الفصل السادس: مذكرات أليسا~2
مذكرات أليسا: الأسبوع الجحيمي النصف الثاني.
{<اليوم الرابع:
الاكتئاب..
هو ظلام يغشى الروح، يشبه عاصفة هوجاء تهب على سكون القلب. إنه حالة من الحزن العميق، حيث تتحول الابتسامات إلى ذكريات بعيدة، وتبدو الحياة كأنها مشهد رمادي بلا ألوان.
تبدأ هذه الحالة عادة بأفكار سلبية بسيطة، تتصاعد تدريجياً حتى تأخذ السيطرة على الذهن. كأنك تسير في نفق طويل لا نهاية له، وكلما حاولت الهروب، زادت الأصوات التي تهمس لك بأنك غير كافٍ، أو أنك لن تستطيع تجاوز هذا الألم.
خلال مراحل تقبل الواقع، تُدرك أنك تعيش في عالم مزدوج؛ فبينما يظهر الجميع مبتسمين من حولك، تشعر كأنك وحدك في جزيرة نائية، حيث تغمر كل فكرة في قاع عميق من الحزن. إنه شعور بالضياع، كما لو كنت تبحث عن طريقك في ظلام دامس دون أي دليل.
بفتحة باب المشفى، أراقب بصمت كاي، وهو يجلس على كرسي أحد المرضى الذين غادروا مؤخرًا. كان يبدومشغولاً بأفكاره، كأن عالمه الداخلي يتأرجح بين ضباب الماضي وواقع الحاضر.
“تنهد.” تنهد بعمق، وهو ينظر إلى النافذة بملل وصمت، وكأن هناك شيئًا بعيدًا يلفت انتباهه، لكنه عجز عن الوصول إليه.
تكررت التنهدات، تتصاعد وتتناقص كأمواج البحر، تحمل معها كل ما يمكن أن يوصف بالحزن، والملل، والفراغ. عينيه كانت عميقتين، كأحجية لم تُحل، وكأن كل نظرة تحمل في طياتها قصصًا من الألم الذي يعيشه. لم يكن هناك من حديث بيننا، فقط صمت ثقيل يتبادلنا به، وكأن الكلمات لم تعد تحمل أي معنى.
“كاي،” همست بهدوء، محاولة كسر جدار الصمت الذي التف حوله. “ماذا تفكر؟”
استدار برأسه ببطء، ونظر إليّ بعينين غير معبّرتين، كمن ينظر من خلال نافذة زجاجية. كان صوته منخفضًا وباردًا، “لا شيء يهم.”
أدركت أن تلك الكلمات كانت أكثر تعبيرًا مما ظننت. كانت كأي عبارة تحمل بداخلها عمق الصراع الداخلي. كاي، الذي يجلس هنا، هو مجرد صورة لروح ضائعة، تحاول أن تجد مخرجًا من متاهة الاكتئاب. لكن بروده لم يكن ناتجًا عن عدم الاكتراث، بل عن إحساس بالإرهاق من المعارك التي خاضها، ومن الأوهام التي تطارده.
“أنت تعلم، أحيانًا علينا أن نواجه أنفسنا لنتمكن من التقدم،” قلت، محاولًة توصيل رسالة الأمل. لكنه لم يُظهر أي رد فعل، بل استمر في التحديق إلى الخارج، حيث كانت السماء تتلبد بسحب رمادية.
“ربما،” جاء رده كهمس، كأنه يعترف بوجود حقيقة مؤلمة لكنه غير مستعد لمواجهتها. وفي تلك اللحظة، شعرت بواجب الدكتورة النفسية تجاهه، إذ كان يتطلب الأمر أكثر من مجرد كلمات رقيقة.
“كاي،” أضفت بتصميم، “لا يعني الاكتئاب أنك ضعيف. بل على العكس، هو علامة على أنك إنسان حقيقي. هل يمكنك أن تشارك بعض أفكارك؟”
لمعت عينيه بلمحة من الاستجابة، ربما خافتة، لكنها كانت موجودة. كان مثل الشتاء القاسي، الذي يحمل في طياته بذر الربيع، يحتاج فقط إلى بعض الرعاية والاهتمام لينمو.
