على أطراف مدينةٍ تغمرها الضوضاء، وتخنقها شاشات الدعاية اللامعة، في شقةٍ ضيّقة تتراكم فيها ضغوطات الحياة
صدر صوت مبحوح مملوء بالأم وا الغضب
العنة العنة لا يوجد شيئ
ولا حتى حل واحد
جلس شاب في العشرينات من عمره في غرفة غارقة في الظلمة، لا يكسرها إلا وهج شاشة الحاسوب أمامه.
كان له شعرٌ أسود كثيف، وعينان سوداوان كهاويةٍ بلا قاع،. ملامحه لم تكن مألوفة في هذا الجزء من العالم، وكأنّ حضوره شذوذٌ لا يُمكن تجاهله.
جلس هناك كأنّه قطعة من الخشب يتنقّل بين الشيفرات والخوادم كما يتنقّل الرحّالة بين كثبان الصحراء، يبحث عن شيءٍ لا يعرف إن كان موجودًا.
اسمه ألكساندر.
وإن سألت الشبكة عنه، فلن تجد شيئًا. لا صور، لا سيرة، لا أثر. وكأنه شبحٌ مرّ عبر الأكواد وترك خلفه أثرًا لا يراه سوى من يعرف كيف يقرأ بين الصطور.
لم يكن عبقريًا بالمعنى التقليدي،
دخل الجامعة لدراسة علوم الحاسوب، لكنه لم يحتمل أكثر من فصلٍ واحد.
كان يحضر المحاضرات بصمت، يتابع الأستاذين وهم يكررون مفاهيم قرأها حين كان في الثالثة عشرة من عمره، يحلّ مسائلهم قبل أن يُكملوا شرحها، بل ويفكك المنهج كاملًا ويعيد بناءه داخله رأسه في صمت، فقط ليدرك أنه لا جديد.
وفي يوم من الأيام ، خرج من قاعة المحاضرات ولم يعد.
ترك الجامعة ليس لأنه فشل، بل لأن النظام فشل في احتوائه.
ولم يُضِع وقتًا في التبرير، بل غاص مباشرة في الأعماق التي لأ تدرس: أعماق الشبكة المظلمة، الشبكات المُشفّرة، العوالم التي لا يدخلها إلا من لم يَعد يخشى القانون — لا لأنه خارجٌ عليه، بل لأنه أصبح فوقه.
هكذا بدأ في عالم الاختراق.
في البداية كان مجرد فضول: كيف يعمل نظام الأمن القومي؟ ماذا يحدث إن ضغطت هنا؟
ثم أصبح ضرورة.
فبدأ يسرق.
ليس من الناس، بل من الشركات التي بنت ثرواتها على وجع الآخرين.
شركات التأمين، مزادات البيانات، مزوّدي الإعلانات، البنوك التي تأكل أعمار الفقراء.
كلها كانت أهدافً له… كلها كانت موارد يمكن استغلالهة.
ومع كل ضربة ناجحة، كان يصمت أكثر.
يزداد وحدة، ويقترب من شيءٍ ما. شيء في الأعماق.
لم يكن يعلم اسمه بعد…
في ذلك السكون الرقمي، كُسر الصمت بصوت طرقٍ على الباب، حادٍّ متتابع شتّت تركيزه، التفت، ثم تنهّد، وقام ببطء.
فتح الباب، فوجد أمامه وجهًا مألوفًا، وجه أخته الصغرى.
"ماذا؟" قالها بصوتٍ مبحوح.
رفعت حاجبيها باستنكار:
"ماذا تعني بماذا؟ نحن ننتظرك على الطعام. أنت تعلم كم ينزعج أبي عندما لا نكون جميعًا على الطاولة وقت الطعام! أسرع، نحن ننتظرك."
زمّت شفتيها في انزعاج، ثم استدارت متجهة نحو المطبخ بخطى غاضبة.
نضر الى اخته وهيى تبتعد، ثم تنهد. رغم أنّها بلغت السابعة عشرة، إلا أنّ طفوليتها كانت لا تزال طاغية.
خرج من غرفته واتّجه نحو المطبخ..
حين دخله كانت عائلته كلها هناك.
