《الفصل الثالث: الأميرة العمياء》


¤¤¤¤¤¤


قبل أن أدرك ذلك، كان قد مضى أسبوعان بالفعل على بقائي هنا في القصر الامبراطوري.


خلال المرتين التاليتين اللتين حضرت فيهما العشاء العائلي، لم يخلو العشاء من محاولات الأميرة الأولى كريستينا، والأميرة الثانية ريناليا لإحراجي واستفزازي بأي طريقة ممكنة. وفي كل مرة، ينتهي الأمر بهما وهما تحاولان جمع شتات كرامتهما بإحراج شديد.


لا أدري حقاً متى تتعلم هاتان الغبيتان أنهما لن تستطيعا هزيمتي أبداً، لكنهما ظلتا تحاولان بيأس رغم ذلك.


الأمير الثالث كوليو كان يتجنبني بكل الطرق الممكنة كما لو أنني مصابة بمرض ما. لا أدري حقاً ما خطبه، فقد ظننت أنه سيحاول رد اعتباره مثلما فعلت أختاه. لكن أياً كان السبب، فقد كان ذلك أفضل وأقل وجعاً للرأس.


بالنسبة لآرون، فلم تكن هناك أي مواجهة أخرى بيني وبينه خلال الأسبوعين الماضيين. وفي الواقع، أنا لم أره أبداً منذ ذلك اليوم، فهو لم يحضر العشائين الماضيين لسبب ما.


كان ذلك مريحاً نوعاً ما، رغم إنني أشعر بالفضول حول سبب غيابه، فإيريك لم يخبرني أي شيء، ولم أحاول سؤاله أصلاً.


أخبرتني السيدة ماتيلدا أنه من المفترض أن أشرب معه الشاي مرةً في لأسبوع على الأقل بحسب أوامر الامبراطور قبيل مرض إيميليا، وذلك حتى يتعرفا على بعضهما أو ما شابه.
لكن حتى بعد أخذي لمكانها، فهو لم يأتي ولو لمرة. ليس وكأنني أمانع هذا في الواقع، فسيفقد الشاي لذّته إذا ما شاركته مع شخص عبوس على الدوام مثله.


رغم علاقتي الغريبة مع إيريك، إلا أننا صرنا أقرب إلى بعضنا خلال الفترة الماضية. كانت رفقته مسليةً جداً، وقد كنت أحب الاستماع إلى أحاديثه التي كانت كثيراً ماتجعلنا ننتهي ونحن نضحك إلى أن تدمع أعيننا.
لقد كان يستمتع كثيراً بمواجهاتي مع الأميرتين الأولى والثانية، فهو يكرههما حقاً. ولكن حسناً، لا أظن أنه يوجد في القصر أحد لا يفعل.


كنت جالسةً على أحد الكراسي الحديدية السوداء أسفل تلك المظلة التي رأيتها ذلك اليوم في الحديقة، وأمامي يقف إيريك وقد أسند جسده على أحد دعامات المظلة، عاقداً يديه أمام صدره، في حين كان يتحدث معي في مواضيع مختلفة.




لقد صرت آتي إلى هنا عادةً من أجل الاسترخاء والتأمل في جمال الطبيعة من حولي، بينما أحتسي الشاي المفضل لدي. كون القصر الامبراطوري مبني على هضبة عالية، جعل الجو أكثر نقاء من هواء المدينة في الأسفل، وهو ما جعلني أحب هذا المكان كثيراً.


"لكن أتعلمين؟ استغرب أنكِ لم تسأليني عن سموّه حتى الآن. ألا تشعرين بالفضول لمعرفة سبب غيابه؟"


حرّكت كتفي بلامبالاة وقلت بتذمر" لماذا أسأل عن الشخص الذي لا يكلّف نفسه عناء تحيتي حتى؟! ليس وكأنه سيسأل عني، أو سيهتم على كل حال"


ابتسم إيريك بمكر قبل أن يقول"همممم، لكنني أعتقد أنه كان مهتماً جداً بمعرفة آخر أخبارك مع شقيقاته المتعجرفات اللوات مسحتِ بكرامتهن الأرض"


استغربت من كلامه وقلت بدهشة" آرون سأل عني؟ لا أصدق هذا!"


