الفصل السابع: الغريب-
الليلة الماضية، يوم الخميس، الساعة 12 بعد منتصف الليل.
جلس كاي على كرسي قريب من النافذة، مستمتعًا بالهدوء الذي يعم الغرفة. الضوء الوحيد المنبعث كان ضوء القمر المبهر، الذي ألقى بظلاله الرقيقة على بشرته الصافية وشعره الأسود الحالك، مما أعطى وجهه مظهرًا شاحبًا ولكنه غامض.
في زاوية الغرفة، تراكمت أطباق العشاء والغداء والفطور التي لم يمسها منذ أيام. كانت أشبه بتذكارات من زمن ماضٍ، حينما كانت أليسا تجتهد في إطعامه. لكنها فشلت في محاولاتها المتكررة؛ فكان يرفض الطعام، ويعدها بوعود زائفة بأنه سيتناوله عندما يكون وحده. لكن الحقيقة كانت مختلفة. لم يكن الأمر متعلقًا بشعوره بالجوع أو تعنته، بل كان هناك فراغ عميق في داخله، شعور بالانفصال عن كل ما هو مألوف.
عندما كان يفكر في الطعام، كان كأنما يواجه جبلًا من الثقل. معدته كانت تتقلص، تتلوى، ويده ترتجف كلما اقتربت من الأطباق، كما لو كان هناك خطأ جسيم في كل ما يحاول فعله. حتى شعور الجوع لم يكن كافيًا لتجاوز تلك العزلة؛ فقد كان يشعر بشيء كئيب يتربص به، يمنعه من الاقتراب من أي شيء يتعلق بالطعام. كانت تلك الوجبات مجرد ذكرى لعالم آخر، عالم لم يعد جزءًا منه.
لم يشغل كاي الأضواء، مفضلًا الأجواء المظلمة التي تشعره بالراحة في وحدته. هذه الظلمة كانت ملاذًا له، حيث يستطيع الهروب من كل شيء. وكأنه كان يسعى ليغمر نفسه في كآبته، تاركًا الحياة خلفه.
رفع الكوب الذي أمامه، وارتشف من الشاي، الشراب الوحيد الذي ما زال يربطه بوالدته. كانت تلك العادة الوحيدة المتبقية، مما جعله يشعر بشيء من الدفء وسط برودة انفعالاته.
“تنهد.” أطلق زفرةً مفعمة بالتعب، كلما حاول التفكير، كانت عائلته تبرز في ذهنه، وكلما حاول الهروب من تلك الأفكار، كان يشتاق إليهم بشدة. كان الوضع أشبه بدائرة لا تنتهي، حيث لا يستطيع الهروب من الذكريات التي تحاصره.
نظر إلى النافذة الساطعة، حيث انعكس ضوء القمر على وجهه في المرآة. هناك، في ذلك اللمعان الخافت، كان يرى تجاعيد الألم التي ترتسم على وجهه، وشعور الفقدان الذي يغمره كما لو كان عاصفة قاسية تضرب قلبه.
كان لديه فك حاد، كما لو أنه نُحِت بدقة ليعكس قوته وصموده. عظامه البارزة تضيف إلى وجهه مظهرًا ثابتًا وقويًا، يوحي بالصلابة رغم الألم الذي يحاول إخفاءه. شعره الأسود، الذي يمتد بلا انتظام، ينسدل على جبينه وينحني بشكل طفيف عند أطرافه ليصل إلى عنقه، وكأنه يتحدى أي محاولة لترويضه.
عيناه، سوداوان كالليل، غارقتان في الظلال وكأنهما تنظران دائمًا إلى شيء بعيد… شيء لا يمكن الوصول إليه. لمعة خافتة تظهر فيهما حين يتأمل، لكنها تختفي بسرعة، تاركة وراءها عمقًا مظلمًا يشبه الهاوية. بشرته الفاتحة تبرز تناقضًا واضحًا مع الظلام الذي يسكن ملامحه، كأنها صفحة بيضاء تحمل عليها حكايات لم تُكتب بعد، أو ربما كتبها القدر بحبر غير مرئي.
“إنني حقًا وسيم.” كانت تلك الفكرة تترسخ في ذهني، ففي البداية، جعلني الاستيلاء على جسد غريب أشعر بعدم التجانس والاشمئزاز. ولكن مع مرور الوقت، بدأت أرى الأمر بشكل مختلف.
