الفصل الثالث: بين الحلم و الواقع~3
“همم.” فتح عينيه بتعب، ليستقبل نفس الجدار الأبيض الذي يحيط به من كل جانب.
“اغغ.” في تلك اللحظة، كأن تيارًا كهربائيًا اجتاح جسده، مستنزفًا كل طاقته.
“اااغغغغ.” استقر الألم في معدته، فمسكها بيديه، وكأن العديد من الإبر الساخنة تخترق عمقها. العرق يتدفق على جبهته، مخلفًا شعورًا بالهزيمة.
“اغغغ.” عضّ على شفته السفلى، محاولة منه للحفاظ على تركيزه وسط الفوضى.
“ماذا ك… أين أنا؟” تكررت الأسئلة في رأسه، تتراقص بلا إجابات.
“تنهد.” سمع تنهدًا عميقًا يأتي من جانبه، عميقًا كصدى لشيء مفقود.
توجه بنظره نحو مصدر الصوت، ليجد المرأة ذات الشعر البني مجددًا، عينيها تحملان نظرة مشوشة.
في تلك اللحظة، تدفقت أحداث استيقاظه في ذهنه كسيول لا يمكن إيقافها، وذكرى نعت معلمته بالعاهرة مرتين تتكرر ككابوس.
ارتجفت يده، يعتصرها الألم والرعب معًا.
قال بصوت متقطع، يعكس التوتر الذي يحاصره، “ا-نتي.”
نظرت إليه بانزعاج، “لتذهب مباشرة إلى نيفرا لتنتقدها مرة أخرى بالعاهرة؟! هل فقدت عقلك نتيجة الضربة الأولى؟”
تجاهل كاي سؤالها، مسلطًا الضوء على ما يزعجه، “هل يمكن لشخص أن يفقد الوعي في الحلم ويستيقظ أيضًا في الحلم؟” كان صوته مرتجفًا، وكأن السؤال يكشف عن عمق مخاوفه.
ارتفعت علامات الاستغراب على وجه المرأة، لكنها أجابت، مدركة أهمية مساعدة الآخرين في مثل هذه الحالات. “على حد علمي، كونك في الحلم يعني أنك بالفعل فاقد للوعي، لذا لا أعتقد أن فقدان الوعي مرة أخرى خلال ذلك ممكن. الاستيقاظ من فقدان الوعي داخل حلمك وأنت في الأساس فاقد للوعي هو أمر مستحيل.”
“لماذا؟ هل رأيت كابوسًا؟”
“اه…” ارتجف كف كاي بغزارة، وكأن فكرة الكابوس تتجسد أمامه. “إنه كابوس… أعتقد.”
نظر إلى المرأة، عينيه تحملان ثقل الأفكار، “ما اسمك؟”
“أليسا.” قالت، عينيها تفتشان فيه بفضول، كأنها تبحث عن شيء يتجاوز الكلمات.
ابتسم كاي بابتسامة مرهقة، “إذًا آنسة أليسا، هل يمكنك تركي وحدي؟ أريد التفكير قليلًا.” كان صوته يفتقر إلى الثقة، لكنه يحمل في طياته رغبة عميقة في الانعزال عن الفوضى المحيطة.
“اه… حسنًا، ولكن سأقفل الباب. لا أريد رؤيتك تهرب مرة أخرى.” كان صوتها يحمل نبرة حازمة، كما لو كانت تحاول حماية كاي من نفسه.
وقفت، تاركةً كاي وحيدًا مع أفكاره المتخلفة. كان الصوت القاسي لقفل الباب بالمفتاح يرن في أذنه، كأنه يعلن عن بداية العزلة.
في تلك اللحظة، ساد صمت ثقيل في الغرفة، وبدأت أفكار كاي تتلاطم في ذهنه كأمواج هائجة، محملة بالقلق والتساؤلات.
