- طق

- طق

- طق .

صوت قطرات المياه التي ترن في الأرجاء أزعجت مسامعي ، بدت كتسربات قطرات المطر من بين شقوق كهف ذا أرضية صلبة .

استشعرت صلابة ما أرقد تحته ، و برودته التي تغزو جسدي الان ..

تجاهلت كل هذه الأمور الحسية ، و حاولت جاهدا أن لا أتدارك واقعي .

فأي احساس هذ الذي سينتابك بعد الموت ؟

لكني شعرت بالأنوار تتجه نحوي ، و أصوات قريب تتهامس قرب أذني .

- أمر جلالته بعدم لمسه .

- من الأفضل الابتعاد عنه

- جلالته طلب ذلك

سماعي لهذه الكلمات جعل من آخر خيط صبر كنت أحشده ينقطع .

حاولت الحديث ، لكن حلقي آلمني . لم يكن هذا النوع من الألم غريبا علي .

كان شيئا يحدث دوما ، خاصة في طفولتي عندما كنت أصرخ بعلو صوتي كلما تم حبسي في تلك الغرفة المغلقة .

- لقد أتى جلالته

- تنحى جانبا

تلك الأصوات الهادئة ذات النبرة المألوفة ، جعل حاجبي ينعقدان لا شعوريا ، أجبرت عيناي المثقلتان بظل النعاس الخافت على الانفتاح أكثر ،

لتقع أنظاري على ما توقعته سقفا حجريا ذا بنية معهودة بشكل غريب . كم تمنيت إطالة النظر اليه ، علي ألتمس فيه سبب هذه الألفة التي أستشعرها في كافة التفاصيل حولي .

لكن وقع تلك الخطوات ذان الرنين العالي لفتت انتباهي .

أدرت رأسي ، لألمح ظل شخص يقترب من بعيد ، لم تسمح لي عيناي الضبابية بالتقاط الملامح بالشكل الكافي .

لكن ..خصلات الشعر الكستنائية كانت كافية لتعطيني فكرة عن الذي يسير نحوي

هل حتى في الموت لا يريد تركي ؟

- ما الذي يحدث ؟ سمعت صوته البارد .. في فحواه لمسة من السخرية الرمزية ،

كم أرغب في الوقوف و ضربه الان .

احم احم ..

لا يهم كيف خطرت لي الفكرة ، و لا كيف طبقتها فلم أشعر بنفسي أبدا ، و لا حتى كيف وقفت .

المهم الان أني دفعته على الأرض و ها أنا الان أجلس فوقه ألكم وجهه بكل قوتي التي لا أدري من أين أتت .

لم استطع تحريك فمي ، و الا لما احتفظت بكل هذه الشتائم التي أرددها في رأسي ! !

- جلالتك !

- جلالتك ! ! !

- صاحب الجلالة !

أصوات الفرسان المذعورة في الخلفية ، كانت تكمل هول المشهد . تمجد انجازي العظيم !

خطواتهم المستعجلة اتجهت نحونا ، و ها هم الان يحاولون ابعادي عنه .

رغم الألم الذي ساد الا اني استطعت بعد فترة تحريك فمي . بكلمات أنا نفسي لم أفهمها .

- اللعنة عليك .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

بعيون اكتساها ذلك الحقد الدفين لعن الامبراطور . تمنى في قرارة نفسه لو يستطيع التخلص من الأيادي التي تكبله .

في تلك اللحظة ، لم يستشعر ألم جسده . و لا حرقة الجراح التي تكتسيه .

كل ما أراده هو العودة لضرب ذلك اللعين ، لو لم يكن عاجزا عن استخدام السحر لسبب لا يعرفه للان ، لكان حاول حتى قتله و ان كان ميتا في الأساس !

مع تثاقل أنفاسه ، و قسوة من حوله بدأ جسده يتثاقل . فكر بجفنيه النصف مغمضتين .

هل حتى في الأحلام لا يستطيع الحصول على فرصة ؟

أخيرا ، مع افلاته لقميص الامبراطور من بين يديه ، تم جره للخلف بقسوة . يتم اخضاعه من قبل الفرسان .

هذا المشهد ، و ان كان جزئا فيه فقد شعر للحظة أنه طرف ثالث .

تذكر .... دوق غارنيليون ،

ملامحه التي اكتساها برود لا يلين ، لكن دفئها الحاني الذي شعَ في آخر لقاء لهما لا ينكر .

ذلك الجليد الأسود الحامل للون الرماد الجميل و الذي لحظتها أبعد كل ما يمكن أن يؤذيه .

و تلك العيون ذات اللمسة الياقوتية التي يحيطها وهج البنفسج ذاك . . .

وقت قطعه لرأس الامبراطور بسهولة ، رغم أنه لحظتها كان يتخلص من ثقل قيد قيده لأجيال ، و لا شك أنه بذلك حقق إرادة دوقات غارنليون السابقين جميعا !