ثم سكت قليلاً وأردفت بتفكير" لكن حسناً، لا استغرب اهتمامه بمعرفة ما حدث لهن، فيبدو أنه يكرههن حقاً. من الصعب التصديق أنهم يتشاركون الدم نفسه"


فعلّق إيريك على كلامي، وقد بدا متضايقاً جداً " لابد أنكِ تعرفين أن مكانة سموّه في القصر سيئة جداً. منذ طفولته، كان كثيراً ما يتعرّض للإساءة بسبب منزلة والدته كأمة. خصوصاً تلك الشيطانة كريستينا. لطالما عاملته باحتقار، وكانت تدبر له المكائد دائماً"


همهمت كإجابة، قبل أن أقول باستياء" تلك الحقيرة تهتم بالطبقات كثيراً. ولأنها ابنة الامبراطورة، فهي ترى نفسها أفضل من الجميع. كم أكره هذا حقاً! إننا جميعاً متساوون في كل شيء، وكوننا ولدنا في ظروف مختلفة، لا يعني أننا أفضل من بعضنا بأي شكل من الأشكال"


ابتسم إيريك من كلامي وقال بهدوء" صحيح أنكِ تغيرت كلياً، لكن أعتقد أن هذا الأمر لم يتغير فيكِ أبداً. حتى رغم أنكِ ابنة الدوق هامليوت، فقد كنت تعاملين الجميع بالتساوي، حتى الخدم والعبيد. ولأكون صادقاً معكِ، لقد كان ذلك الشيء الوحيد الذي كنت أحترمه في شخصيتكِ السابقة"


استغربت كثيراً من كلامه. إيميليا كانت متواضعةً مع الخدم والعبيد؟ حسناً، أنا لم أفكر بهذه الطريقة من قبل. صحيح أنها فتاة ساذجة وغبية إلى أبعد الحدود، لكن أحداً لم يذكر أنها كانت مغرورةً أو متكبرةً كما كنت أظن. هل يمكن أنها كانت فتاةً طيبةً في الواقع؟


لكنني علّقت على كلامه وأنا أضع مرفقيّ على الطاولة، بينما أسند كلا كفيّ على خديّ وانظر نحوه مباشرةً" لا أتفق معك في هذا إيريك. ألم تسمع بما فعلته للخدم بعد عودتي مباشرةً؟ إنني لم أعد الفتاة الطيبة والساذجة التي كنت تعرفها أبداً"


أجاب إيريك بنفس نبرته الهادئة تلك"هذا صحيح، فأنتِ أبعد ما تكونين عن تلك الفتاة الساذجة والطيبة، لكنكِ لستِ حقيرةً أيضاً. لقد عاملتِ الخدم بتلك الطريقة وقتها حتى تفرضي احترامكِ عليهم. لكنهم ما إن عرفوا قدركِ، حتى صرتِ تعاملينهم بتواضع حقاً. حتى أنكِ تمزحين معهم، وتتحدثين معهم بمرح أحياناً. ربما لم تلاحظي ذلك بعد، لكن الكثير من الخدم صاروا يحبونكِ ويحترمونك كثيراً. حتى أنني رأيت بعض الخادمات يتشاجرن على من تقوم بخدمتك. هذا بالإضافة إلى إعجابهم الشديد بشخصيتك القوية، وكونكِ الوحيدة التي وقفت في وجه الأميرتين الأولى والثانية، اللتان يكرههما الجميع"


تفاجأت كثيراً لما قال هذا وقلت بعدم تصديق" لم ألاحظ ذلك أبداً! أعني..ظننت أنهن يعاملنني هكذا لأنهن خائفات مني فحسب!"


ضحك إيريك من كلامي قبل أن يقول بابتسامة صادقة" وهذا هو أروع شيء بك. أنكِ تتصرفين هكذا بعفوية ومن دون أي تصنع، إلى درجة أنكِ لا تلاحظين ذلك حتى!"


لأكون صادقة، لقد شعرت بالخجل حقاً من كلامه. إنها المرة الأولى في حياتي التي يمدحني فيها شخص ما بصدق هكذا. لذلك قلت بارتباك وأنا أحاول إخفاء توّرد وجنتي" أوه إيريك، توقف عن قول كلام كهذا. ستجعلني أصدق أنك معجب بي حقاً. إنني أحذرك، إذا ما واصلت قول هذا، فسوف استعمل كلماتك ضدّك في الوقت الذي تأتي فيه لقتلي!"


ما إن قلت هذا حتى تغيّرت تعابير وجهه على الفور. لقد بدا اممممم.. متضايقاً؟


لا أفهم لماذا تغيّر مزاجه هكذا فجأة. أعني أنا لم أقل شيئاً خاطئاً صحيح؟
ربما صرنا على وفاق في الآونة الأخيرة، لكن كلانا يدرك جيداً أن هذا لن يدوم طويلاً. إذن لماذا هو مستاء هكذا الآن؟ ولماذا واللعنة، أشعر بالذنب بسبب ما قلته؟!


