الفصل الأول: الفتى الذي انكسر مرتين
لم يكن أحد ينتظر الكثير من أليوس عند ولادته. كان الابن الثالث للإمبراطور غارثيان، من زوجته الثانية، الليدي ميريث، مغنية أوبرا سابقة أحبها الإمبراطور بجنون، ثم فتر حبه بعد أن أنجبت له طفلًا لم يكن يريد وجوده.
لم يكن ولادة أليوس حدثًا كبيرًا كما هو متوقع من أفراد العائلة الإمبراطورية. لم تُقرع الأجراس، ولم تُوزع الحلوى في الميادين، ولم تتزين الشوارع. مرّ يوم مولده كأنه لم يكن. كانت خادمات والدته ينظرن إلى الطفل الصغير بدهشة، فملامحه لا تُشبه أحدًا من آل غارثيان.
ولد أليوس بجمال فريد، حتى خدام القصر كانوا يهمسون أنه لا يشبه الأطفال الآخرين. كان ذو شعر أشقر ذهبي ناعم، يتساقط بخفة على جبينه كأشعة شمس هاربة، وعينين زرقاوين صافيتيْن كسماء خالية من الغيوم. بشرته ناعمة، بيضاء شاحبة كصفحة ورق لم تُكتب بعد، ونظرته هادئة بشكل غير مألوف،
عاش سنواته الأولى في الجناح الجنوبي للقصر، جناح صغير بعيد عن قلب الحياة الإمبراطورية، برفقة والدته التي أحبته حبًا لا يُنكر، لكنها كانت دائمًا حزينة، صامتة، تكتب رسائل لا ترسلها وتبكي ليلًا دون سبب. كانت تجلس لساعات على شرفتها، تحدق في الأفق، وبين ذراعيها الطفل الذي لم يكن له أحد سواها. لم تكن الحياة في القصر سهلة، ولم يكن أحد يعير اهتمامًا لابن الزوجة الثانية.
لم يكن يُدعى إلى الاحتفالات. لم يُشارك إخوته في دروسهم. ولم يُذكر اسمه في الاجتماعات الرسمية. كان يعيش على هامش الأسرة المالكة، كأن وجوده مجرد خطأ بروتوكولي.
وعندما بلغ التاسعة من عمره، حدث ما لم يتوقعه.
في صباح بارد من الخريف، استيقظ ووجد جناح والدته خاليًا. لا خدم، لا ضحكة رقيقة، لا صوتها وهي تغني لنفسها وهي تُسرّح شعره. لا عطرها في الممر، ولا فساتينها المعلقة. كل شيء اختفى فجأة.
ظل ينتظرها لساعات، جالسًا على كرسي النافذة، ينظر إلى الطريق الحجري المؤدي لخارج القصر. كل مرة يسمع فيها وقع خطوات، ينهض ليرى... لكنها لم تعد.
وفي المساء، حين اشتد عليه القلق، ذهب بنفسه ليسأل كبير الخدم. قال له بصوت خافت، من دون تردد أو مراعاة:
> "الليدي ميريث طلبت الطلاق وغادرت القصر فجرًا. قالت إنها لن تعود."
أحس بشيء يُنتزع من صدره. كأن قلبه الصغير سُحق بهدوء. لم يسأل لماذا، ولم يصرخ. فقط مشى بهدوء حتى غرفته، وأغلق الباب على نفسه.
مرت أيام لم يتحدث فيها مع أحد. رفض الطعام. بكى بصمت، ونام فوق فراشه كجثة، لا يتكلم، لا يتحرك، لا يرد حتى على مربيته. وكل مساء، كانت عيناه تحدقان في الباب، لعلها تعود. لكن الباب لم يُفتح لها مجددًا.
ثم، شيئًا فشيئًا، بدأ يخرج. لا إلى القصر، بل إلى الحديقة الجانبية المهملة، حيث لا حراس، لا خدم، ولا أحد يسأله عن أحواله.
رافقه في وحدته ذئب صغير، أبيض اللون، كان قد أنقذه من الموت ذات مرة في الغابة الملكية حين كان برفقة والدته. أطلق عليه اسم "نيو". ومنذ ذلك اليوم، لم يفارقه.
كان نيو رفيق حزنه، ورفيق صمته.
كان ذلك اليوم هادئًا كالمعتاد. أليوس، ذو التسع سنوات، كان يسير في الحديقة المهملة، يقرأ كتابًا عن الفلسفة القديمة بينما يمشي، ونيو يتبع خطواته. أوراق الخريف تغطي الأرض كقماش ذهبي هش، والنسيم يداعب شعره الطويل.
إلى أن ظهر أحدهم فجأة.