“أنا وسيم حقًا.” كلما نظرت إلى نفسي في المرآة، كان انبهاري يزداد.
عادت نظراتي إلى فنجان الشاي، حيث ارتشفت منه ببطء، كما لو كنت أستمتع بكل قطرة.
“تنهد…” كم عدد التنهدات التي أطلقتها اليوم؟ لا يزال عددها غير معروف لي.
نظرت إلى السقف بنظرة فارغة، أفكر في ما يحيط بي. “أنا حقًا في عالم جديد…” كانت فكرة الاستيقاظ في جسد جديد وفي عالم مختلف تبدو لي مستحيلة.
ومع ذلك، أصبح المستحيل واقعًا، وحقيقةً محيرة. شعرت بالفزع والرعب في الأيام السابقة، لكن بعد قبول الفكرة، غمرني شعور الضياع.
عالم جديد أو حتى كون جديد… أليس من الممكن أن أكون كائنًا فضائيًا نوعًا ما؟ لا أعلم حقًا.
“رواية، ها…” كانت فكرة أن أتحول إلى شخصية من رواية قرأتها، تلك الأحرف والفواصل والسرد المرتب، تصبح واقعًا بحد ذاته، أكثر استحالة من الفكرة الأولى.
كانت تلك الرواية واحدة من العديد من الروايات التي قرأتها، ولم يكن هناك الكثير من الأشياء المميزة حولها.
ومع ذلك، لا أفهم لماذا تجسدت في تلك الرواية بالذات بين كل تلك القصص.
كان سؤالًا لم أرغب حقًا في معرفة إجابته. حتى لو تجسدت في رواية أكثر تميزًا، لكان عليّ أن أطرح نفس السؤال، مما يجعلني أدور في حلقة من التناقض المستمر، دون جدوى.
كانت الرواية تُدعى “سجل الأقدار: خيوط الكارثة”. تدور قصتها حول بطل معجزة وشخصيات رئيسية موهوبة في الإيتيروس، الأكاديمية العالمية التي أسسها أبطال الماضي المستيقظون الأوائل للبشرية.
لقد حاربوا وكافحوا لإنشاء وطاء يُقدم لهم بين الأعراق، وإقامة مجال خاص بهم. وبعد أن أصبحت البشرية قوة حقيقية بين الأعراق، تم إبرام معاهدة السلام، وهي الإيتيروس.
أُسست الأكاديمية لتكون رمزًا للسلام بين الأعراق، حيث أُرسل كل عرق جيلهم الشاب للتعلم في تلك الأكاديمية. كانت في البداية مجرد نقطة للظهور، تُظهر هيبة كل عرق وتطوره.
لكن كل شيء تغير ذات يوم عندما غزا العرق المسمى “الشياطين” العالم.
كانت تلك نقطة محورية، حيث تحولت معاهدة السلام بين الأعراق إلى تحالف حقيقي، وبدأت الأكاديمية في تدريب الجيل الأصغر سنًا بضمير وذمة، حيث باتت درجاتك تحدد قيمتك.
إنها قصة كلاسيكية يمكنك أن تجدها في كل مكان.
ومع ذلك، لم أفهم لماذا تجسدت هناك، حيث لم تكن الرواية تنتهي بنهاية سيئة، بل كانت جيدة نوعًا ما.
كنت أكره حقيقة سحبي من عالمي وعائلتي إلى هنا، دون سبب محدد أو ربما لسبب لا أعرفه بعد.
بعد بحثي قليلاً في سجل صاحب هذا الجسد، اكتشفت أنه يتيم، ولا أدري كيف تم قبوله حتى في الإيتيروس.
صحيح… كان لدى عالم الرواية شاشة حالة.
ظهرت هذه الشاشة عندما استقبل البشر المانا لأول مرة. لم تكن لها فوائد حقيقية، سوى القدرة على رؤية مستوى قوتك وقدراتك الخاصة. كانت تلك ميزة فريدة في بدايات ظهورها.
لكن بسبب حالتي العقلية في الأيام السابقة، نسيت هذه الشاشة وكادت ذاكرتي تتآكل عند التفكير في عائلتي، ولذلك لم أنسها بدون سبب.
“الحالة…” تمتم كاي بصوت منخفض.
فجأة، تجسدت الشاشة الزرقاء أمام ناظريه، مرتعشة قليلاً كأنها تطفو بين الأشياء.
