صعدت الفتاة الحافلة.

حنت رأسها وأمالته جانبا كي لا يعرفها السائق.

دفعت 7 دراهم ثمن التذكرة.

أخرجت رزمة من قصاصات أوراق بيضاء بالية.

تجاوزت الصف الأول من المقاعد.

تلك المقاعد غالبا ما تكون مخصصة لأصدقاء السائق.

سائقين آخرين، وعلى الأغلب يعرفون وجهها.

مدت باستحياء ورقة لراكب.

أنا امرأة مطلقة ولي ولدين، أكثري بيتا ب 600 درهم أعينوني أعانكم الله

"كذبة"

ترددت الكلمة كوسوسة من الشيطان في نفسها، أو ربما من ضميرها.

ثم تناولت أخرى ورمتها للمرأة في المقعد المجاور.

زوجي مريض مرض عقلي ولي ولدين وأكثري بيتا ب 500 درهم. أعينوني أعانكم الله

"كذبة"

ثم ورقة أخرى:

لي أربعة أبناء ولا معين لي غير الله وصدقات المحسنين. جزاكم الله خيرا

لاحظت خطأها.

"اللعنة لقد خلطت الأوراق، أحد ما خلط الأوراق"

"وهل يهم؟ فلا أحد يقرأها إطلاقا"

كأن الدرهم الذي سيتصدقون بها يستحق أن يضيعوا وقتهم الثمين في الانشغال بقراءة مشاكل الآخرين.

أنا امرأة مطلقة ولي ابن مريض مرض عقلي وأكثري بيتا ب 600 درهم. أعينوني جزاكم الله خيرا.

"تلك كذلك.. كذبة"

كما كل الأوراق في محفظتها.

فحتى امرأة تتسول الناس قوت يومها، تستحي من أن تكشف للغرباء عن مشاكلها.

فلا يختلف في الأوراق إلا حالتها الأسرية، عدد أبناءها وثمن الغرفة التي تكتريها.

"كل تلك أكاذيب ملفقة"

فمشاكلها أكثر تعقيدا من أن يمكن تصنيفها.

"أو أن تحتويها قطعة من الورق"

فقد تزوجت في الصيف الذي حصلت فيه على شهادة الباكالوريا.

خطبها شخص فقير يدعي الغنى، أو غني فقير الأخلاق معدم الضمير.

وافق والدها دون أن يستشيرها.

ورماها كقطعة أثاث مهترئة مل من رؤيتها في داره.

عقد قرانها بعد شهر من شخص لم يسبق أن رأته، في حفل بسيط لم يشمل إلا 12 شخصا.

فض بكرتها في تلك الليلة.

وفي الصباح هرب.

تركها حاملا بابن وُلد ليسأل عن أب لا تعرفه.

تركها لا تدري وضعها الاجتماعي هل هي أرملة، مطلقة أمْ أْمٌ عازبة.

هجرها تاركا جرحا في قلبها، وكرها لا يهدأ للرجال.

للوغد الحقير الذي هجرها.

للأب الذي باع ابنته بثمن رخيص، وليمة عشاء لاثنا عشر شخصا.

ولإخوتها الأربعة الذين تجاهلوا الموقف كأن شيء لم يحدث.

ثم هجروها وانشغلوا بيوتهم.

وقد تركوها وحيدة في دار أبيها.

وحيدة لتعيل ابنها، أبوها المسن، أمها المريضة، وتعيل بما تبقى نفسها.

وزعت الأوراق حتى وصلت لمؤخرة الحافلة.

ثم عادت إلى المنتصف وقالت تخاطب الجميع:

"أنا امرأة وحيدة ولا معين لي غير الله، ولا أحد يريد تشغيلي، وأنا المعيلة الوحيدة لأسرة تتكون من.."

ترددت.

أي كذبة تقولها لتناسب كل القصاصات.

"المعيلة الوحيدة لأسرتي، قصدتكم والمقصود الله، أعينوا أختكم فإنها في حاجة، جزاكم الله ألف خير."

ثم عادت لتجمع القصاصات وما جاد به الركاب.

درهم من هذا، وقصاصة لا أكثر من ذلك، وهذا كريم تصدق بدرهمين.

