الفصل 251

اتُخذ قرارٌ بإغلاق فصل أوربيس، لكن الإجراءات استغرقت بعض الوقت بطبيعة الحال.

بدا أن الطلاب الذين قدموا طلبات انسحابهم من المعبد كشكلٍ من الاحتجاج الجماعي قد طُردوا لإساءتهم لسمعته، أما أولئك الذين امتنعوا عن ذلك فسيبقون في المعبد ويعاد تعيينهم في فصول أخرى.

على حد علمي، أقام طلاب السنة الأولى في المقر العام بعد استدعائهم إليه لحمايتهم من انتقام الطلاب الأكبر سنًا.

كان الطلاب الأكبر سنًا والأصغر سنًا يخضعون للتحقيق، لذا فإن الكبار سيمكثون في مسكن فصل أوربيس.

لو أن أوسكار قدم طلب انسحابه فعلاً، لتساءلت إن كان عليّ الذهاب إلى إمبيراتوس، القلعة الإمبراطورية، لمقابلته. وبغض النظر عن إمكانية ذهابي من عدمها، كنت واثقًا تمامًا من أن أوسكار لم ينسحب.

…وأنه لن ينال عقاباً كذلك.

بمعرفتي بطريقته في التصرف، لم أعتقد أنه مسّ الأصغر سنًا منه بسوء بشكل مباشر قط.

لا يمكن لشخصٍ حريص مثله على مضايقة الأصغر منه سناً بشكل غير مباشر والتعبير عن إهاناته بطرق ملتوية، أن يشارك في أعمال جماعية كهذه تستهدف معاداة شخصٍ ما علانيةً. حتى وإن كان فرداً بعيد الصلة بالعائلة الإمبراطورية، فلن يقدم على فعل كهذا.

غادرتُ مسكن الفصل الملكي متسللاً كما لو كنت أقوم بمهمة سرية.

لو كنت أنوي فعل شيء بمفردي، كنت واثقًا أن كثيرين سيرغبون في منعي.

لكن، أليس عليّ تنظيف القذارة التي تسببت بها بنفسي؟

علاوة على ذلك، لم أكن ذاهبًا بمفردي حقاً.

تحركتُ وعيني على ساركيجار المتشكل بهيئة عصفور، كان يطير بالجوار متبعاً إياي، مواكباً لسرعتي، يحط على الأغصان ويراقبني.

لو ساءت الأمور، لتدخل ساركيجار على الفور. لم أدرِ حقاً أي عذر سأقدمه له حينها، لكنه كان بمثابة بوليصة تأميني.

ملاحظة المترجم: (بوليصة) تُستخدم للإشارة إلى عقد أو وثيقة رسمية. والقول هنا (بوليصة تأميني) تعبير مجازي.

وفي كلتا الحالتين، هذا أفضل بكثير من الموت.

لو قتلني أوسكار في قلب المعبد، لطار رأسه هو الآخر، لذا الأرجح أنه لن يُقدم على ذلك أصلاً.

لم أزر فصل أوربيس سوى مرة واحدة، وها هو الآن على وشك الإغلاق.

عند هذه النقطة، ألم أبدُ كوحشٍ يجلب الخراب أينما حلّ؟ حسناً، أعني، بما أنني أمير الشياطين، فالأمر منطقي نوعاً ما.

في المحصلة، لن ينظر إليّ أيٌ من طلاب فصل أوربيس بعين الرضا.

هل من الصواب حتى أن أظهر هناك؟ لم يكن أوسكار هو المشكلة الوحيدة، فقد أتعرض للطعن من شخص آخر، أليس كذلك؟

عليّ أن أبقى متيقظاً في الوقت الراهن.

0 0 0

صُنّف مسكن فصل أوربيس كمنطقةٍ خاضعة للرقابة. ومثلما كان مسكن الفصل الملكي مكاناً لا يسهل دخوله، كان الحال كذلك بالنسبة لفصل أوربيس.

ولكن بما أنه أصبح منطقة خاضعة للرقابة، فقد نُشر الحراس عند كل مدخل على مدار الساعة. وبالطبع، لم يكن بوسعي الدخول بهذه الطريقة.

