الفصل السابع عشر: ما بعد الحادثة~
“بيب…!"
“بيب…!"
“بيب…!"
صوت الأجهزة الطبية كان منتظمًا، كل نبضة تؤكد أن جسده لا يزال يقاوم.
نيفرا وقفت خلف الزجاج.
نظرتها ثابتة على الشاب الممدد بلا حراك.
أنابيب التنفس كانت متصلة بوجهه.
مغذيات وأجهزة تقيس نشاط قلبه وضغط دمه أحاطت بجسده.
ضمادات كثيفة غطت أجزاء كبيرة من جسده.
بعضها ما زال يحمل آثارًا حمراء باهتة.
الضوء الأبيض انعكس على الزوايا المعدنية للأجهزة.
الشاشات استمرت في الحركة، أرقامها تتغير بلا توقف.
كريك…" فتح الباب بصوت حفيف.
خرج رجل برداء أبيض طويل، يبدو مرهقًا. شعره بني مع بعض خيوط الشيب. عيناه عسليتان، ولحيته الخفيفة تغطي جزءًا من وجهه.
“إذًا، كيف حاله؟" نطقت نيفرا بنبرة جليدية.
“همم." لم يبدِ أي رد فعل واضح، لكنه توجه نحو النافذة الزجاجية وتوقف أمامها، عينيه ثابتتين على كاي.
غالبية مناطق جسده مضمدة، بما في ذلك العينان، الرقبة، المعدة، والصدر. اليد اليمنى خضعت لإعادة تركيب دقيقة، حيث تظهر بوضوح آثار الغرز الجراحية.
الكدمات قد خفّت بشكل ملحوظ، لكن لا تزال مرئية على بعض الأجزاء.
“حالته مستقرة الآن. الجرعة التي تم إعطاؤها، للعلاج المساعد قد أسهمت بشكل كبير في تسريع عملية شفاء الأنسجة الداخلية."
أدخل يده في جيبه ببطء، وأخرج علبة السجائر التي كانت مخبأة هناك.
فتح العلبة وأخذ واحدة، ثم وضعها بين شفتيه بهدوء، كما لو أن الوقت لا يهمه.
أشعلها ببطء، تاركًا خيوط الدخان تتصاعد في الهواء وتنثر حوله، كأنها تدور في رقصة هادئة.
رمقته نيفرا بنظرة غريبة، تتساءل في صمت عن سبب تصرفه.
كانت ملامح وجهها تعكس استفهامًا لم تُنطقه.
لاحظ نظرتها، فزفر الدخان ببطء، ثم رفع العلبة نحوها بلطف، وكأنه لا يهتم برد فعلها.
“أتريدين واحدة؟"
رفضت بسرعة، ولا شيء في وجهها يخفي دهشتها.
“لا، لكن أليست هذه منطقة يُحظر فيها التدخين؟"
تنهد بعمق، كما لو أن السؤال كان متوقعًا.
“ومن يهتم؟ لا أحد يراقبنا هنا."
حاولت نيفرا تغيير الموضوع بسرعة، فقالت بنبرة أكثر جدية.
“إذًا، كم سيبقى فاقدًا للوعي؟"
أجاب بنبرة غير حاسمة:
“من يعلم؟ لقد فقد كمية هائلة من الدم بعد كل شيء."
لم يكن هناك رد، لذا استدار بهدوء، فتح الباب، وغادر دون إضافة كلمة أخرى.
بعد مغادرة الطبيب، عاد تركيزها إلى كاي الفاقد للوعي.
تلقت اوامر من أعلى باستجوابه فور استيقاظه.
ولكن…لقد مرت ثلاثة ايام بالفعل!.
***
***
***
“إذًا هل هذا كل ما حدث."
“أجل سيدي." قالت سيلين بحزم.
غرفة ضيقة، جدرانها داكنة اللون، وكأنها تأسر الهواء داخلها. على الطاولة في المنتصف، أوراق متناثرة بأناقة، ومصباح صغير يضيء زاوية المكان بخفوت، مما يخلق ظلالًا كثيفة على الجدران.
