الفصل الخامس عشر: الإختطاف~5
“ه-هذا…!”
تراجع لوثر الأصلع ذو الندبة، وملامحه متجمدة برعب مطلق، بينما استقر بصره على المشهد المستحيل أمامه.
وجه كاي كان مشوهًا بالخدوش، لكن نظراته… كانت شيئًا آخر تمامًا.
عيناه تحملان صقيعًا لا يمكن كسره…
خاليتان من أي شعور؛ لا عداء ولا مودة، لا كره ولا عطف، لا شفقة ولا وحشية فقط فراغ قاتل، كأنه يقف على حافة الهاوية دون أن يهتم بالسقوط.
ومع ذلك، لم يكن جسده في حالة تسمح بهذا الهدوء غير الطبيعي.
الخدوش تغطي جسده بالكامل، كدمات خافتة تظهر هنا وهناك، علامات على التعذيب الذي تعرض له في الماضي.
لكن أكثر ما كان يجذب الأنظار هو ذراعه اليمنى المفقودة.
لم يكن هناك طرف متبقي.
مكان الذراع تحول إلى شيء أقرب إلى كابوس.
كتلة طاقة متجسدة، متداخلة بشكل مثير للاشمئزاز مع هذا العالم، وكأنها محاولة فاشلة لجعل ما هو غير طبيعي يبدو طبيعيًا.
“هااا…”
زفر كاي، بخار أبيض يخرج من فمه ليذوب في الهواء البارد.
الحركة البسيطة هذه كانت كافية لتصيب كل من يراه بارتعاش غير إرادي.
رفع يده الباقية بخفة.
صوت منخفض “وشش-!” شق الهواء، قبل أن تظهر عشرات الأسلحة السوداء من العدم.
سيوف، رماح، وأسلحة مشوهة بمواد غير معروفة، كلها تنبض بهالة قاتمة، كأنها خلقت من نفس الفراغ الذي يعكسه بصر كاي.
في لحظة واحدة، بسط ذراعه.
"بوم-!!
صوت انفجار قوي اخترق السكون.
الهواء نفسه تمزق من قوته.
وانطلقت الأسلحة نحو لوثر، كأنها عاصفة لا ترحم.
***
أعين خاصة!
كانت “الأعين الخاصة” قوة استثنائية تتجاوز الفهم البشري العادي. لم يكن هناك سوى حفنة ممن يمتلكونها، أعدادهم لا تكاد تملأ أصابع اليد الواحدة.
هذه الأعين لم تكن مجرد قدرات خارقة؛ بل امتدادًا لمهارات فريدة تولد مع أصحابها. وعلى الرغم من غرابتها، إلا أنها بدت منطقية بشكل غريب داخل هذا العالم.
لكن الرعب الحقيقي يكمن في قدراتها. كل من امتلك “عينًا خاصة” كان ذو مستقبل واعد، شخصًا لا يُمكن تصنيفه كـ “عادي”.
والآن…
السؤال الذي ينبض في ذهني: ما هي قدرات عيني الخاصة؟
نظرتُ إلى الزجاج المتناثر تحت أقدامي، الزمن يبدو وكأنه ينساب ببطء. حركات الرجل الأصلع أمامي كانت بطيئة بشكل غريب، كأن كل تفصيل فيها يُعرض بدقة شديدة.
لكن شيئًا آخر شدّني…
العالم بأسره كان مغطى بجزيئات صغيرة متوهجة.
“مانا…” همست، والذهول يتسلل إلى صوتي.
أجل، هذه هي الـ”مانا”، وصفها الكاتب في الرواية كأنها أوراق خريف متطايرة، جزيئات مضيئة متناثرة في الهواء. قلة قليلة فقط يمكنهم رؤيتها بعين مجردة.
للحظة، تركتني الدهشة عاجزًا عن الحركة. لكن سرعان ما استعاد احساسي بالخطر السيطرة.
قدمي غُلفت بالمانا، التي استجابت لأفكاري كما لو كانت جزءًا من روحي.
اندفعت إلى الخلف!
حركتي كانت أسرع من قبضته، التي ضربت الفراغ الذي كنت فيه قبل لحظة.
ابتعدت لبضع خطوات، وشعرت بالعالم يعود إلى طبيعته فجأة.
لكن قبل أن ألتقط أنفاسي—
“وشش—!!”
عاد الزمن إلى التباطؤ مجددًا، وعيناي التقطت المشهد بوضوح. قبضته كانت أمامي مرة أخرى، أقرب مما كنت أتوقع، على بعد خطوات فقط.
كيف؟!
كيف انتقل بهذه السرعة؟!
لم يكن لدي وقت للتفكير. دفعت قدمي بالطاقة السحرية المانا، قافزًا نحو الجانب. قبضته سحقت الأرض، شظايا الصخور تناثرت في كل اتجاه.
نظرت نحوه. كان ثابتًا، وكأنه لم يبذل أي جهد.