كنت أرى بعض الأشخاص يغادرون المسكن حاملين حقائب سفر بين الحين والآخر.

لا بد أنهم كانوا من الطلاب الأكبر سناً الذين قدموا طلبات انسحابهم وطُلب منهم مغادرة المعبد بسبب أفعالهم تلك.

لم تبدُ السعادة على أيٍ منهم.

ولكن الغريب، أنني لم أستطع وصف تعابير وجوههم بالحزينة وحسب.

بدلاً من الاستياء، بدا الأمر وكأنهم مهيؤون لشيءٍ ما، أليس كذلك؟

تلك التعابير المتجهمة بشكل لا يصدق على وجوه طلاب أوربيس الأكبر سناً بدت لي غريبة بعض الشيء لسببٍ ما.

كان ساركيجار يراقبني من مكان قريب في هيئة عصفور.

"هذه منطقة خاضعة للرقابة حالياً."

أمرني الحارس عند المدخل بالابتعاد وأشار إلى داخل المسكن.

"لا أنوي الدخول، أريد فقط مقابلة شخصٍ ما. لدي ما أخبره به."

لحسن الحظ، تجاوب الحارس وسألني عمن أريد مقابلته.

عندما أخبرته أنني أريد رؤية أوسكار دي جاردياس، أومأ برأسه ببساطة وأرسل حارساً آخر ليدخل المسكن.

كم سيستغرق هذا من الوقت؟

رأيت شابًا أشقر يسير في الممر مقترباً من المدخل.

"...ماذا تريد مني؟"

كما توقعت، لم ينسحب ذلك الفتى.

0 0 0

بدا أوسكار دي جاردياس متفاجئاً لا غاضباً من زيارتي له. تُرى، هل لم يكن له ضلعٌ في محاولة الاغتيال فعلاً؟

عندما طلبت منه التحدث معي، جلسنا، أنا وهو، على مقعدٍ في مكان منعزل قرب المسكن، إذ كان الخروج الكامل ممنوعاً. جلس ساركيجار على غصنٍ قريب يراقب الوضع.

كان حينها مجرد عصفور صغير لطيف، لكن لو غضب، لتحول إلى تنين.

كم هو معتمد عليه.

خلافاً لمخاوفي، لم يُبدِ أوسكار أي عداءٍ تجاهي. ومع ذلك، لم أستطع التهاون في حذري معه؛ فهو من ذوي الأعين الضيقة في النهاية.

"ألا يدعو الأمر للسخرية؟ تقاتلتما مرة واحدة فقط، ونتيجة لذلك، أُغلق فصل أوربيس، ذو التاريخ العريق."

"... ليس في الأمر ما يدعو للضحك."

"حقاً؟ أجده مسلياً جداً."

اكتفى أوسكار بالضحك. لم أدرِ ما يدور في خلده، لكنه بدا ظاهرياً مستمتعاً بالوضع.

كان موقف ذلك الفتى أثناء اجتماع اللجنة التأديبية غريباً بعض الشيء كذلك.

لم يحاول الدفاع عن نفسه، ولم يحاول إلقاء اللوم علي، بل ولم يبدُ عليه الذهول حتى عندما فجّرت ليلكا آرون تلك القنبلة، على العكس تماماً، بدا وكأنه يجد الموقف برمته مسلياً جداً.

حتى حينها، لم تبدُ عليه أي علامات استياء. هل كان بارعاً في إخفاء مشاعره؟ فليس هناك ما يدعوه شخصياً للإعجاب بما يجري.

"أتخشى الانتقام؟"

رغم أنني لم أنبس ببنت شفة، فقد عرف بالضبط سبب مجيئي إليه.

"بصراحة، أجل."

"إنها مخاوفٌ عبثية. بالطبع، بعد تلك الحادثة، بات معظم طلاب فصل أوربيس يكرهونك، وهناك كثيرون آخرون يمقتونك أيضاً، ولكن ما الفائدة التي سيجنونها من المساس بك؟ الحقيقة الوحيدة المتبقية ستكون أنهم آذوا زميل دراسة للأمير والأميرة الإمبراطوريين."