كان عمه، الأمير ليغران، شقيق الإمبراطور الأصغر. رجل في الثلاثينيات، طويل القامة، وسيم المظهر، دائم الابتسام، لكن نظرته لم تكن تُريح أحدًا. كان معروفًا بخداعه، وهمسه في آذان السياسيين، وابتسامته التي تُخفي نوايا لا تُحمد عقباها.
وقف يراقب الطفل بصمت، ثم اقترب وقال:
> "كم كبرتَ، يا ابن ميريث... أصبحت جميلاً أكثر من اللازم."
تجمد الطفل في مكانه. نظر إليه بعينين جامدتين. ليغران اقترب أكثر، جلس على ركبتيه، وقال بصوت هامس:
> "أتعلم؟ الجمال الزائد قد يسبب المشاكل، يا أليوس..."
حين حاول أليوس التراجع، أمسكه عمه فجأة من كتفه، وركّعه على الأرض. ضرب الذئب بعصا ثقيلة كان يحملها، فسقط نيو على الأرض، يعوي. أغلق ليغران فم الطفل بيده، وهمس:
> "صرخة واحدة... وسأقطع لسانك."
في لحظة اختنق فيها الزمن، أخرج سكينًا صغيرة من جيبه، ووضعها على صدر الطفل.
> "لا تتحرك."
لم يفهم أليوس ماذا يجري. ارتجف جسده بالكامل. كانت يد عمه تلتف حول خصره، والسكين تلامس قلبه. شعر ببرودة السلاح، وبأنفاس عمه القريبة، برائحة فاسدة امتزجت بالخوف.
بغرائزه فقط، دفعه فجأة بكل ما لديه من قوة. لم يتوقع ليغران رد الفعل، فانزلق السكين على صدر الطفل وترك جرحًا عميقًا.
حينها، نهض نيو، مصابًا لكنه غاضب، وقفز على ليغران، وعضه في ذراعه. صرخ الأمير، فتحت الفرصة أمام أليوس للهرب.
ركض، وركض، والدم يسيل من صدره، حتى وصل إلى قاعة العرش. كان الوقت غروبًا، والقاعة هادئة.
الإمبراطور كان هناك، جالسًا على عرشه، يقرأ ملفًا. رجل طويل، ذو شعر أسود، وعينين لا تبتسمان أبدًا.
دخل الطفل وهو يلهث، وقد التصق قميصه الأبيض بدمه. ركض حتى قدمي والده، وسقط راكعًا، وقال بصوت مكسور:
> "أبي... عمي... حاول أن يؤذيني... أراد أن يفعل شيئًا سيئًا… وضرب نيو… وطعنني!"
رفع الإمبراطور رأسه ببطء، وعيناه تبرقان بدهشة. لكنه لم يتحرك بعد.
ثم، دخل الأمير ليغران خلفه، وذراعه تنزف، وثوبه ممزق. قال بصوت غاضب:
> "أخي! ابنك هذا تهجم عليّ بسكين! يعاني من انهيار منذ رحيل أمه، وبدأ يتوهم أشياء… حتى الحيوان هجم عليّ! لو لم أتصرف، لكان قتلني!"
نظر الإمبراطور إلى الطفل الواقف أمامه، ممزق الثياب، وجهه شاحب، عيونه ممتلئة دموعًا وذهولًا.
لكن التردد في عينيه لم يدم طويلًا.
قال بنبرة صارمة:
> "اصطحبوه لغرفته. نظّفوا جرحه…"
ثم أدار وجهه لعمه، وقال بخفوت:
> "سأتصرف معه لاحقًا."
في اليوم التالي، لم يكن هناك تحقيق. لم يُستدعَ أحد. كان كل شيء هادئًا في القصر… بهدوء مُريب.
وفي المساء، دخل كبير الخدم على الطفل وقال:
> "أمر جلالته بنقلك إلى مصحة فالرين للعلاج العقلي. يقول إنك تحتاج للراحة النفسية…"
سأل أليوس بصوت خافت:
> "هل سيأتي لوداعي؟"
> "لا، يا سمو الأمير."
وهكذا، وفي عمر تسع سنوات وشهرين، نُقل أليوس في عربة مغلقة إلى أبعد نقطة عن منزله، إلى مكانٍ لم يزره أحد، ولم يُرسَل له أحد، ولم يُسأل عنه أحد.
عاش السنوات الخمس التالية في مصحةٍ باردة، بين الجدران البيضاء والأسِرّة المعدنية. لكنه لم يكن مجنونًا.
قرأ. كتب. تأمل. حاول الهرب مرة، مرتين… فشل، ثم استسلم.
اعتاد الوحدة، وعاش على فتات من الكرامة.
لم يكن هناك حب. لا زيارات. لا رسائل. لا صوت لأحد من العائلة. حتى أنه توقف عن الحلم.