“تبًا تبًا تبًا.” تردد صدى كلمات كاي في الهواء، وهو يرفع جسده المصاب ببطء، كما لو أن كل حركة تتطلب جهدًا هائلًا. “اغغ.” انطلقت أنفاسه مع كل حركة، وشعر بكل حركة إضافية وكأن تيارًا كهربائيًا ساكنًا يتدفق عبر جسده الموجوع، مما زاد من إحساسه بالألم الذي يخترق كل عصب في جسده.
بصعوبة، دفع كاي نفسه نحو الأمام، وعيناه تحدقان في الستارة العريضة التي تفصل بينه وبين العالم الخارجي. مع كل خطوة، كان يشد جسده بقوة، محاولًا التغلب على الألم المستمر الذي يرافقه.
“وششش-!” صوّت الستارة، مشقوقة بصوت خافت، لتكشف عن ساحة الأكاديمية العملاقة التي تنتظره.
عندما انفتحت الستارة، تجلت الساحة أمامه كعالم آخر. كانت شاسعة، تحيط بها أشجار ضخمة وأنيقة، تزين المكان بأوراقها الخضراء المورقة. في المنتصف، تتدفق نافورة مياه برشاقة، وتبعث صوتًا مريحًا كأنها تلقي بموسيقى هادئة في الأجواء.
الطلاب يتنقلون في كل الاتجاهات، يتبادلون الضحكات والأفكار، بينما تلمع ألوان الزهور المتفتحة في كل ركن، تضيف لمسة من الجمال. كانت رائحة القهوة الطازجة تتسلل من كافيتريا الأكاديمية، تملأ المكان بأجواء مفعمة بالحياة.
“هاهاهاهه..” انفجرت ضحكته بشكل غبي، لكنها كانت ضحكة تحمل في طياتها آلامًا عميقة. كان صدى ضحكته يتردد في أذنه، وكأنها صرخة استغاثة تُخفي وراءها مشاعر الضعف واليأس.
أرتطام~! سقطت مؤخرته على الأرض، لكن الضحك استمر لثوانٍ وكأن الجاذبية نفسها تحاول جذبه إلى عمق شعوره بالألم. كانت كل ضحكة كأنها طعنة، تُضيف وزنًا إضافيًا إلى قلبه المثقل بالهموم.
خرجت الدموع بغزارة من عينيه، تُخالف تعبير وجهه المبتسم، بينما استمرت الضحكة بيأس، “هاهاكياهاها.” كان الأمر وكأن جزءًا من روحه يتلاشى مع كل نوبة من الضحك، مُخلفًا وراءه فراغًا شاسعًا ومريرًا.
“مستحيل، هذا مستحيل! جنون! مجرد خيال لعين.” ارتجفت كلماته في الهواء، وكأنها صرخات استغاثة تعبر عن واقع لا يُطاق.
احترق صدره بالألم، وكأن لهيبًا داخليًا يعصف به، يغزو أعماق روحه. بينما غطى المخاط الممزوج بالدموع محياه، كانت ملامحه مشوهة بالتعاسة. كل دمعة كانت تتدحرج كأنها تحمل ثقل الجراح التي لا تنتهي، وتختلط مع مخاوفه التي تتسرب إلى أعماقه.
في تلك اللحظة، شعر كأن العالم من حوله يتلاشى، تاركًا له شعورًا بالوحدة وسط هذه العاصفة العاطفية. كان الصراع بين الواقع والخيال يشتعل في ذهنه، مما جعله يتساءل عن حدود ما يمكن تحمله.
“أجل، هذا مستحيل!!” ارتفعت صوته في الغرفة، وكأن الكلمات كانت صرخة استغاثة في وجه واقع مؤلم. وقف من مكانه، وتوجه بسرعة نحو الباب، محاولًا فتحه، لكن الباب أبى أن يستجيب له، وكأن العالم نفسه كان يعانده.
بعد فشله، تحول بنظره إلى النافذة التي تطل على الدور الثالث، وابتلع غصة في حلقه.