هذا القتال لن يكون سهلاً.
***
***
***
كيف يتجنّبها؟
حدّق لوثر في كاي بعدما أفلت الأخير من قبضته مرة أخرى، وتسلّل الغيض إلى أعماقه دون وعي.
“رغم أنني قمعت رتبتي إلى F، إلا أن حقيقتي هي C.
كيف لهذا الفأر اللعين أن يراوغني؟!”
بدأت المانا تتدفق حول كاحليه، واشتدت عضلات ساقيه كوترٍ على وشك الانفجار.
“وشش-!!”
في غمضة عين، اختفى لوثر من مكانه، وظهر بجانب كاي كأنه شبح.
“وشش-!”
قبضته اندفعت كالسهم، تخترق الهواء نحو وجه كاي بلا رحمة.
لكنها اصطدمت بالفراغ.
“بوم!”
قبضته دمرت الأرض تحتها، محدثة انفجارًا هائلًا شقّ السكون. الحطام تطاير بعنف، والغبار تكاثف ليبتلع المشهد.
“هذا الوغد…!”
تهرب في اللحظة الأخيرة؟ أم لديه قدرة خارقة للتنبؤ؟
تساؤلات خاطفة ملأت عقل لوثر، لكنها لم تشغله طويلًا. هز رأسه بعنف، واستعاد تركيزه.
من العدم، انبثقت كرة زرقاء متوهجة على راحة كفه، تشع بطاقة مدمرة.
“بووم!”
انطلقت بسرعة جنونية نحو كاي، ممزقة الهواء بصوت مرعب.
كاي لم يرمش حتى. بإيماءة خفيفة، أمال رأسه، لتخطئ الكرة هدفها وتمر بجانبه.
"بومم-!! اصطدمت الكرة التي اخطأت هدفها، لتحدث انفجار بسيط.
“تسك!”
صوت نقر لوثر على لسانه كان مليئًا بالحنق.
لوثر لم يمنحه فرصة للتنفس.
“وووش!”
ظهر أمام كاي مجددًا، قبضته تمزق الهواء كالرعد.
لكن كاي أمال جسده ببساطة، واللكمة مرت بجانبه لتضرب فراغًا آخر.
“بوم!”
الأرض انفجرت تحت لوثر مرة أخرى، شقوق عميقة انتشرت كالعناكب.
“قف!” صرخ بغضب، وهاجم بضربة جانبية خاطفة.
كاي انخفض بجسده، لتفوت الضربة أعلى رأسه، ثم استقام بخفة، يراقب لوثر دون أن يغير تعبيره.
“توقف عن الهرب!”
اندفع لوثر بحركة خاطفة أخرى، راحته مفتوحة كأنه يريد سحق كاي بين أصابعه.
“فوووش!”
لكن كاي انحنى للخلف برشاقة، كأنما كان يتحرك على إيقاع غير مرئي. ضربة لوثر مرت أمامه بشبر، لتصطدم بجذع شجرة قريب.
“كررراش!”
الشجرة تحطمت نصفين، وسقطت مع دوي عنيف.
“لماذا لا تتوقف عن اللعب؟!”
صرخ لوثر، والغضب يشعل عينيه.
رد كاي بصوت هادئ، لا يخلو من التحدي:
“لأنك بطيء.”
“أوووه!!”
لوثر فقد أعصابه، وهاجم بسلسلة من الضربات العشوائية. قبضاته انطلقت كالعواصف، لكن كاي كان يتحرك كنسمة هواء، يتجنب كل ضربة وكأنه يعرف مكانها مسبقًا.
“فوووش! بوم! كرراش!”
كل هجمة دمرت شيئًا جديدًا في المكان: الأرض، الصخور، الأشجار.
لكن كاي، وسط هذه الفوضى، كان يتحرك برشاقة لا تصدق. يدور، يقفز، ينحني، وكأن جسده ينساب مع الهجمات بدلًا من مقاومتها.
لوثر توقف لثانية، أنفاسه ثقيلة.
“كيف تفعل هذا؟!”
كاي، الذي لم يظهر عليه أي تعب، أمال رأسه قليلًا، ورد ببرود:
“أنت الذي تفعل كل العمل هنا.”
رد كاي البارد كأنه سكب الزيت على نار غضب لوثر. رغم ذلك، لم يندفع فورًا. أخذ بضع خطوات إلى الخلف، عينيه تحدقان في خصمه، وتفكيره يدور في دوامة من التساؤلات.
“هل هو حقًا مجرد شاب من الرتبة G؟”
منذ البداية، لوثر كان يراقب كاي بدقة. مظهره الغاضب والمتهور لم يكن سوى تمويه. فهو ليس مقاتلًا عديم الخبرة. لكن كاي… هذا الشاب كان شيئًا مختلفًا تمامًا.
كان مرعبًا، ليس لقوته، بل لبراعته في التعامل مع نقطة ضعفه.