جلس الأب غابرييل في رأس الطاولة، رجل في أواخر الخمسينات من عمره، وجهه متعب من المرض، وصوته مبحوح من الألم . كان يعمل سابقًا في صيانة الآلات، رجلٌ يحبّ النظام، يخاف من أن تتفكك عائلته كما تفككت الآلات بين يديه.) كانت تجلس بجانبه امه
إلينا معلمة رياضيات سابقة، مثقفة. كانت تؤمن بالعظمة، وتقرأ عن العلماء والفلاسفة، وتهتم بتربية أبنائها على الفضول والاكتشاف
" أشار إليه أخوه الأصغر قائلاً بلهجة طفولية: تعال بسرعة، أنا جائع
جلس ألكساندر إلى الطاولة متأخرًا كعادته، فيما كان والده يُقلب الملعقة بين أصابعه بنفاد صبرٍ صامت. لم يقل شيئًا، لكنّ نظرته كانت كافية لتوبيخه.
ألكساندر لم يكن يحب الأكل الجماعي، ليس لكرهه لعائلته، بل لأن ذهنه كان مشغولًا دومًا بأشياء أخرة.
أمّه، التي جلست مقابله، رمقته بنظرة مزيج بين الحنان والقلق، ثم قالت:
"أكنت تعمل على شيء مهم؟"
أجاب دون أن يرفع نظره عن طبقه:
"أحاول تجاوز الجدار الناري لمؤسسة أركون الطبية.."
شهقت أخته الصغيرة: ايفلين
"ألكس! قلت لك لا تتحدث عن أشياء غير مفهومة أثناء الطعام!"
ضحك الأخوان الصغيران، رغم أنهما لم يفهما شيئًا.
أجابت الأم بابتسامة مرهقة:
"دعوه يتنفس، هذا عالمه."
قال الأب بصوت مبحوح، وكان صوته يحمل رجفة خفيفة لا تخفى
وعالمنا؟
"ألا يستحق أن يكون جزءًا من يومه؟"
ساد صمت قصير.
ألكساندر لم يُجِب، بل فقط حرّك الملعقة في صحنه دون رغبة حقيقية في الأكل.
لم يكن والده قاسيًا، لكنه كان يموت شيئًا فشيئًا، يذبل كما تذبل الشجرة في الخريف البارد، وكان يشعر بأن الزمن يُسرق منه، ومن أولاده.
وبينما كانت العائلة منشغلة بأحاديثها الصغيرة، كان عقل ألكساندر في مكان آخر تمامًا.
قاطعه صوت امه من افكاره قالت وهي تضع قطعة خبز في طبقه:
"أتعلم؟ كنت في مثل عمرك حين قرأت أول مرة عن فيرما ورياضياته التي لم تُحل… تمنّيت حينها أن أنجب طفلًا يحلّها."
ابتسم ألكساندر ابتسامة خفيفة، لا سخرية فيها، بل حزن خفيف كمن يذكر وعدًا قديمًا قد نُسيه:.
ثم قال"لكنهم حلّوها بالفعل، منذ سنوات يا امي."
أجابت بصوت هادئ:
"أعلم… لكنّ الحلم لا ينتهي حين يتحقق، بل حين لا يعود يخصّك."
نظر غابرييل إليها بنظرة طويلة، كما لو كان يرى فيها كل شيء ضاع منه. ثم قال موجّهًا حديثه للجميع:
"نحن لا نعيش في كتب الرياضيات ولا على شاشات الحواسيب… نحن هنا، نأكل ونمرض ونضحك ونموت."
ساد صمت ثانٍ، أعمق من الأول.
قلب الأخ الأصغر آيدن قطعة طماطم في صحنه وقال ببراءة:
"لكنني لا أريد أن أموت، أريد أن أصبحب بطل خارق أطير فوق المدن، وأحمي الناس،
وأخترع أشياء لا أحد يفهمها، تمامًا مثل ألكس ."
ضحكت لينا وهي تصب له بعض العصير:
"أنت لا تستطيع حتى مساعدت نفسك في إنهاء واجب العلوم، كيف ستنقذ الناس ؟"
ردّ بحماس:
"سأطلب من ألكس أن يخترع لي بدلة بطل خارق من اجل ان اطير بهى!"
نظر إليه ألكساندر بابتسامة باهتة وقال:
"صفقة. لكن بشرط… أن تكون أول من يختبرها."
قهقه الجميع، حتى غابرييل لم يستطع إخفاء ابتسامته، رغم التعب الذي كان يسكن عينيه.