في الزاوية الأخرى، كان ماثيو ينظر إليها، عينيه ثابتتين، وكأنما يحاول فك رموز ما وراء كلماتها.
الصمت الذي كان يملأ الغرفة سرعان ما تبدد مع سؤال آخر، مُلقى من بين شفتيه دون أن يتغير تعبيره.
“إذًا تم اختطافك وكاي دون سبب وجيه، ثم اقتراح الطالب كاي نورث خطة تعتمد على إفراغ طاقتك السحرية لأجل الهروب من براثن القيود؟"
ثم عاود النظر إلى سيلين بعينيه الثاقبتين، كأنما ينتظر إجابة حاسمة.
“أجل، سيدي." قالت ولم تشح بنظرها.
ثم أكمل، “عندما دخل الخاطف الغرفة، هل كان استفزاز كاي له هو الذي سمح لك بالتحرر من القيود، ثم الهروب بالقفز من النافذة؟"
“أجل، سيدي."
تابع بتأنٍ، “بعد الهروب، لاحقك أحد الخاطفين لفترة طويلة، حتى تمكنتِ من قتله؟"
“أجل، سيدي."
أخذ لحظة لينظر إليها، “هل لديكِ أي فكرة عن ما حدث بعد ذلك؟"
“لا، سيدي."
ثم سأل بنبرة أشد، “لا تعرفين كيف نجح كاي في النجاة حتى النهاية؟"
“أجل، سيدي."
نظر إليها بتركيز، ثم أضاف، “وماذا عن آثار المعركة؟"
أجابته بنبرة جليدية: “لا أعرف عما تتحدث، سيدي."
سادت لحظة من الصمت الثقيل، كما لو أن الكلمات الأخيرة كانت حائطًا يرفع بينهما، قبل أن يقرر المحقق المضي قدمًا.
“حسنًا، انتهى الاستجواب، يمكنك المغادرة." كانت نبرته محايدة، خالية من أي اهتمام إضافي
نهضت سيلين بهدوء، ثم توجهت نحو الباب دون أن تُظهر أي رد فعل.
فور خروجها، اندفعت صديقتها كاسيا نحوها، كأنها شعلة من نار، بشعرها الأحمر المطفأ وعينيها الخضراوين الزاهية اللتان تعكسان عتمة شعرها.
“سيلي، ماذا حدث بالداخل؟"
ابتسمت سيلين وقالت بهدوء: “لا شيء، مجرد أسئلة لمعرفة ما حدث عندما تم اختطافي."
“أوه، ياللراحة." زفرت كاسيا بارتياح.
قاطعهما صوت أخر. “كيف حالك سيلين؟" جاء الصوت الذكوري خلف كاسيا، ليظهر الرجل. كان شعره الذهبي يتلألأ تحت الضوء، وعيناه الزرقاوان كالبحار الهادئة، تحملان جوي من الحيوية الهادئة.
“أوه، مرحبًا ليون."
ابتسم ابتسامة براقة، ناعمة كأشعة الشمس، “ماذا ستفعلون اليوم؟"
ردت كاسيا بارتباك، وهي تبتسم بتردد، “أوه ليون، لا شيء حاليًا، ماذا عنك؟"
“حسنًا، كنت أبحث عن شيء أفعله، وإن لم أجد فسوف أذهب لتدريب."
تفاجأت كاسيا، ملامح وجهها تعكس دهشتها، “تدريب! ولكننا عدنا لتو من حصة الأستاذ ثورن!"
“هاها… لقد اعتدت على ذلك." قالها بنبرة هادئة، كأن الأمر طبيعي جدًا بالنسبة له.
ثم لمحت كاسيا سيلين، فحولت حديثها إليها، “أوه صحيح، سيلي.” قالتها وهي تراقب سيلين باهتمام. “سمعت عن ذلك… ما كان اسمه مرة أخرى؟ كاين؟ كين؟"
“كاي." قالت سيلين ببرود، وقد لاحظت انزعاجًا طفيفًا في صوتها، كأنها لا تريد الاستمرار في الحديث عن الموضوع.