لماذا يخبرني بهذه الأمور بهذا اللطف؟

كنت أخشى في البداية أن أدخل في شجارٍ مع هذا الفتى، ولكن كلما تحدثت إليه، ازداد شعوري بالغرابة.

"لا تظن أن كل من في هذا العالم متهورٌ مثلك."

لم أستطع إنكار كلماته؛ فما قاله كان صحيحاً.

المساس بي محفوفٌ بالمخاطر، لذا لن يهاجمني أحدٌ بشكل مباشر.

ومع ذلك، كنت على يقينٍ بوجود شخصٍ متهورٍ في الجوار، أليس كذلك؟ متهور لدرجة محاولة طعني أنا وإيلين والهرب!

"حسناً... هكذا أفكر، ولو فكر الآخرون بنفس الطريقة، فلن يجرؤوا على المساس بك. وما الجدوى من أذية طالبٍ من فصلٍ خاص؟ بالطبع، قد يتجرأ البعض على افتعال بعض الشجارات إن التقوا بك شخصياً، لذا كن حذراً عندما تصادف طلاباً أكبر سناً من فصل أوربيس وأنت تتجول في الشارع الرئيسي. هذا كل ما في الأمر."

ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه أوسكار وربّت على خدي.

"لا تقلق واذهب إلى دروسك وحسب."

لمَ بدا سعيداً إلى هذا الحد؟ لمَ لم يكن لديه أي ضغينة؟ لقد اكتفى ذلك الفتى بالتحديق بي قبل أن يتفوه ببعض الكلمات.

"همم. إن لم يكن هناك شيءٌ آخر، فيمكنك الانصراف."

كان هذا كل ما قاله أوسكار. يا تُرى، ما الذي كان يفكر فيه؟

لكن أوسكار هو من نهض أولاً بعد أن قال لي أن أنصرف.

لم يظهر عليه أدنى أثر للقلق. حتى بعد أن ذهبت لمقابلته شخصياً، لم أخرج منه بأي شيء.

شعرتُ كما لو أنه ممسوسٌ بشبحٍ أو شيء من هذا القبيل. وإن لم تخني رؤيتي، فإن أوسكار لم يكن يحمل أي مشاعر نحوي إطلاقاً، بل وبدا ممتناً نوعاً ما.

انعطف أوسكار عند المنعطف، ثم حط عصفورٌ على كتفي.

"هناك شيء مريب."

-زقزقة!

وكأنه يجيبني، زقزق العصفور بحماس.

"أوسكار وفصل أوربيس سيّان. هذا... هذا الأمر غريبٌ جداً حقاً."

كان الأمر غريباً.

لكنني لم أستطع تحديد مكمن الغرابة بالضبط.

كان مؤكداً أن هناك من يسعى لقتلي بسبب حادثة فصل أوربيس.

ومع ذلك، حاول أوسكار طمأنتي بأنه لن يمسني سوء.

بالطبع، كان الاحتمال كبيراً بأنه يكذب. ربما فعل ذلك ليجعلني أرخي حذري قبل أن يغدر بي من الخلف.

أن يخبرني بأنه لن تكون هناك أي محاولات اغتيال ضدي... إنها مجازفة كبيرة جداً.

هذا صحيح.

لا بد أن كلماته كانت على حق.

ولكن ما الذي كان أوسكار يستمتع به إلى هذا الحد؟

وجدتُ سلوكه غريباً لدرجة مقلقة.

لم يكن إغلاق فصل أوربيس هو المشكلة بحد ذاتها. بل بدا أن أمراً مريباً ومقلقاً كان يُدبَّر في الخفاء في تلك اللحظة تحديداً.

ما ماهية محاولة الاغتيال تلك ضدي؟ هل كانت حقاً من فعل شخصٍ حاقد فحسب؟

بدلاً من حل المشكلة، شعرتُ أنها ازدادت تعقيداً فحسب.

لكن، لا شك أن أوسكار كان يخفي شيئاً ما.

— هذا ما شعرتُ به على الأقل.

"اكتشف حقيقة هذا الأمر."

-أمرك يا سمو الأمير.

"يا للهول، لقد فاجأتني!"