لكن تلك العيون لم تنظر لغيره ، كما لو كانت تهتم برد فعله أكثر من ما فعله حتى .

هذه الذكرى جلبت بسمة صغيرة لم ترى على محياه رغم معرفته انه ليس الوقت المناسب للتفكير في مثل هذه الأمور .

ريح خفيفة من السلام اللحظي اقتحمت عقله ، تهدئ بركان الغضب المشتعل بداخله .

جفناه انغلقتا تدريجيا .

و لم يشعر بنفسه الا و هو يهوي بين ثنايا وعيه المندثر .

من أين أتته الجرأة ؟ لقد كان بالأمس فقط يتجنب أي اتصال بصري معه .

بالكاد استطاع الوقوف ، و نادى بعدها على الحراس

- لن يتم اطلاق سراحه ، أعده الى حيث كان و قم بتقييد يديه هذه المرة .

أومأ الحرس و جروا الطفل النائم .

أجل طفل .

بدا كطفل في العاشرة من العمر .

── ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ──

في هذا المحيط المظلم ، ليس لدي دليل على مدى مرور الوقت في الخارج ..

لكن ..

من خبرتي المتواصلة لسنوات عديدة ، و بناء على تجربة سابقة في المكوث في مثل هذه الأماكن .

عشرة أيام ..

أغلب الظن أن عشرة أيام فقط قد مرت ، مدة قصيرة . لكنها كانت كافية لتجعل قلبي يتعلق ببعض الآمال ، و لعقلي أن يبني بعض الضنون ..

لم يكن اليقين شيئا يمكن الحصول عليه بسهولة ، لكن الألم الذي يكتسي جسدي و البرودة التي تنخر عظامي تحتم علي اخراج احتمال كونه حلما من بالي .

رفعت يدي ببطء ،أتأمل تلك السلاسل التي تقيدني بالأرض تجعل الحركة مستحيلة تماما .

- اه

جراح دامية زينت معصماي كان ما أنتجه عنادي الحاد ، و محاولاتي ذات الفائدة المعدومة للتحرر ، خصوصا بعد أن طالني الملل من بقائي هنا ، دون حتى اطفاء شعلة اليقين التي تشتعل في داخلي ، .

لا علم لي بالكثير ، لكن ان كان كل ما أعايشه واقعا .

ان كنت لا أزال على قيد الحياة حقا .

ان كان الزمن قد عاد للوراء تماما كما ضننت .

فاني محظوظ حقا . .

محظوظ لاستيقاظي في هذا الوقت بالذات .

على الأقل كان حلقي يؤلمني بسبب صراخ " نسختي " المصغرة مسبقا .

و بذلك لم أجد أي طريقة تسمح لي بالحديث ، لولا ذلك لكنت قد أفصحت عن كل شيئ في اللحظة التي لمحت فيها ذلك الوغد اللعين يقترب في اليوم الأول .

جابت عيناي المكان ، ..

قبو قديم ، بجدران ذات لون باهت و أرضية صلبة مليئة بنتوءات صخرية بارزة ، تجعل من المستحيل على أي عاقل أن يفكر في السير حافيا عليها

اسم دوق كورفالين كان منقوشا بوضوح في كل مكان ،ليس عليك تحويل أنظارك كثيرا لتلمحه .

بلون محمر دامٍ لم أحاول يوما اشباع فضولي حوله ، بل اكتفيت باعتباره مجرد " طلاء أحمر " متقن الصنع .

صورته معلقة في اطارات فاخرة ، ذهبية . لكن الزجاج المنكسر جعل من شكل الوجه مشوها .

كل شيئ حول هذا المكان كان كما أتذكره .. لم يتغير فيه شيئ سواي أنا .

فلم يعد ذلك الاسم مخيفا . بل صار يضفي في نفسي هدوءا و سكينة غريبان .

صرت أمعن النظر في صورته ، أتجاهل قطع الزجاج التي تفسد المشهد ،و أمركز أنظاري على عينيه الياقوتية المحمرة ذات وهج البنفسج الملفت ، أبحث بين طياتها عن ذلك الدفئ الحاني الذي أغدقني به في آخر مرة لاقيته فيه ...

ان ما يتوجب علي فعله الآن ...

أمر واضح .

── ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ──

مرت من السويعات ما لم يدركه و هو غارق في ثنايا ظلام ذلك القبو الذي لا يصله نور الشمس ، و لا ضوء القمر .

أخيرا ، في ما بدا له دهرا من الزمان ، سمع صوت صرير المفتاح في ذلك القفل المهترئ .

بسمة تسلية اعتلت شفتيه ، لكنها تلاشت و هو يحاول تعديل ملامح وجهه ليتقن دوره !

في النهاية ، لقد كان دوما ممثلا بارعا ، مثل في صغره دور الابن المطيع و المدلل للامبراطور بأكثر الطرق الناموذجية !

أما في مراقهته و شبابه ، فقد تولى دور ولي العهد العبقري ذي المستقبل الواعد بأكثر الأساليب اتقانا .