“أجل، هذا مجرد حلم لعين، كابوس آخر.” تردد صدى كلماته في أذنه، بينما كانت الأفكار تتجول في ذهنه كأشباح معذبة.
توجه نحو النافذة بعد فتحها، تنفس بعمق، كأن الهواء المنعش سيساعده على الهروب من الأفكار المظلمة. “حلم، إنه حلم أمي وأبي. أقسم عند استيقاظي سأغير من شخصيتي.” كلماته كانت تتعثر في حلقه، بينما كانت الذكريات تتدفق؛ أخاه الصغير، أخته الرضيعة، كانوا جميعًا رموزًا لفقدانه.
“كهيهيي… لم يكن علي قراءة الكثير من الروايات، حتى أحلم أنني تجسدت في أحدها.” تلاشت الضحكات التي كان يُطلقها من صدره، ليحل محلها شعور ثقيل باليأس. وكأن كل أحلامه كانت مجرد سراب، أكذوبة ابتلعتها قسوة الواقع.
دون تفكيرٍ، قفز من الشباك. كان الهروب من هذا الكابوس الذي لا ينتهي هو كل ما يدور في ذهنه. سقوطه الحر كان أشبه بحركة بطيئة داخل فراغٍ لا نهاية له، بينما كان الهواء يحيط بجسده وكأنه يُشد إليه بعناقٍ بارد. كانت البرودة تجسيدًا لكل الآلام التي عاشها، كأن الألم نفسه قد صار ملموسًا يُمسك به، يلفه كضباب قاتم لا مهرب منه.
قبل أن يفقد وعيه في تلك اللحظة الحرجة، شعر بهالة باردة تحيط بجسده، كأنها تتسلل إلى أعماقه، تُكبل روحه. كان هذا الإحساس أقوى من أي شيء شعر به سابقًا، وكأن تلك البرودة نفسها كانت تذكره بأنه محاصر في هذا الواقع القاسي، واقعٌ تتأرجح فيه حياته بين الألم والخذلان.
أغمض عينيه للحظة، مُتمنيًا أن يكون هذا هو النهاية. “سوف ينتهي هذا الكابوس الآن…” تمتم، وكأن الكلمات كانت طريقه الوحيد للخلاص. أفكاره بدأت تتلاشى في رأسه، كأنها تشارك في سقوطه. كان الفراغ في صدره يزداد، يمتص كل أمل، كل شعورٍ بالانتماء. كلما تلاشت أفكاره، كلما ترسخ في داخله الاعتقاد بأن هذا العالم ليس إلا حلمًا قاسيًا.
كلما اقترب من الأرض، كانت صور عائلته تتراقص أمامه. وجوهٌ متلاشية من ماضيه، تُذكّره بما فقده، بما تركه خلفه. كانت تلك الصور كأشباح تتراقص في ذهنه، ومع كل وجه يظهر، كان قلبه يتمزق أكثر. كان يشعر أن كل ذكرى هي دعوة للعودة، لكن في أعماقه، كان عقله يصر على أن هذا مجرد خيال، وأن الموت هو السبيل للخروج من هذا الوهم.
وسط كل هذا اليأس، لم يعد لديه خيار سوى التساؤل: الموت هو الحل “إذا مت، سأستيقظ من هذا الحلم اللعين.” الكلمات خرجت منه بتلقائية، وكأنها وعد أخير يربطه بالواقع. كان يعتقد أن الموت سيعيده إلى حياته الحقيقية، حيث يمكنه أن يفر من هذا الألم، من هذا السجن الذي لا ينتهي.
تقوست شفتاه بابتسامة واهنة، “سأستيقظ أخيرًا.” كان يقولها وكأنها لحن يتردد في عقله، أمل ضعيف لكنه الوحيد المتبقي. الموت، بالنسبة له، كان الرحمة الوحيدة.
^^^
هل تعجبكم المقدمة؟.
أعذروني على الأخطاء…