نظر كاي بترقب إلى الشاشة، لكنه سرعان ما فوجئ. “ها!؟” لم يستقبل مستوى قوته أو مهارات صاحب الجسد، بل كانت الشاشة فارغة تمامًا، دون حرف واحد عليها.
ظل كاي ينظر إليها لثوانٍ معدودة، ثم بدأت علامات الاستفهام والتحذيرات تملأ الشاشة.
<~~~~~~~~~~~~~~>
[تحذير: وجود كيان غير معروف يستولي على النظام. <غير معروف؟؟؟>]
[لا تحاول المواجهة. السيطرة تزداد.]
[<تحذير!!!!!!>]
<~~~~~~~~~~~~~~>
كيان غير معروف؟ ماذا يحدث؟!
فجأة، بدأ تغير في المساحة المحيطة، “وشش-!”. تصاعدت الشرارات الأرجوانية، تتراقص عبر الشاشة، بينما عصفت هالة غامضة في الأرجاء. شعر كاي بقشعريرة عميقة تسري على طول عموده الفقري.
{أه….} خرج صوت عميق وحاد من الشاشة، مما جعل شعر كاي يقف في كل أنحاء جسده.
{لقد انتظرتك لفترة حتى تقوم بفتح شاشتك.}
“أنا؟ ينتظرني؟” تساءل كاي، لسانه ثقيل بعض الشيء. ومع ذلك، أدهشه شعوره بالهدوء النسبي.
“هل أنت من أحضرني إلى هذا الواقع؟” كان سؤاله نابعًا من فضول حارق، على الرغم من أنه كان يعرف أن الكيان ربما لم يكن هو من فعله.
{أوه!.. ألا تسألني من أنا؟} قال الكائن بدهشة.
“لا يهم حقًا. إذا كنت تريد كشف هويتك، لما ظهرت بهذه الطريقة الغامضة، مختراقًا شاشة حالتي.”
{أنت أذكى مما توقعت،} قال بصوت مليء بالتسلية.
“على أي حال، لم تجب على سؤالي.” تفاجأ كاي بهدوئه أمام كائن غامض كهذا، لكنه لم يسمح لذلك بأن يؤثر عليه واستمر في الضغط.
{حسنًا، لم أكن أنا.} كسر هذا الكلام أمل كاي.
بشفاه مرتجفة، سأل كاي، “إذًا ه-هل يمكنني العودة لعائلتي؟” كان قلبه يتألم ويتقطع، وقد تخيل نوع الإجابة التي سيتلقاها.
{مع أسفي، هذا مستحيل…} كان ذلك ما قاله الكائن قبل أن يصمت، مما منح كاي لحظة تفكير.
“دوم-!” سقط كوب الشاي من يده، متحطمًا على الأرض، وهو ينظر إلى الفراغ بذهول.
توجه بنظره نحو النافذة، حيث توقع هذا النوع من الإجابة، لكن سماعها مباشرة كان أشد وطأة مما تخيل.
“لا أعرف ما اسمك، لكن هل هناك أي سبب للعيش في عالم لا تعرف فيه أحدًا؟” كان سؤاله عميقًا ومباشرًا، كأنه يعكس يأسه المتزايد.
{…} استمر الكائن في صمته لثوان، قبل أن يتحدث أخيرًا.
{الأمر يرجع إليك، ولكن على الرغم من أنني قلت إن رجوعك لعالمك مستحيل… ولكن يمكنك مقابلة عائلتك لمرة أخيرة والتحدث معهم.}
التوت رقبة كاي حتى بدت مستحيلة وهو ينظر إلى شاشة الحالة، عند سماع ذلك. عاد الأمل يتلألأ في عينيه، كأن شعلة جديدة أُشعلت في قلبه.
“ح-حقًا!!!” صرخ دون إدراك، مفعمًا بالدهشة.
{أجل.}
“أخبرني، أرجوك! سأفعل أي شيء لأجل ذلك!” كانت كلمات كاي تتساقط من شفتيه كندى الفجر، يائسةً وتحتاج إلى الأمل.
تحدث الكائن بسخرية، مشاهدًا كيف تغير كاي بشكل مذهل بعد سماع الخبر. {أجل… كل ما يجب عليك فعله هو امتصاص جوهر الفوضى للمنسي.}
صدم كاي عند سماع هذا. “لا تقل لي، كنسية الفوضى!.” كان صوته يختلط فيه الخوف والذهول، وكأن العالم من حوله قد انهار.
^^^
أعذروني على الأخطاء…