0 0 0

هناك شيطانٌ يُدعى الدوبلجانجر (المُقرِن أو الشبيه). وبما أنه نوعٌ من الشياطين يظهر كثيراً في قصص الأشباح والأساطير، فإن البشر يتناقلون تلك القصص فيما بينهم أيضاً.

كانت أعداد الدوبلجانجر قليلة جداً في الأصل، ولم يكونوا من سكان الأراضي المظلمة الأصليين، لذا ظهروا بوتيرة أكبر في عالم البشر.

هم نوعٌ من الشياطين يمكنهم اتخاذ هيئة شخصٍ آخر وانتحال شخصيته.

يُصوَّر الدوبلجانجر أحياناً ككياناتٍ شريرة أو مجرد كائنات مؤذية مشاكسة.

لا يستطيع الدوبلجانجر سوى التحول إلى شخصٍ آخر، أما الدريدفيند (شياطين الروع) فيمكنهم تحويل أجسادهم كما يشاؤون.

ولهذا، يتفوق الدريدفيند تماماً على الدوبلجانجر.

كان التنصت على الآخرين أسهل ما في العالم بالنسبة لساركيجار، المنتمي لعشيرة الدريدفيند.

صحيحٌ أن التحول إلى شيء بحجم البعوضة أمرٌ مبالغ فيه، لكن بوسعه التحول إلى شيء بحجم صرصور، والصراصير قادرةٌ على الاختباء في أي مكان تقريباً.

لم يكن ساركيجار يروقه التحول إلى مثل هذه الكائنات الحية الدقيقة، إذ إن المرء يموت حقاً لو قُتل أثناء تحوله، ناهيك عن أن هذه الكائنات ضعيفةٌ للغاية.

أول ما تخصص فيه ساركيجار كان التنصت.

أما الثاني…

فهو التنقيب عن الأسرار.

فهناك دائماً شخصٌ ما يأمنه الناس على أسرارهم.

فلو تنكر أحدهم بهيئة أحد تلك الكائنات وحاول استخلاص إجابة من شخصٍ ما، لأمكنه الحصول على المعلومات بسهولة. بالطبع، كانت تلك طريقة خطيرة نوعاً ما، لأنها تخلق ذكريات لدى الطرف الآخر عن لقاء شخصٍ والتحدث إليه، مع أنه لم يقابله في الحقيقة قط.

أراد ساركيجار استخدام طريقته الأولى، فهي الأسهل.

لقد كان قادراً بالفعل على اختراق المعبد المحاط بحواجز متعددة.

ولهذا، كان من السهل عليه اختراق مسكن فصل أوربيس، الذي لا يحرسه سوى بضعة حراسٍ عند المدخل.

الشقوق في الأبواب، داخل الخزائن…

كانت هناك أماكن كثيرة ليختبئ فيها وطرقٌ عديدة للتسلل.

دخل ساركيجار المسكن بهيئة طائرٍ وتبِع أوسكار دي جاردياس. وعندما فتح الأخير باب غرفته الخاصة، تحول ساركيجار إلى صرصورٍ صغير، زحف من تحت الباب، واختبأ على الفور في الشق بين خزانةٍ والحائط.

وحتى لو اكتُشف أمره، فإن القلق الوحيد الذي سينشأ سيكون متعلقاً بالنظافة. فلن يشتبه أحدٌ بأن صرصوراً قد يكون جاسوساً زرعه أحدهم.

كانت هناك طرقٌ عديدة لمنع سحر التنصت أو الأتباع السحريين وتحييدهم، لكن ساركيجار كان كائناً حياً فعلياً.

0 0 0

عندما تحول إلى صرصور، فقد أصبح كذلك فعلاً. لقد كان مجرد صرصورٍ يحمل روح وعقل دريدفيند.

تلك كانت طبيعة قدرته على التحول، التي تضاهي السحر المطلق المعروف بالتحول الشكلي.

الشيء الوحيد القادر على منع ساركيجار من التنصت في تلك الحالة لم يكن سحر مكافحة التنصت، بل المبيدات الحشرية.

باستثناء القصر الإمبراطوري، إمبيراتوس، حيث وُضعت أنظمة الأمن والحواجز في أقصى درجاتها بعد حادثة الاختطاف، كانت هناك أماكن قليلة جداً يستعصي على ساركيجار دخولها.