“نعم، كاي، ذلك الذي تم اختطافه معك. سمعت أنه في غيبوبة منذ ثلاثة أيام ولم يستفق بعد." قال ليون، مشيرًا إلى الحزن الذي كان في عينيه رغم ابتسامته.
“صحيح." تدخلت كاسيا بابتسامة خفيفة، “هناك شائعات تقول إنه قاتل لوثر، الخاطف، وجهًا لوجه حتى النهاية. وعندما وجدوه كان فاقدًا للوعي، مصابًا بشدة، وكذلك الخاطف."
“مستحيل!" قاطعت سيلين بسرعة، وقد بدا الانزعاج واضحًا في صوتها. “لقد شعرت بذلك عندما كنت أمامه. إنه قوي للغاية! رغم أنه كان يقمع رتبته، وحتى مع ذلك، لم أكن أرى أي فرصة لي للفوز أمامه، فقط من الهالة التي كان يبثها."
“واه!، سيلي، هل تغارين من حقيقة أنه قاتل الخاطف ببسالة، بينما أنتِ هربتِ وذيلك بين رجليك؟" قالت كاسيا، وهي تبتسم ابتسامة ماكرة، محاولةً إغاظة صديقتها.
“ها! أنا؟ أغار؟" ردت سيلين بتهكم، ثم أضافت، “كنت في حالة يرثى لها، لم يكن لدي ما يكفي من المانا."
“بلا بلا، أعذار، مجرد أعذار." قاطعتها كاسيا بسخرية، وهي تبتسم بمرح، يداها تتأرجحان في الهواء كما لو كانت ترفض كلمات سيلين بحركة غير مبالية.
“غاا.. أنتي تغضبينني!" قالت سيلين، متجهة نحوها بغضب.
“كياهاهاها!" ضحكت كاسيا عالياً، ثم انطلقت في اتجاه بعيد فور أن اكتشفت أنها قد أثارت غضب سيلين.
"هاها… انهن حيويات حقًا." ابتسم ليون وهو يشعر بالانتعاش، وأمال رأسه قليلاً بينما كانت عينيه تلمعان بمزيج من التسلية.
***
***
***
في الطاولة، جلس أربعة أفراد يتناولون العشاء معًا. كان كاي، الشاب البالغ من العمر 23 عامًا، يأخذ قضمة من الباستا وهو يمضغ ببطء، يبدو واضحًا أنه مستمتع بما أمامه.
“أمي، الطهي هذا اليوم كان رائعًا، كما هو الحال دائمًا." قال كاي وهو يبتسم ويرتشف من كأس الماء بجانبه، ثم أخذ قضمة أخرى.
ابتسمت الأم بلطف، وهي تضع الشوكة جانبًا بعد أن انتهت من تناول وجبتها. “شكرًا، إيثان. لكنني أعتقد أن السر في المكونات الطازجة هذه المرة.”
أجاب الأب وهو يمسح فمه بمنديله، “أنتِ دائمًا تتفاخرين بالسر." ابتسم مازحًا. “لكن أعتقد أن إيثان هو الذي جعل الوجبة ممتعة بحديثه."
إيثان، الأخ الأصغر، الذي كان يضع عينيه على طبق كاي بعد ان انهى طبقه، نظر إليه وقال بتذمر، “هل يمكن أن تترك لي بعضًا من الباستا، أخي؟"
“أحلم أيها الصغير، إنه خطأك في تناول الطعام ببطء." قال كاي وهو يضحك بخفة، ثم أمسك الشوكة وأخذ قضمة إضافية، مستمتعًا بطعامه.
“و-ولكن أنت من قلت إن تناول الطعام ببطء جيد لمعدتي!" قال الشاب الأصغر، وقد بدا عليه بعض الحرج بينما حاول ابتلاع ما تبقى من الطعام.