اليوم، عبر فتحة باب المشفى، تسللت أضواء النهار ببطء، مرسلة شعاعًا من الأمل في فضاء مشحون بالقلق. جلست أمام كاي، الذي كان جالسًا على كرسي متهالك، عاكسًا برودًا غير مألوف. لم يكن كاي مجرد مريض عابر؛ بل كان كائنًا محاطًا بسياج من الألم والغموض، وكأن برودته تحميه من العواصف التي تعصف به.
“حسنًا.” تمتم كاي، وعبارته كانت بمثابة حلقة وصل لم أتوقعها. أخيرًا، نوع من التحسن!
“أليسا… كيف أتعامل مع مشاعر الخسارة والفراغ التي تجعلني أشعر أنني لا أنتمي إلى أي مكان؟” قال بصوت رتيب يملأه الملل. صوته كان يفتقر إلى الحياة، كأنه يسأل عن تفاصيل الطقس لا عن صراع ينهش أعماقه.
شعرت بثقل كلماته، فرفعت عينيّ لتلتقي بنظراته. في تلك اللحظة، أدركت أن كاي كان في حاجة ماسة إلى التواصل، حتى وإن لم يُظهر ذلك.
“الشعور بعدم الانتماء أمر شائع في مثل حالتك،” بدأت، محاولتي الحفاظ على احترافيتي. “لكنه ليس نهاية الطريق. علينا أن نستكشف أسباب هذا الشعور.”
كاي بقي صامتًا لفترة، ينظر إلى الأرض وكأنها قد سحبت منه الأمل. كنت أعلم أنه يكافح مع أفكاره، وبدأت أشعر بتعاطف عميق تجاهه.
“ما الذي يجعلك تشعر بذلك؟ هل هناك لحظة معينة شعرت فيها بأنك لا تنتمي؟” سألت، آملة أن أستدرج مشاعره. لكنه تجاهل السؤال وكأنني لم أتحدث.
“أحيانًا، علينا أن نعيد تقييم الأشياء التي نعتبرها هويتنا،” تابعت، محاولتي جعل كلماته تنسجم مع أفكاره المتبعثرة. “ما هي الأشياء التي تعني لك الكثير؟ هل هناك أشخاص في حياتك تشعر بأنك ترتبط بهم؟”
“لا أدري. يبدو أن كل شيء فارغ.” رد بصوت مملوء بالاستسلام.
تلك الكلمات كانت كالسهم الذي أصاب الهدف. أدركت أن كاي كان بحاجة إلى أكثر من مجرد كلمات؛ يحتاج إلى الشجاعة لمواجهة ظلاله.
“التفكير في الفراغ قد يكون خطوة أولى،” أضفت بحذر. “ربما حاول كتابة ما يجول في ذهنك. التدوين يمكن أن يكون وسيلة للتواصل مع نفسك.”
هز كاي رأسه بلا مبالاة، وكأن أفكاره ثقيلة كالأحجار. “ربما،” قال أخيرًا، لكن صوته كان كهمس الرياح في ليلة باردة.
مع تقدم الجلسة، شعرت أن هناك شيئًا عميقًا يختبئ وراء تلك الواجهة الباردة. كأن كاي كان يحاول إخفاء شيء ثمين، لكنه في ذات الوقت كان يكافح للاستسلام لظلامه.
“عليك أن تعلم،” بدأت أتحدث برفق، “أن تلك المشاعر ليست عدوك. إنها جزء من رحلتك. عليك أن تجد طريقة للعيش مع هذا الفراغ، أو على الأقل أن تعترف بوجوده.”
نظرة كاي كانت عابسة، لكن هناك شعاع من الوعي بدأ يتسلل إلى أعماقه. ربما كان يدرك، رغم كل شيء، أن هناك جزءًا منه يريد التحرر من قيود هذا الغموض.
“أحيانًا، نحتاج إلى النظر إلى عمق أنفسنا،” قلت، محاولة أن أضيء له الطريق. “عليك أن تواجه ذلك الفراغ، وأن تسأل نفسك: ماذا يعني أن تكون على قيد الحياة حقًا؟”
بقي كاي صامتًا، وكأن كلماتي كانت في صراع مع أفكاره. لكنه بدأ يعي أن هناك إمكانية للتحرر. وفي تلك اللحظة، أدركت أن البداية قد تكون في أصغر التفاصيل، وأن كاي كان على عتبة التغيير.