وكان أحد تلك الأماكن هو القصر الذي تقيم فيه شارلوت دي جاردياس.

لحسن الحظ، لم يكن مسكن فصل أوربيس، ذو النظافة الجيدة، يعاني من مشاكل الحشرات، لذا كان من المستبعد أنهم رشوا المبيدات الحشرية في كل ركنٍ وزاوية.

لم يكن هناك ما يدعو للقلق.

وهكذا، لزم ساركيجار مكانه في غرفة أوسكار دي جاردياس الخاصة.

كانت جميع المواعيد التي يفترض أن يحضرها بصفته الكونت أرغون بونتوس قد أُلغيت بالفعل، لذا لم تكن لديه خططٌ أخرى في المستقبل المنظور. فاحتياجات سمو الأمير كانت أولويته المطلقة.

تسلق ساركيجار المتحول لصرصورٍ الجدار وألقى نظرةً على غرفة أوسكار الخاصة من أعلى خزانةٍ.

بدا أنه حزم أمتعته في بضع حقائب.

لم ينسحب أوسكار، لذا لو عُين في فصلٍ مختلف، لكان عليه حزم أمتعته مسبقاً للانتقال إليه.

كانت غرفةً يستعد لمغادرتها بالفعل، وفيما عدا ذلك، لم يكن بها شيءٌ مميز. بدا أن كل شيء، بما في ذلك الكتب، قد وُضّب بالفعل.

كان أوسكار جالساً إلى مكتبه. ولم يتمكن ساركيجار من رؤية تعابير وجهه لأنه كان يطل عليه من الأعلى.

لم يكن يكتب شيئاً.

لكن بدا أنه يفكر في أمرٍ ما مكتوف الذراعين.

لوقتٍ طويل…

لم يكن لديه ما يفعله، لذا اكتفى بالجلوس ساكناً.

غير ساركيجار موضعه وانتقل إلى مكانٍ يمكنه منه رؤية وجه أوسكار. فلو تحرك صرصورٌ ليصبح مرئياً، فمن البديهي أن يحاول المرء الإمساك به، لذا كان عليه الحذر كي لا يُكشف أمره.

كانت الابتسامة مرتسمة على وجه أوسكار.

بدا أنه ظل يبتسم ويفكر في أمرٍ ما طوال الوقت.

-طرق، طرق

فجأة، طرق أحدهم الباب.

نهض أوسكار وفتح الباب.

"أوسكار، وصلت رسالةٌ لك."

"أجل، شكراً لك."

سلمه أحد الموظفين رسالةً.

فتحها أوسكار وأخذ يقرؤها. غير ساركيجار موضعه مرة أخرى، وشحذ بصره، وقرأ محتويات الرسالة عن بعدٍ معه في نفس الوقت.

[بخصوص نظرية اللوغاريتم السحري التي استفسرت عنها المرة الماضية.]

[راجعنا النظرية وقد أثبتت جدواها، ولكن هناك بعض المتطلبات التي يجب استيفاؤها لنشرها...]

كانت الرسالة حافلةً بمصطلحاتٍ عن معارف متخصصة غير مفهومة لساركيجار. تُرى، هل قدم أوسكار سؤالاً يتعلق بتخصصه أو نظرية جديدة إلى معهد أبحاث ما، وكانت هذه هي الإجابة؟

قرأ ساركيجار محتويات الرسالة بصمت.

كانت مليئة بمصطلحات مبهمة، لكنه أدرك أن المحتوى لم يكن هو المهم فعلاً.

لِمَ يرتسم على وجه ذلك الفتى مثل هذا التعبير وهو يقرأ رسالةً تطفح بالمصطلحات الأكاديمية؟

كان واضحاً أن تعابير وجهه لم تنمّ عن ابتهاجٍ أكاديمي بمحتوى الرسالة.

لقد بدا منتشياً للغاية، لذا استطاع ساركيجار استنتاج أمرٍ ما بعد رؤية ردة فعل أوسكار التي لا تتناغم مع الرسالة.

ورغم أنه لم يعرف التفاصيل، كان على يقينٍ أنها رسالةٌ مشفرة.

