الفصل الثاني: بين الحلم و الواقع~2
كان التأثير الناتج هو صمت عميق غطى الفصل، كما لو كانت جدرانه قد امتصت ضجيج الحياة وجعلت من كل صوت همسًا خافتًا.
بغتة، تم بقوة مجهولة قذف جسد كاي، ليتحطم عبر الجدار بقوى مرعبة، مع صوت ارتطام مدوٍ كصدى انفجار. سقطت بعض الكتب من الرفوف، وتطاير الغبار في الهواء، وكأن الفضاء قد تجمد للحظة، جميع العيون متوجهة نحوه، والنفوس متجمدة في حالة من الذهول.
نظر الفصل بأكمله، إلى كاي الفاقد للوعي، ممددًا بلا حراك على الأرض، وعلامات الصدمة بادية على وجوه الطلاب.
“هل هو احمق؟” همس أحدهم في زوايا الفصل، متسائلًا عن سبب تصرفه بهذه الطريقة المتهورة.
“هل نعت نيفرا بلانك بالعاهرة لتو؟!” جاء الرد من طالب آخر، محاولاً استيعاب ما حدث.
كانت الهمسات والتمتمات تنتشر عبر الفصل، مثل سحب من الدخان، تتجمع وتتلاشى، ثم تعلو الأصوات ببطء.
“صمتً.” رفعت نيفرا صوتها لأسكات الجلبة، رغم أنها علمت أن الشائعات لن تتوقف وسوف تنتشر دون توقف، كالنار في الهشيم.
في أعماق نفسها، كانت تدرك تمامًا أن هذا الفعل، بمهاجمة طالب دون إذن، قد يدخلها في دوامة من المشاكل المزعجة، ولكن لم تلق بالًا لذلك.
هي التي تم تسريحها من الخطوط الأمامية، لتأخذ فترة نقاهة من جنون الحرب والدماء المنتشرة في المقدمة. أصبحت معلمة في أكاديمية الإيتيروس، تبحث عن الاستقرار بعد سنوات من الفوضى والعنف، لكنها الآن تجد نفسها مجبرة على مواجهة هذه الفوضى من جديد.
لكن أن يتم نعتها بالعاهرة من طالب غير معروف، أمام حشد غير معلن، كان ذلك كفيلًا بإشعال شرارة غضبها. إن لم تتخذ إجراءً فوريًا، كانت لتصبح هدفًا للسخرية والاستخفاف، وهذا ما لم تسمح به لنفسها.
نظرت لكاي الفاقد للوعي من بعيد، بينما كانت مشاعر مختلطة تعصف بها. ثم أشارت لطالب عشوائي، “قم بتوصيله إلى العيادة.”
“ح-حسنًا.” توتر الطالب بسبب اختياره بشكل مفاجئ، ولم يستطع إخفاء ارتباكه. رفع كاي على ظهره، وركض إلى العيادة بعد الخروج من الفصل، تتعقب خطواته نظرات القلق من زملائه.
بعد صمت دام لثوانٍ، وكأن الزمن قد تجمد في تلك اللحظة الحرجة، أكملت نيفرا بصرامة، “حسنًا، لنبدأ بأساسيات الرتب والصفوف المنهجية، لأدوار المقاتلين…”
مع تلك الكلمات، نس الصف الحادث قبل ثوان، واندمجوا في الشرح، وكأن الهمسات قد تبخرت في الهواء.
قامت نيفرا بتغيير الموضوع ببراعة، مستخدمة معرفتها العميقة وشغفها بالتعليم، مما أضفى على الفصل جوًا من التركيز…
**
“آغغ…” لمس رأسه بألم، مستشعرًا الضمادات البيضاء الملفوفة بعناية حوله.
“أين أنا؟” تساءل بصوت خافت، بينما كان العرق يتصبب من جبينه، يجتاحه الألم.
“أوه!” نغمة أنثوية خفيفة كسرت الصمت، نغماتها أشبه بمقطوعة هادئة. رفع كاي نظره بصعوبة نحو مصدر الصوت، عينيه شبه مغمضتين.
“هل استيقظت أخيرًا؟” كانت امرأة ذات شعر بني وعينين ذهبيتين، مظهرها الجذاب كان لا يُخطئ.