بعد تلك الجلسة، شعرت بأن شيئًا ما قد تغير، ليس فقط في كاي، بل فيّ أيضًا. كانت تلك اللحظات الصغيرة من الصراع والتواصل تمنح المعنى لهذا العمل. كأنني كنت أبحث عن إجابات في أعماق نفسي من خلاله، محاولتي لفهم الألم الذي يتنفس في كل زاوية، لذالك كتبت هذه المذكرة.>}
{<اليوم الخامس:
التقبل…
التكيف هو عملية حيوية يمُر بها الأفراد عند مواجهة التغيرات الكبيرة أو الخسائر. في مرحلة التقبل، يظهر التكيف كخطوة أساسية تتيح للفرد إعادة تقييم واقعه والتأقلم مع الظروف الجديدة.
خلال مرحلة التكيف، يبدأ الشخص في قبول ما حدث، ويدرك أنه لا يمكنه تغيير الماضي، لكنه يستطيع تغيير طريقة استجابته له. تصبح المشاعر أقل حدة، ويبدأ الأفراد في استكشاف طرق جديدة للعيش مع واقعهم.
قد يتضمن التكيف اتخاذ خطوات عملية مثل البحث عن الدعم الاجتماعي، أو تعلم مهارات جديدة، أو تعديل الأهداف الشخصية. يمكن أن يساعد التكيف الشخص في بناء حياة جديدة رغم الألم أو الخسارة، مما يمكّنه من المضي قدمًا بثقة.
بمرور الوقت، يتحول التكيف إلى أداة تمكّن الشخص من استعادة الشعور بالتحكم، ويبدأ في رؤية الفرص في التحديات.
هذا اليوم صادم بالنسبة لي. دخلت العيادة لأكمل إجراءاتي الروتينية، وهو ما اعتدت عليه كل خميس. كان اليوم كأي يوم عادي، أقوم بتسجيل حالات بعض المرضى، لكن الأمور لم تكن كما تبدو.
بينما كنت أستعد لتدوين الملاحظات، انتبهت لصوت شاب يختلط مع الضجيج المعتاد، صوت كاي. كان يتحدث مع بعض المرضى، وكان واضحًا أنه يحاول أن يخفف من وطأة الموقف. لم يكن يبتسم بقدر ما كان يحاول الابتسام، وكأنه يجهد نفسه للحفاظ على مظهر هادئ.
توجهت بنظري نحو كاي، ورأيت عينيه اللتين تعكسان شعورًا عميقًا من الضياع. كان يقف بينهم، محاولًا ملء الفراغ الذي يحيط به، لكنه بدا عالقًا في دوامة من عدم الانتماء. صوته كان هادئًا، لكن نبرة الثقة كانت غائبة، كأنه يحاول إقناع نفسه قبل إقناع الآخرين.
“حقًا، يبدو أنك تعاني،” قال كاي لأحد المرضى بلطف، متسائلًا عن حاله.
“أنا بخير،” أجاب الشخص المعني، لكن كلماته بدت خفيفة ومتسرعة، وكأنه يحاول إخفاء شيء ما.
عندما استمعت إلى كاي، شعرت بإعجاب عميق بطريقته في التعامل مع الآخرين. كان هناك شيء غير عادي في كيفية طرحه للسؤال. لقد بدت كلماته وكأنها تعبر عن اهتمام حقيقي، بينما كان يدرك تمامًا أنه في وضع صعب.
في ذلك الحين، انتابني شعور بأن كاي يحمل في داخله أفكارًا عميقة حول المعاناة والتكيف. ربما لا يدرك ذلك، لكنه كان يبني جسورًا مع الآخرين بينما يواجه هو نفسه عواصف داخلية.
في ختام الجلسة، استدرت عن كاي، وقررت أن أترك وراءي هذه الصورة التي تركت لدي شعورًا بالتحفز. كان هناك شيء فريد في فكر كاي، وهذا الشعور أضاء لي جانبًا جديدًا في فهم التفكير البشري.
لا اعتقد انني بحاجة إلا الحديث معه اليوم، فلم تعد حالته خطرة…>}
{<اليوم السادس:
"شكرًا لك، انسى اليسا." قال كاي تاركًا اليسا في حيرة وصدمة عظمى. كانت ابتسامته مفعمة بالأمل، وكأنه لم يتعرض للاكتئاب قبل يومين.