لقد تبادل أوسكار رسالةً مشفرةً مع شخصٍ آخر.

لاحظ ساركيجار أنه كان يقرأ شيئاً مختلفاً تماماً عما تقوله الرسالة في ظاهرها.

كان ذلك وحده صيداً ثميناً بالفعل.

لم ينظر ساركيجار إلى الرسالة، بل إلى الظرف.

[المرسل – مركز الإمبراطورية الثاني لأبحاث النظرية السحرية]

تحددت وجهته التالية.

التسلل وجمع المعلومات...

كان ساركيجار أبرع من أي شخصٍ آخر في هذين المجالين.

0 0 0

أبلغني ساركيجار بما توصل إليه.

"يبدو أنه يتبادل رسائل مشفرة مع أحدهم..."

"أجل، يا سمو الأمير."

لم يكن الأمر مجرد افتراض، فقد كان أوسكار فعلاً في مزاجٍ رائقٍ للغاية. رسائل مشفرة، انسحاب طلاب، إغلاق فصل أوربيس…

كان بوسعي استنتاج عدة تخمينات بناءً على ذلك. ولكنها في هذه المرحلة لم تكن سوى تكهنات، ولم يتأكد شيءٌ بعد.

هل حقاً لا علاقة لأوسكار بمحاولة الاغتيال؟

تعززت القناعة بأن محاولة الاغتيال تقف وراءها جماعةٌ كبيرة.

شعرتُ أن خطط أوسكار لا علاقة لها بي إطلاقاً.

كان عليّ اكتشاف ذلك أيضاً، ولكن الأمر الأكثر إلحاحاً هو معرفة من يحاول قتلي.

كان المشتبه بهم الأرجح هم رعاة طلاب فصل أوربيس الأكبر سناً، وأصحاب النفوذ من جهتهم، وأوسكار دي جاردياس. ولكن موقف هذا الفتى دفعني لاستبعاده.

كان الأمر تفوح منه رائحة تنظيمٍ ما. لم أعرف أي نوعٍ من التنظيمات، لكنهم دبروا تلك المقاطعة الجماعية.

كان واضحاً أن جهةً ما أصدرت التعليمات لفصل أوربيس، لكنني لم أكن متأكداً إن كان عليّ القلق بشأنهم.

إن كان الأمر كذلك، فماذا كانت نصيحة الكاتب تحاول أن تخبرني به؟

لقد جازفتُ والتقيتُ بأوسكار، واكتشفتُ أنه لا يبالي بأمري في الواقع، رغم أنني لم أحصل على أي معلومات مؤكدة حقاً.

إن كان الأمر كذلك، فعليّ الانتقال إلى الخطوة التالية.

كان بوسعي شطب مجموعات قوية لا حصر لها من قائمتي الذهنية.

هناك شخصٌ واحد تبادر إلى ذهني...

رغم أن فصل أوربيس تصرف بشكلٍ منظم، فإنه لن يرقى أبداً ليكون منظمةً حقيقية.

وإن بدا أنه جزءٌ من الفصل، فلن يكون ذلك سوى تمويه.

من بين الكثيرين الذين قد يحملون ضغينةً شخصيةً ضدي، من قد يقدم فعلاً على محاولة قتلي؟

ورغم أنني لم أكن متأكداً إن كان هو المسؤول سابقاً، فقد كنت أعلم أنه سيلوث يديه لاحقاً، وهكذا توصلت إلى هويته.

كان أحد الشخصيات التي كتبتها، لكنه كان شريراً ثانوياً يظهر مرة واحدة، لذا كنت قد نسيت اسمه. ولم أتذكره إلا بعد أن تصفحت قائمة المعلمين.

"أحد معلمي المعبد، آرون ميديرا."

"أجل."

أحد معلمي الخيمياء في المعبد، وخيميائي ممارس…

ذلك الرجل لم يكن ينتمي فعلياً إلى فصل أوربيس.

"حاول جمع المعلومات عنه. وأبلغني بكل ما تجده بأسرع وقتٍ ممكن."

هو من استخدم السحر الأسود لتقوية إندر ويلتون.