لم يستطع كاي إلا أن يحدق لوهلة قبل أن يستعيد وعيه. “من أنت؟ وأين أنا؟” سأل دون تفكير.
تنهدت المرأة، وكأن هذا السؤال أصبح جزءًا من روتينها اليومي. “أنت في العيادة الخلفية التابعة لقسم الصحة، في الإيتيروس.” قالت وهي تفتح الستائر وتسمح بدخول ضوء النهار الباهت.
“الإيتيروس؟” تمتم كاي، الاسم بدا مألوفًا لكنه لم يتمكن من تحديد السبب.
نظرت إليه ببرود، “هل كانت الضربة أقوى مما ظننت؟ أنا متأكدة من الفحص، لم يكن هناك ما يشير إلى فقدان ذاكرة.”
تنهدت مجددًا، تعبيرها يحمل عبء الإجهاد، وكأنها متعبة من كل هذا.
لاحظ كاي الهالات السوداء تحت عينيها، تدل على سهر طويل، وعمل لا ينتهي.
“سأشرح لك مرة واحدة فقط.” قالت وهي ترفع حاجبيها. “أنت في أكاديمية الإيتيروس، وهي أكاديمية مرموقة عالميًا. تم جلبك إلى هنا بعد أن أطلقت على معلمتك نيقرا بلانك لقب… عاهرة.”
أضافت وهي تعصر جبينها وكأنها تعاني من صداع مشابه. “لم تضربك. كل ما فعلته هو استخدام جزء من هالتها لسحقك.”
بدأت بالثرثرة عن الموقف بتذمر، لكن كاي بالكاد كان يستمع.
“ها؟ أكاديمية الإيتيروس؟ نيفرا بلانك؟ هالتها؟” كانت هذه الأسماء والأحداث تتدفق إلى ذهنه، لكنه لم يستطع استيعاب كل شيء.
نهض من السرير بتجاهل تام لما قالته المرأة، متجاهلًا نداءاتها المتعجلة.
“إلى أين تظن نفسك ذاهب؟!” صرخت وراءه، لكنه لم يهتم.
الصداع عاد بقوة، لكنه عض شفتيه ليقاومه.
“نيفرا بلانك…” تمتم الاسم مرارًا، غضب واضح في صوته.
بعد خروجه، استقبلته المباني الشاهقة التي تجمع بين الحداثة ولمسات من العصر الفيكتوري. تجول بلا هدف، كما لو أن القدر كان يقوده.
أو ربما كانت غريزة ما تجذبه نحو هدف لم يفهمه بعد.
“بوم!” ركل الباب أمامه بكل قوته،
**
استمرت المحاضرة في وتيرتها المعتادة، صوت نيفرا بلانك كان ينساب بسلاسة بينما كانت تتحدث عن تاريخ الأكاديمية. “لذلك يقال إن المؤسس، في الماضي، بصد غزو الأبعاد، بعد أن حوصرت البشرية، من الأعراق الأخرى التي لم تنوِ السلام في البداية.”
واصلت بصوت جاد، “حتى عند ظهور الشياطين الأوائل، كان هو الحصن الذي حافظ على بقاء البشر، مما أدى إلى تشكيل حاضرنا.”
وفي تلك اللحظة، كان الفصل هادئًا، الكل مستغرق في كلماتها. “ولكن في العصر-”
“بوم!!!” دوى صوت ركل الباب بقوة، كأنه انفجار، هز القاعة بأكملها. صُدم الطلاب وانقطعت نيفرا عن كلامها، ناظرة إلى مصدر الصوت بغضب وانزعاج.
“همم…” نظرتها الباردة سقطت على الدخيل الذي اقتحم الفصل.
كان الشاب الذي دخل مألوفًا للجميع، رأسه مغطى بضمادة. عيناه مشتعلة بالغضب والتحدي.
تقدم كاي بخطوات واثقة إلى منتصف الفصل، وتوجه بنظره الحاد نحو إيفرا بلانك. كل الأنظار عليه، الجميع تجمد في مكانه.
“هل أنتِ نيفرا بلانك؟” سأل بصوتٍ مغرور، صدى كلماته يتردد في القاعة.
لم يمنحها وقتًا للرد قبل أن يصرخ بصوت عالٍ، “كيف تجرأتِ على ضربي، أيتها العاهرة؟!!”