"أود الخروج والتجهز ليوم الأحد. هل يمكنك كتابة خروجي وإنهاء العلاج؟"
صُعقت اليسا وهي تنظر إلى حال كاي. ما الذي حدث له؟ كيف تحول من شاب يرزح تحت وطأة الاكتئاب إلى شخص يتحدث بإيجابية وثقة في لحظة واحدة؟ كانت تتساءل في داخلها عما إذا كان هذا التغيير حقيقيًا أم مجرد قناع يرتديه.
أخذت تتأمل في تعبير وجهه، كيف أن عينيه لمعتا كما لو كانا يحملان سرًا لم تكشفه بعد. كأنما كانت تلك الابتسامة تحمل شيئًا أكبر من مجرد الرغبة في الخروج من العيادة، شيئًا يعكس قوة داخلية لم تكن لتظهر قبل أيام.
"كاي، هل أنت متأكد؟" سألت بصوت يملؤه القلق، محاولًة فهم ما يدور في ذهنه. كان كاي يبدو وكأنه قد اجتاز مرحلة من الألم، لكن هل كان هذا هو الحل الفعلي؟
“كاي، هل أنت متأكد؟” سألت بصوت يملؤه القلق، محاولًة فهم ما يدور في ذهنه. كان كاي يبدو وكأنه قد اجتاز مرحلة من الألم، لكن هل كان هذا هو الحل الفعلي؟
“نعم، أليسا. لقد قضيت وقتًا كافيًا هنا، وأشعر أنني بحاجة إلى مساحة” كان كاي يتحدث بثقة، لكن صوته كان يحمل نغمة حادة مليئة باليقين.
“لكن، هل تعتقد أن الخروج الآن هو ما تحتاجه حقًا؟” ترددت أليسا، فهي لم ترَ مثل هذه الإيجابية منه من قبل. “هناك خطوات أخرى يمكننا اتخاذها، وأنت لا تزال بحاجة إلى الفحص…”
توقف كاي لحظة، كأن كلماتها أثارت شيئًا في داخله. “أليسا، كنت محاطًا بأفكاري السلبية لفترة طويلة، اود حقًا الذهاب إلى الخارج و العودة إلى روتيني المعتاد."
نظرت إليه، محاولًة فهم تلك الرغبة القوية التي انبثقت في صوته. هل كانت هذه بداية جديدة، أم مجرد اندفاع مؤقت؟ شعرت بالقلق، لكن في الوقت نفسه، كان هناك شيء في عينيه جعلها تعتقد بأنه يتحدث بصدق.
“حسنًا، إذا كان هذا ما تريده… سأكتب لك الخروج.” تراجعت أليسا، رغم كل مشاعر القلق التي كانت تملأ صدرها. “لكن تذكر، يمكنك دائمًا العودة إذا شعرت أنك بحاجة إلى المساعدة.”
ابتسم كاي مرة أخرى، ابتسامة تشع بالأمل، “شكرًا لك، أليسا. أعدك بأنني سأعتني بنفسي.”
ومع ذلك، ترك ذلك فيها شعورًا بعدم الرضى، فقد اعتادت على رؤية كاي في المشفى لعدة أيام، وكان وجوده يضفي على المكان طابع هادئ. الآن، كان رحيله يشعرها بأن الرابط الذي جمعهما قد انقطع.
بينما كانت تكتب الخروج، تفكر في كاي، الشاب الذي كان يتصارع مع نفسه في الأمس، كان يبدو كمن قد اكتشف شيئًا جديدًا حاليًا.
فقد مالذي حدث له بحق الجحيم؟!!.
فكرت وفكرت ولم افهم…لذالك سوف أنهي فصل مريض أخر عولج بشكل غامض بنسبة لي.
على عكس المرضى السابقين، فسبب علاج كاي غير مفهوم، في الأمس كان يبدوا على شفة الأنهيار، و اليوم بداء أنه شخص عادي.
أتمنى فقط ان لا يكون ما فعله في الأيام السابقة مجرد تمثيلية للهروب من العقاب…فسيكون ذالك أكثر رعبًا.
التاريخ:
أستر، 19 من سبتمبر، العام 1234، ليوم الجمعة.
ينتهي علاج مريض أخر. >}
^^^
أعذروني على الأخطاء…
اقراء جميع تعليقاتكم.