"أمرك يا سمو الأمير."

لقد كان ساحراً أسود ينتمي في الواقع للجمعية السحرية المسماة 'النظام الأسود'.

لا بد أنه غاضبٌ أشد الغضب لأن مختبره، فصل أوربيس، يتم إغلاقه.

ما زال هناك احتمال ألا يكون هو الفاعل.

وإن لم يكن هو، يمكنني ببساطة الانتقال إلى المشتبه به التالي.

فلديّ ساركيجار في نهاية المطاف.

لم يسأل ساركيجار حتى كيف استطعتُ تحديد ذلك الشخص.

لقد نفذ أوامري وحسب.

يا له من تابعٍ مخلص.

أشعرني ذلك بالرضا...

0 0 0

في تلك الليلة...

داخل القصر الإمبراطوري، إمبيراتوس…

قصر الربيع، غرفة نوم الأميرة...

كانت العائلة الإمبراطورية في حالة تأهبٍ قصوى منذ بعض الوقت.

قلةٌ قليلةٌ فقط عرفت التفاصيل فعلياً، لكن الأغلبية استطاعت استشعار أن الأجواء المحيطة بالعائلة الإمبراطورية غريبةٌ نوعاً ما.

لم يكن السبب هو وضع فصل أوربيس.

فرغم أن المعبد كان أحد أهم مؤسسات الإمبراطورية، فإنه في النهاية مجرد مؤسسة.

في الوقت الراهن، كانت العائلة الإمبراطورية تعاني من مشكلاتٍ داخلية.

ربما كانت هناك فئةٌ من الناس تبتهج لتلك المخاوف، ولكن في النهاية، وبالنظر للصورة الكبرى، لم تكن العائلة الإمبراطورية لتلقي بالاً للشؤون الخارجية حينها.

"سموكِ، عليكِ الخلود للنوم الآن."

ابتسمت شارلوت بمرارة لكلمات دايروس وهي مستقرةٌ في كرسيها الهزاز.

"... أعلم أن هذا عبث، لكن يبدو أن النوم يأبى أن يزور جفوني."

بالإضافة إلى دايروس، تقرر إشراك سافيولين تيرنر، قائدة فرقة الفرسان الإمبراطورية الأولى 'شانابيل'.

"قد تشعرين بتحسنٍ إن واصلتِ تمرينات التحمل البدني."

وحتى وهي تستمع لكلمات سافيولين، ظلت شارلوت في كرسيها الهزاز، تتأرجح فيه ببطء.

منتصف الليل...

لم يكن في غرفة نوم قصر الأميرة أحدٌ سواهما.

بقيت شارلوت جالسةً في كرسيها الهزاز شاردة الذهن في قصر الربيع المقفر ذاك.

"ماذا بشأن التعويض؟"

"من الأفضل ألا تشغلي بالك به..."

"التعويض..."

نظرت شارلوت إلى سافيولين تيرنر.

"لقد سألتُ ماذا فعلتِ بشأنه."

"... لقد اتخذتُ تدابير كي لا يشعروا بالأسف."

"كي لا يشعروا بالأسف..."

تمتمت شارلوت بيأس، ووجهها بين راحتيها.

"وكم من المال يكفي كي لا يشعر المرء بالأسف على حياةٍ أُزهقت ولا يمكن مقايضتها بشيء؟ وهل يمكن للمال أصلاً أن يشتري شيئاً كهذا...؟"

"سموكِ…"

على كلمات دايروس، أنزلت شارلوت يديها عن وجهها.

كانت عين الأميرة اليمنى ملطخةً بالأسود.

"ألا يدعو للسخرية؟ أن أقول هذا بعد أن قتلتها."

هزت شارلوت رأسها بوهنٍ وهي تتحدث بنبرة كئيبة.

"سموكِ لم تقتليها."

"إن لم أكن أنا من قتلها، فمن الفاعل إذن؟ بيديّ هاتين، وبقدرتي هذه، قتلتُ وصيفةً خدمت في قصري طويلاً، فإن لم أكن أنا الفاعلة، فمن بحق السماء فعلها؟"

وهنا تدخلت سافيولين:

"لقد فقدتِ سموكِ وعيكِ آنذاك وفعلتِ شيئاً سيئاً في تلك اللحظة دون إدراك. وأنتِ حتى لا تتذكرين ما حدث، لذا لا يمكن لوم سموكِ على ذلك. ستتحسن الأمور قريباً."