“كمية مانا ضئيلة… لكنه يستخدمها بذكاء شيطاني.”
لوثر فكر في كل مراوغة قام بها كاي: انتظار اللحظة الأخيرة، تعزيز بسيط لعموده الفقري، ساعديه، وقدميه لتتحمل الصدمة، ثم إلغاء التعزيز فورًا لتوفير الطاقة. كل حركة كانت محسوبة بدقة جراحية.
“كيف لشاب بهذه الرتبة أن يتقن هذا الأسلوب؟”
ضيق لوثر عينيه.
“مرعب…”
الكلمة تسربت إلى عقله كسم بطيء. إذا كانت سيلين تُعتبر عبقرية، فما الذي يُعتبره هذا الوحش المتخفي أمامه؟
مجرد تخيل الفارق بينهما… لوثر برتبة F بعد القمع، بينما كاي من الرتبة G، ومع ذلك استطاع مجاراته. الفكرة وحدها كانت كفيلة بجعل لوثر يتصبب عرقًا.
“سيكون من العسير مستقبلًا إبقاءه على قيد الحياة.”
حسم لوثر قراره بجدية قاتلة، على الرغم من التعليمات الصارمة بعدم قتل الطلاب لتجنب غضب الإيتيروس.
لكن… هذا الشاب مختلف.
عدل لوثر وضعية جسده، وتدفقت المانا كعاصفة عبر أطرافه.
“أغع-!!”
برزت العروق عبر جسده كأنها أنهار من نار، واشتدت عضلاته حتى بدا وكأنه وحش على هيئة إنسان.
“وشش-!!”
هالة زرقاء قاتمة اجتاحت المكان بعنف، تطايرت الصخور المدمرة من حوله كأنها أوراق شجر وسط إعصار.
وقف في وضعية ملاكمة شرسة، وصوته الرنان أشبه بجرس إعلان الحرب:
”[تم تفعيل: ملاكمة أزدَار.]”
بخطوة واحدة، انطلق.
“اعععا-!!!”
ترك خلفه أثرًا من الغبار الأبيض، والهواء تشتت بعنف كأن الأرض نفسها تراجعت عن مواجهته.
في لحظة، ظهر أمام كاي.
سرعته تجاوزت التصور.
عينا كاي اتسعتا للحظة وجيزة، قبل أن يعود إلى تعبيره الهادئ. لم يتح له الوقت لفعل شيء.
“الأسلوب: لكمة المحق——”
يده اليسرى اشتعلت بنيران برتقالية متوهجة، يده بأكملها تحولت إلى رمز للقوة المطلقة، هالة من الطغيان المحض.
“وششش-!!!”
عصفت قبضته، تسونامي من القوة اندفع مباشرة نحو كاي.
كاي، مدركًا أنه لا يستطيع تفاديها، أعد نفسه للتضحية.
“باغررر-!”
قبضته اليمنى ارتفعت بسرعة، صلبة كالفولاذ، لاعتراض ضربة لوثر.
لكن الحقيقة كانت واضحة:
“ضحى بيده اليمنى…”
“كرررراش!!!”
الضربة اصطدمت بقوة، والصوت الذي صدر كان أشبه بتحطم جبل.
بووووم!!!”
انفجار عنيف اهتزت معه الأرض، وسحبت الرياح الغبار والحطام في دوامة مرعبة. المنزل القابع في الخلف تداعى، جدرانه تشققت وسقط جزء منه كأنه لعبة هشّة أمام قوة خارقة.
وسط هذا الفوضى، جسد شبه مشتعل انطلق كقذيفة، ارتطم بالمنزل بقوة ساحقة، مدمّرًا جزءًا كبيرًا من واجهته.
“هوف… هوف…”
لوثر أخذ نفسًا عميقًا، صدره يرتفع وينخفض بسرعة بينما يكسو وجهه تعبير غريب بين الإنهاك والجنون.
“هيهي…”
ضحكته الخافتة تحولت إلى صدى مرعب، عيناه تلمعان بتوهج مميت وهو يحدّق أمامه نحو ما اعتبره بقايا خصمه.
الغبار بدأ يتبدد تدريجيًا، كاشفًا المشهد المخيف:
كاي، جسده ملتصق بالحائط المتصدع، يده اليمنى اختفت كأنها لم تكن موجودة، وكتفه الأيمن غارق في الدماء.
كانت عيناه مغمضتين، مظهره يوحي وكأنه فقد الحياة تمامًا.
لوثر، بخطوات ثقيلة وواثقة، تقدّم نحو أنقاض المنزل. عيناه لم تفارق الجسد المعلق أمامه، تأكد من كل تفصيل كأنه يريد أن يضمن انتصاره.
“لقد انتهى الأمر…”
تمتم لوثر بصوت منخفض، وارتسمت على شفتيه ابتسامة مُرضية.
لقد أنتهى…أخيرًا.