لم يصدق الجميع ما سمعوه للتو. أن يجرؤ كاي على نعتها بهذا اللفظ أمام الجميع؟ كانت الفصول السابقة مليئة بالقصص عن قوة هذه المرأة التي دافعت عن البشرية ضد الأعداء، والآن يقف شاب متهور مثل كاي ليهاجمها علنًا؟
تجمد الزمن للحظة. كل الأنظار كانت مركزة على وجه نيفرا، الذي امتزجت فيه ملامح الصدمة بالغضب العميق. تلك اللحظات التي كانت فيها الكلمات مجرد شظايا مدمرة تعبر بين أذهان الحاضرين، كادت أن تُحرق الأجواء حولهم.
خطت نيفرا خطوة واحدة للأمام، الهواء المحيط بها كان يزداد كثافة، وكأن المكان نفسه بدأ يخضع لسيطرتها. رفعت ذراعها ببطء، كأنها تستعد لإطلاق سيل من الغضب على كاي.
“تجرأت… على نعتني بذلك؟!” جاء صوتها هادئًا، ولكنه مشحون بالطاقة. لم يكن ذلك الصوت سوى المقدمة لما سيأتي.
قبل أن يتمكن كاي من الرد أو التحرك، تحررت هالة هائلة من جسد نيفرا، موجة من القوة الخالصة اجتاحت الفصل. الطلاب شعروا بها كعاصفة باردة، وكأن قلب العاصفة يتركز حولهم. بعضهم سقط على ركبتيه، غير قادرين على تحمل هذا الضغط المرعب.
لكن كاي لم يتراجع. على الرغم من الهالة الساحقة التي بدأت تلتف حوله كدوامة مميتة، بقي واقفًا، ووجهه مشدود بتحدي واضح. ضربات قلبه تسرعت، وكانت كل شعرة في جسده تستشعر الخطر المتزايد.
حاولت نيفرا إخافة هذا الوافد الذي لم يعرف قدره، وفي البداية، يمكن القول إنه شتمها بينما لم يكن قد استعاد وعيه بعد من نومه العميق.
ولكن الآن، وبعد أن أدرك حقيقة الموقف، وجه لها شتيمة مباشرة، مغتاظًا من ضعف إدراكه.
من العدم، انطلقت قوة غير مرئية، متلألئة كالنجم المنفجر، وتلوى في الفصل.
“بومم-!!!” تردد صدى القوة في أذنه، وشعر كاي بالخطر الحقيقي يتسلل إلى أعماق روحه.
انتظر… هل يشعر الحالم بالألم حتى في أحلامه؟
في آخر ثانية، أدرك كاي الخطأ الفادح الذي وقع فيه.
وفي لحظة غفلة، دفعته قوة غير مرئية مرة أخرى، كأنه دمية تتلاعب بها أيدٍ خفية، ليصطدم بالجدار الخارجي.
تدفقت القوة الهائلة عبر جسده، وضغطت على كل شبر في بنيته، كأنها تحاول سحقه. شعور الألم اجتاحه بشكل قاسي، وكأن أمواج من الصدمة تجتاح أمعاءه، بينما كان جسده يصرخ بألمٍ مرير، عاجزًا عن المقاومة.
واظلمت رؤيته للمرة الثانية، كما لو أن ستارًا ثقيلًا قد انزلق ليغطي عينيه. اختفى كل ضوء، وغمره شعور بالضياع.
حاول أن يتمسك بأي خيط من الواقع، لكن الظلام كان كثيفًا، وسرعان ما بدأ عقله يتلاشى. شعور بالفقدان اجتاحه، كأنما كُسرت حواجز وعية، مما زاد من دوار رأسه.
تدفق الألم في جسده كأنه طوفان لا يمكن احتواؤه، ومع كل نبضة قلب، كان يستشعر كأن الحياة تتسلل منه.
في تلك اللحظة، أخذت الأفكار تتلاشى، وتدريجياً، استسلم لظلامه، حيث فقد الوعي، متركًا جسده في تلك العتمة الموحشة.
^^^
في المقدمة الفصول ستكون قصيرة نوعًا ما، بمعنى انها اقل من الف وخمسمئة كلمة.
أعذروني على الأخطاء…