رغم كلمات سافيولين القلقة والمفعمة بالأمل، لم ترتسم أي علامات تحسنٍ على وجه شارلوت.

سيتحسن الأمر…

كيف بحق السماء تصدق أن الأمور ستتحسن في وضعٍ لا يبدو إلا أنه يزداد سوءًا؟

كانت تفقد وعيها بين الحين والآخر، مستسلِمةً لسيطرة كائنٍ آخر.

"أنا هنا بأمرٍ من البلاط الإمبراطوري تحسباً لمثل هذه الطوارئ، سموكِ. لن يحدث شيءٌ بعد الآن."

بقيت سافيولين تيرنر في قصر الربيع امتثالاً لأوامر الإمبراطور.

ركزت شارلوت أفكارها وأخذت تطرد ببطءٍ القوة التي استبدت بعينها اليمنى.

حتى هذا بات بالكاد يجدي نفعاً.

وعند كلمات مواساة سافيولين، نظرت إليها شارلوت.

"سيدة تيرنر، لا داعي لقولكِ مثل هذه الأكاذيب."

"…"

"أنتِ هنا لتتخلصي مني عند الضرورة."

"سموكِ! هذا لن يحدث أبداً. ولو كلفني الأمر حياتي، فلن أفعل ذلك أبداً!"

ارتسمت ابتسامةٌ حزينة على وجه شارلوت وهي ترى شحوب وجه سافيولين.

"أنا لا أقول هذا للتشكيك بكِ، يا سيدة تيرنر،" همست شارلوت بهدوء، وعيناها مغمضتان.

"بل أطلب منكِ ألا تترددي عندما يحين الأوان."

"…"

"هل تعدينني بأنكِ لن تترددي؟"

بعد لحظة صمتٍ، أجابت سافيولين تيرنر.

"لا يمكنني أن أعدكِ بذلك. أبداً."

"…"

ابتسمت شارلوت بحزنٍ وأسندت ظهرها إلى كرسيها الهزاز.

كانت قد بدأت فجأةً بالسير أثناء نومها بعد انتهاء مهمة الفصل الدراسي الثاني الجماعية.

وعندما وقفت حافية القدمين في رواق ذلك القصر بمنتصف الليل، شعرت شارلوت كأنها في حلم.

ولم تدرك أنها لم تكن تحلم حقاً، بل كانت تتحرك في نومها، إلا عندما رأت راينهارت.

أرادت شارلوت أن تصدق أنها كانت تسير أثناء نومها ببساطة.

ولكن، عندما قررت ألا تبقى في المسكن بعد ذلك، كانت شارلوت تدرك تماماً أنها لم تكن مجرد سائرةٍ أثناء النوم.

ورغم علمها بعكس ذلك، فقد أرادت بشكلٍ مبهمٍ أن تصدق أن ذلك هو السبب.

لكنها كانت تعلم أن الأمر ليس مجرد اضطرابٍ بسيط.

وما حدث المرة الماضية جعلها تدرك أن ما كان يحدث لها ليس بتلك البساطة قط.

ومع ذلك، ستكون الأمور بخيرٍ ما لم تغفُ.

فلن تفقد السيطرة إلا إن غفت.

ولكن حتى لو قررت ألا تنام منذ ذلك الحين فصاعداً، فسيستولي ذلك الشيء على جسدها مجدداً في النهاية.

كلما فكرت بأن النهاية وشيكة، كان وجه أحدهم يمر أمام عيني شارلوت.

ثم بدأ وجه شخصٍ آخر بالظهور أيضاً منذ لحظةٍ معينة.

هذان الاثنان...

وأحزن شارلوت أنها لا تستطيع إخبار أيٍ منهما عن وضعها.

"أنا أخشى الليل،" تمتمت شارلوت بعجزٍ ويأس.

2025/04/07 · 18 مشاهدة · 3252 كلمة
Bar
نادي الروايات - 2025