لم يلتفت كاي إليه، بل تابع تناول طعامه قائلاً، “إنه خطأك للاستماع إلي."
“كاي… لا تغيض شقيقك الأصغر." قالت أمهما بحزم، بينما كانت تبتسم في الوقت ذاته، مستمتعة بالمشهد العائلي.
أخذ كاي نفسًا عميقًا ثم نظر إلى والدته أديل. التي كانت شابة رائعة في الماضي.
أما الآن، فقد زينت تجاعيد وجهها معالم الزمن، فيما حافظ شعرها الكستنائي على بريقه رغم مرور السنوات. عيناها الخضراوان كانتا تلمعان بحكمة وصبر، تحملان قصة حياة طويلة.
“أعتذر، أمي." قال كاي بصوت منخفض، لكن ليس هناك أي ندم.
فجأة، عمَّ الصمت في الغرفة.
لاحظ كاي أن الجميع توقف عن الكلام، وعيناه تمران على أفراد العائلة. كان الصمت يزداد ثقلاً في الأجواء.
“كاي، أنت تبكي؟" سأل إدوارد، والده، وهو يراقب ابنه بحذر.
نظر كاي إلى والده إدوارد الذي يتمتع بشعر أسود قصير وأعين بنيّة عميقة، تحملان قوة وحزمًا لا يخطئهما أحد. كان وجهه يحمل علامات الزمن، لكن صلابته ما زالت تبرز في ملامحه.
“ها؟" رد كاي بتعجب، قبل أن يشعر بشيء غريب في عينيه. وعندما نظر لأسفل، وجد دموعه تتساقط على طعامه.
أحس بوخزة في قلبه وهو يرى دموعه تتساقط. رفع يده سريعًا ليمسحها، لكن العاطفة كانت أكبر من أن يخفيها.
كان يظن أنه سيستطيع السيطرة على مشاعره، ولكن يبدو أن الكلمات التي خرجت من فمه جعلت كل شيء ينهار فجأة.
"أخي..؟" قال إيثان بحزن.
نظر كاي إلى والده إدوارد، الذي كان يراقب عن كثب، ثم إلى والدته أديل التي كانت تبتسم بحنان، لكنها كانت تعلم أن شيئًا ما كان قد تغير في كاي.
لم تكن هذه المرة الأولى لإدوارد التي يرى فيها ابنه متأثرًا، لكنها كانت المرة الأولى التي يراه يبكي هكذا.
“هل هناك شيء خطأ، يا بني؟" سأل بصوت هادئ، لعلَّه يخفف من وطأة الموقف.
كاي همس، “لا شيء، فقط… كنت أفكر في أشياء." لم يكن يعرف كيف يشرح ما يشعر به، وكان يفضل ألا يشرح ويبكي فقط.
لكنه لم يستطع أن ينكر، كان يشعر بشيء يثقل صدره، شيء يرفض أن يتركه.
مسح كاي عينه سريعًا، يحاول إخفاء أثر البكاء الذي يرفض أن يختفي.
“لا… لا شيء حقًا، ولكن أتمنى أن يستمر هذا الحلم إلى الأبد."
ثم، في لحظةٍ مفاجئة، جاء الصوت المدوي:
“كراك!"
شعر كاي بشيء غريب يتسلل عبر المكان. وفيما حاول فهم ما يحدث، تكررت الأصوات:
“كراك!"
“كراك!"
نظر إلى التصدعات التي بدأت تتوسع حوله، بصدمةٍ عميقة، وهو يراقب العالم من حوله ينكسر قطعةً تلو الأخرى.
وفي تلك اللحظة، شعر بشيء آخر يتسلل داخله، شيئًا كان قد حاول إخفاءه لوقت طويل. بدأت دموعه تتساقط من جديد، لكن هذه المرة لم يكن يحاول مسحها.
“سقط الصوت بصعوبة من بين شفتيه، مخنوقًا: ‘آه… غغغ…أمي!"
“كرييك!" بصوت التصدع الأخير، انهار العالم وابتلع السواد الحالك كل شيء.