أدخل رجل يده في جيبه يبحث لبعض الوقت تاركا يدها مبسوطة ومعلقة في الهواء، ثم أخرج 5 دراهم.

نظر لما في يده اضطربت يده رجعت للوراء ثم الأمام كأن صراعا محتدما في داخله، ثم مد الخمسة دراهم، والتفت يفتش في الوجوه عمن شهدوا سخائه.

"لا بد أنه اعتقد بأنها درهم."

تسلمتها ودعت بالخير لمن فكر في جعل الخمسة دراهم بحجم الدرهم، وأصغر من قطعة الدرهمين.

ثم أكملت مسيرتها حتى جمعت باقي القصاصات.

كان المجموع 13 درهما.

مبلغ هزيل لكنها رأت أسوء.

"على الأقل جمعت ثمن التذكرة."

نزلت من الحافلة وانتظرت أخرى.

تسولت أحد المنتظرين أن يدفع عنها ثمن التذكرة ببطاقة اشتراكه، فوافق.

صعدت الحافلة الثانية لتجدها شبه فارغة من الركاب.

وكان مجمل ما جمعته هو 4 دراهم.

نزلت من الحافلة ومشت مسافة نصف ساعة لموقف حافلة آخر.

وبعد انتظار نصف ساعة وصلت الحافلة الجديدة.

ركبتها، وبينما همت بالبحث عن القصاصات في حقيبتها لاحظت بأن متسولة أخرى قد سبقتها.

دفعت ثمن التذكرة هذه المرة ببطاقتها، ثم رجعت لمؤخرة الحافلة باحثة عن مقعد لترتاح.

جلست، أخرجت دفترا من حقيبتها، فتحته على صفحة بها رسم تخطيطي لجمجمة بشرية وكتابة صغيرة تغطي كامل الصفحة حتى الهوامش.

قرأت مقطعا ثم أخرجت قلما أزرق لتسجل ملاحظات، ثم انتبهت أن الورقة قد امتلأت عن آخرها بكتابة زرقاء، فأخرجت قلما أحمر بدلا، وبدأت تكتب فوق الكتابة.

كانت تلك طريقة مبتكرة لادخار الورق. فبقطعة زجاجية حمراء أو زرقاء تستطيع التفريق بين الكتابتين وهكذا تستطيع استعمال ورقة لمرتين.

بعد لحظات سمعت صوت ضحكة مكتومة.

التفت إلى مصدرها ونظرة عتاب على وجهها.

"من هذا الذي يجرأ على مقاطعتي"

وجدت المصدر شابا يجلس في الصف الأيسر، ولقد تذكرت أن سبق أن رأته.

"يا لها من روح مطمئنة"

كان يحمل كتابا قديما.

راقبته وهو يخرج قلم رصاص ويسطر جملة وابتسامة بلهاء مرسومة على وجهه، ثم يثني جانب الورقة ثنية صغيرة.

للحظة أحست بالغيرة فهي كذلك تريد أن تقرأ.

ثم تفرست في ملابس الشاب البالية. كانت ملابسها هي أفضل وأجدد وأنظف منه.

"المفترض أن أبدو أنا كالمتسولة."

حاولت أن تقرأ عنوان الكتاب.

ووجدت صعوبة في ذلك، فحتى لو قلب الصفحة كان يحافظ على وضع الكتاب.

"كأنه يقرأ الصفحات اليمنى فقط، أم أنه يخجل من الغلاف؟"

في توقف مفاجأ للحافلة واضطراب الشاب استطاعت أن تختلس نظرة إلى الغلاف.

وقالت تخاطب نفسها وتترجم الغلاف من الإنجليزية:

"القطة التي تمشي عبر الجدران، تأليف روبرت إ هينلاين، رواية خيال علمي على الأرجح، لا عجب أن يستحي من العنوان"

لم يسبق أن سمعت عن هذا الكاتب. رغم أنها قارئة نهمة وسبق أن قرأت لباولو كويلو، غيوم ميسو، ماري هيغنز، جين أوستين، وآخرين...

"وماذا كان الكتاب الذي كان يحمله.. آه.. لا أتذكر.. لكن الكاتب كان اسمه نبيل فاروق"

رواية خيال علمي أخرى وكاتب آخر لم يسبق أن قرأت له.