صرير الباب رن يكسر السكون الذي يغلف المكان ، و كما توقع تماما فمن دلف لم يكن غير الامبراطور الذي خطا المكان كالمعتاد ، بزينته الفارهة و خطواته ذات الوقع الواثق .

لم يقل شيئا في البداية ، كل ما فعله هو التحديق في من يرقد على تلك الأرضية ، مقيدا غير قادر على الحركة .

تمركز الفرسان خلفه ، لكنهم كانوا أقرب اليه هذه المرة من المعتاد . كما لو كان جزئ منه يخاف أن يتكرر ما حدث قبل أيام .

- هل تعلمت من أخطائك ؟

صوته البارد رن في القاعة يضفي لمسة من الواقعية ، و يحيي في ذاكرة الاخر ذكارايات طفولته .

مع ذلك لم تتغير ملامح المستلقي ، لا يزال بريق عينيه يحمل ذلك الارتباك الخالص

فتح فمه يحاول الحديث ، لكنه سرعان ما أغلقه بملامح عبوس تعتليه .

سعال جاف انطلق منه لفتره ، قبل أن يهدأ ببطء ، ابتعل ريقه كمن يحاول تبليل حلقه الجاف

أخيرا ، غادرت الكلمات شفتيه ، مثقلة بصوته المبحوح المتقطع الذي لم يخفى فيه لمسة الخوف

- ما الذي تقصده ..أبي ؟ هل فعلت شيئا خاطئا من جديد ؟

الكلمات ارتجفت و هي تغادر فمه ، و خفت نبرة صوته كلما تمددت الجملة .

ارتعاش الحروف و هو يتحدث فضحت هلعه الواضح .

لم يرفع عينيه من على أقدام الامبراطور . رغم وضعية الاستلقاء التي كانت ستجعل النظر في عيني الاخر أكثر سهولة بكثير .

الامبراطور ، الذي لمح الارتباك الخالص الذي يملأ الصغير الذي يحمل اسمه ، شعر بصدق كل المشاعر التي تخالج الآخر لتتسع عيناه في مفاجأة .

الفرسان تبادلوا نظرات من الحيرة في ما بينهم ، وعلى ملامحهم رُسم استغراب لا يخفى .

ساد الصمت لفترة ، كان صوت أنفاس الطفل المذعور و المقيد هي الوحيدة التي ترددت في ذلك الفضاء ..لو لم يقرر الامبراطور الحديث

رن صوته ، الحامل للمسة السلطة و الفخر المعتادة

- ألا تتذكر ؟

- ما الذي لا أتذكره ؟

كلماته المتقاطعة ، و نبرته التي تنم عن جهله بما يحدث ، جعلت ادوارد ( الامبراطور ) يعبس .

ألا يتذكر ؟

لم يبدوا مظهره كمن كان يكذب . و إن لأكثر نقاط ضعفه كانت عدم قدرته على الكذب أمامه .

لذا ..

هل فقد ذكراياته ، ؟ هل بقاؤه في ذلك القبو لفترة طويلة أثر عليه بطريقة ما ؟

على الاحتمال الذي أتاه لحظتها ، حول أنظاره لقائد فرقة الفرسان الخاصة

- ماثيو ، قم بفتح الأصفاد . و أعد كاليوس لجناحه الخاص . واستدع الطبيب ليفصحه ..

قالها و هم بالخروج ، دون أن يشرح الأمر لتلك العيون الذهبية التي لا تزال تتبع ظهره .

لم يكن لديه أي نية ليترك الطفل يصاب بالجنون أو مرض عقلي .

فلن يكون ذلك مفيدا أبدا لمخططاته المستقبلية ، و لن يؤذي الأمر دوق كورفالين

── ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ──

في الغرفة الفخمة ذات الجدران الذهبية التي تزينها نقوش فضية،

تدلّت الثريات العالية من السقف، تنثر وهجها على أرجاء المكان ، عدا الزوايا التي بدا جليا أنها تركت عمدا لتغرق في الظلام

كان يقف أمام المرآة ، بأقدام حافية لم تخلوا من آثار الندوب ، يميل برأسه الى الجانب لتنحدر خصلات شعره الطويل ذا اللون الكستنائي على عينيه المتسعتين

اهتز القرط الذي يتدلى من شحمة أذنه ، يلمع تحت وهج النور متبعا حركاته .

شعت مقلتاه المتسعتان ببريق من عدم التصديق الخالص و هو يناظر انعكاسه .

بسط راحة يده على وجنته ، كمن يحاول تدارك واقع غريب .

لترتسم بعدها بسمة خافتة على شفتيه ،

أجل ..

ما عليه فعله الان واضح ، ..

- فلتنتظرني ......أبي العزيز

همس بهذه الكلمات بصوت فيه لا يخفي فيه أبدا لمسة الخبث .

── ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ⋆ ✦ ──

يتبع ..

2025/12/02 · 7 مشاهدة · 1915 كلمة
ايليانا
نادي الروايات - 2025