السوداء، كلها تهجم على الرجل ذو الشعر الرمادي.
لكنه… أغمض عينيه.
ثم همس:
"الطبقة السادسة: احتراق الذكرى."
وفجأة…
كل الأذرع توقفت.
ثم بدأت تحترق من الداخل.
كأن الذكريات نفسها التي بُنيت منها بدأت تتآكل.
صرخ الكائن بصوت مخنوق، ليس من الألم… بل من الدهشة.
قفز للأعلى…
لكن الرجل لحق به… فوق السحب… حيث الهواء ميت والسماء ثقيلة.
هناك تبادلا الضربات.
كل لكمة تساوي انفجارًا نوويًا.
كل ضربة تنحت واديًا جديدًا في الأرض.
الرجل ذو القرون وسّع قرونه، ثم شبكها معًا، وفتح فمه… من داخله خرجت نغمة مرعبة… ليست موسيقى، بل ترددات قاتلة تُقطع الوعي.
لكن الرجل العجوز ضغط على صدغيه…
"المجال الثالث: الصمت المطلق."
واختفت كل الأصوات.
اختفت تمامًا.
حتى ضربات القتال… لم يعد لها صدى.
ثم التقت قبضتاهما في السماء.
وتوقف كل شيء.
الهواء تحوّل لزجاج.
السحب انفجرت.
والنور اختفى لثانية كاملة.
عندها…
انهار جزء من السماء…
وكأنها كانت مجرد قشرة رقيقة.
سقطا معًا إلى الأرض… لكن الكائن ذو القرون غرز قرونه في الصخور ليبطئ سقوطه، بينما الرجل هبط بهدوء، وكأن الأرض تتراجع عنه.
قال الكائن:
"لن تخرج حيًا، فهنا نهايتك، أيها الحارس الرمادي."
ابتسم الرجل أخيرًا:
"لقد قتلت كائنات بلا قلوب… بلا ظل… بلا أجساد… أنت لست جديدًا عليّ."
حينها… رفع الكائن يده.
فتح جلده.
من داخله… خرج وجه آخر.
يشبهه… لكن أعين هذا الوجه كانت تصرخ.
ثم… تكلّم الاثنان بصوت واحد.
"إذاً… لنرى من منا سيخرج حي."
وانفجر القتال من جديد.
لكن هذه المرة… كان كل شيء يُدمّر.
الصحراء المجاورة تحولت إلى بحر أسود.
الجبال البعيدة انهارت من تأثير الصدمات.
والسماء نفسها بدأت تتصدّع، تُظهر وراءها طبقة من الظلام الكامل.
الرجل استنشق نفسًا عميقًا.
ثم همس:
"استدعاء الذكرى الأخيرة…"
وظهر حوله آلاف النسخ منه.
كل نسخة تمثل عمرًا مختلفًا له.
كلها هاجمت الكائن دفعة واحدة.
لكن الكائن… ضحك.
ضحكة خرقت طبقة الواقع نفسه.
ثم تمزق جسده إلى ألف قطعة… وكل قطعة أصبحت وحشًا مختلفًا… وهاجموا معًا.
ما حدث بعد ذلك كان مذبحة… عاصفة… كارثة.
كأن نهاية عالمين قد بدأت.
وفي منتصف كل ذلك…
لم يتوقف الرجل ذو الشعر الرمادي.
لم يتوقف الكائن ذو القرون.
وكأن بينهما قصة قديمة…
وقسم لم يُنسَ…
وكأن هذا القتال… هو الاختبار الأخير.
---
---
---
ملاحظة المؤلف: أخيرًا، لقد انتهينا من المجلد "صدى الخراب"، عند الفصل الثالث والأربعين.
كان هذا المجلد رحلة مليئة بالتحديات والآلام، حيث واجه إيثان سكارليث قوى غير مرئية، وصراعات داخلية، وأسرار مظلمة لم تكشف بعد. تأرجحت أحداثه بين الخراب واليأس."
بعد راحة قصيرة، إن شاء الله، سنبدأ بالمجلد الثاني، الذي سيكون بعنوان "غابة الكابوس."