وعندما بحثت عنه وجدت بأن له مؤلفات وسلاسل عدة. لكن كتاباته كانت في الخيال العلمي والجاسوسية وكان معظمها موجها للمراهقين، بينما هي اعتادت أن تقرأ لنجيب محفوظ، والطاهر بن جلون وأحلام مستغنامي...

"وقبل ذلك.. كان يقرأ قصص جائزة نيبولا لإسحاق أسيموف"

لم يسبق أن سمعت عن إسحاق أسيموف وعندما بحثت عن الكتاب اكتشفت بأنه عبارة عن مجموعة قصصية لعدة كتاب منهم آرثر س كلارك وجين وولف و أورسولا لوغوين، وكذلك لم تعرف أيا منهم، رشحت هذه القصص للفوز بجائزة نيبولا، وقد جمعها إسحاق أسيموف، والقاسم المشترك بينها هو الخيال العلمي.

وقبل ذلك سمعته يتحدث بحماس مبالغ إلى صديق عن رواية مسموعة.

"ماذا كان عنوانها، ميستبورن؟ أبناء الضباب؟ الإمبراطورية النهائية"

كتبها براندون ساندرسون.

عندما بحثت وجدت بأن هذا الكاتب مشهور في أمريكا، وروايته من أدب الخيال والفانتازيا.

بدأ موضوع الروايات الخيالية يثير غيضها.

"يا له من ضعيف. لابد أنه حالم يتهرب من قسوة الواقع إلى عوالم خيالية."

رغم ذلك لم تستطع أن تخفي رغبتها في معرفة المزيد.

"أتساءل كيف تبدو لوتاديل؟ أتساءل عن إحساس أن تتخيل معركة بين ابن ضباب وجيش من الكولوس؟"

أرادت أن تزور لوتاديل، عاصمة الإمبراطورية النهائية كما وصفها ذلك الشاب، أن تعرف عن السفر إلى الفضاء، ونسافر إلى الكواكب.

"وحوش، فضائيون، آليون... ذلك ما يخصني."

وهي غارقة في أفكارها غلبها التعب، فقد بدأت جولتها من حافلة إلى حافلة منذ السابعة صباحا، ولم تحس إلى وقد وقعت في نوم عميق.

أيقضها تسارع مفاجئ.

نظرت من النافذة، تملكها القلق لحظة، فقد أدركت بأنها فوتت محطتها.

ثم هدأت وقد أدركت بأنها إن انتظرت حتى أن تدور الحافلة للشارع الآخر فإنها ستضعها على مسافة قريبة نسبيا، ثم ستكمل على رجليها.

نظرت إلى حيث كان يجلس الشاب.

"لابد أنه قد نزل، مهلا ما هذا؟"

على المقعد الذي كان يجلس عليه كان هناك كتاب، نفس الرواية التي كان يقرأها.

ارتمت على الكتاب بسرعة.

"لابد أنه قد نسيه"

ثم لاحظت بأن تذكرة تمتد منه، كعلامة مرجعية.

فتحته على الصفحة، وجدت بداية فصل، واقتباس تحته خط، ترجمَتْه حرفيا في رأسها:

"'المتفائلون يدعون بأننا نعيش في أفضل العوالم الممكنة، والمتشائمون خائفون أن تكون تلك هي الحقيقة' جيمس برانش كابيل".

وعلى التذكرة قرأت:

"أجد هذا القول مضحكا، صادقا، ومخادعا في آن واحد. يا ترى من أي الفريقين أنت؟"

أرادت أن تجيب بأنها من فريق المتشائمين ثم أدركت..

" وهل يوجد فرق؟ فلعالم متعال عن نظرتنا له.. قاس ومتوحش دائما وأبدا"

ثم أدارت الورقة لتجد مكتوبا:

"إن انتهيتِ منه، فأرجعيه هنا."

وضعت الكتاب في حقيبتها ثم خرجت من الحافلة.

قصدت مرحاضا عموميا لتغير ملابسها.

خرجت ترتدي وزرة بيضاء تمتد لتحت ركبتيها وقد عقدت أزرارها كي تخفي ملابسها القديمة.

ثم توجهت لكلية الطب والصيدلة.

2018/10/14 · 625 مشاهدة · 1262 كلمة
yorozuya.band
نادي الروايات - 2024