لكن مجيء تلك الخادمة وهي تحمل كوب الشاي الخاص بي، أنقذني من ذلك الصمت المربك الذي ساد بيننا فجأة. وضعته أمامي على الطاولة، ثم قالت وهي تخفض رأسها باحترام " الشاي الخاص بك آنستي"


شكرتها وأخذت رشفة من ذلك الشاي الساخن، لكن مذاقه كان مميزاً جداً إلى حد جعلني أتوقف بينما انظر إلى ذلك السائل الأحمر الذي احتواه هذا الكوب في يدي. لم أتذوق في حياتي شاياً بهذه اللذة من قبل!


أخذت رشفةً أخرى وأنا استمتع بهذا المذاق الرائع. هذا المزيج المتناغم بين المرارة اللاذعة، والحلاوة المميزة في الوقت ذاته. لم يكن ثقيلاً، ولا خفيفاً أيضاً. إنه فقط مثالي جداً!


نظرت نحوها وسألتها باهتمام" من أين حصلتم على أوراق هذا الشاي؟ إنه لذيذ حقاً!"


بدت متفاجئةً جداً من سؤالي، أو ربما متفاجئةً لكوني سألتها من الأساس. لا أدري حقاً، لكنها أجابت بابتسامة خجولة" إنه من حديقة أعشاب القصر الامبراطوري آنستي"


أوه يا إلهي! كيف نسيت هذا؟! يبدو أنني انشغلت بلعب دور إيميليا، وغفلت عن ذلك تماماً!
لا يوجد مختص أعشاب في العالم إلا وقد سمع بحديقة الأعشاب الخاصة بالقصر الامبراطوري في امبراطورية سترافينيسكا. إنها مثل الجنة تماماً بالنسبة لنا نحن أطباء الأعشاب. ففي تلك الحديقة الضخمة، توجد الآلاف من الأعشاب والنباتات النادرة جداً، والتي تم جمعها من مختلف بقاع العالم.
لقد كنت أتمنى دائماً أن أراها، فكيف يمكن أن أنسى أمرها وقد كنت قريبةً منها لما يقارب الشهر الآن؟!


شربت ما تبقى من الكوب بسرعة، ثم قمت من مكاني وقلت وأنا انظر إلى إيريك بحماس" إيريك، خذني إلى حديقة الأعشاب تلك، أريد أن أراها بأي ثمن!"


بدا هو والخادمة متفاجئين جداً من حماسي هذا. أعلم أنه من الغريب أن تكون إيميليا مهتمةً بشيء كهذا، لكنني لا أستطيع المقاومة أبداً. ليس وأنا على مقربة من أضخم حديقة أعشاب في هذه القارة بأكملها!


سحبت إيريك من يده وقلت وأنا أجرّه معي بحماس شديد"هيا إيريك، لنذهب بسرعة!"


▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎


إذا ما قلت أنها ضخمة، أعتقد أنني سأنقصها حقها حينها. كنت أقف أمام البيت الزجاجي الضخم جداً، والذي يضم داخله حديقة الأعشاب الامبراطورية، بينما أنظر نحوه بذهول. إذا ما كان يبدو هكذا من الخارج، فلا يمكنني أن أتخيل أبداً ما الذي يمكن أن يحتويه من الداخل!

التفت إلى إيريك، لأمسك معصمه بكلتا يدي وأقول بحماس شديد، كطفلة على وشك الدخول إلى منزل مصنوع من الحلوى" لندخل، لندخل!"

تنهد إيريك بضيق، ثم قال بينما يفرك شعره بامتعاض" عليكِ الدخول وحدكِ. فأفراد العائلة المالكة، بالإضافة إلى عمال الحديقة هم فقط من يسمح لهم بالدخول. سوف انتظركِ هنا في الخارج"

في الحقيقة لم استغرب هذا كثيراً. بل إنه سيكون من الغريب أكثر أن يسمح لأي شخص بالدخول لمكان كهذا، فهو يعتبر كنزاً وطنياً إن صح التعبير.

لكنه نظر إليّ لبعض الوقت قبل أن يسألني بحيرة" لكنني لا أفهم حقاً سبب اهتمامك المفاجئ بالحديقة. أعني، لقد بقيتِ هنا لثلاثة أشهر، ولا أذكر أنكِ اقتربتِ منها ولو لمرة!"

ارتبكت قليلاً من سؤاله، لكنني رغم ذلك كنت قد توقعت أن يسألني عاجلاً أم آجلا. لذلك أجبته بالكذبة التي أعددتها طوال طريقنا إلى هنا "في الوقت الذي بقيت فيه في المنزل، صار لدي شغف جديد بتذوق أنواع الشاي المختلفة. لقد قرأت عن الحديقة الامبراطورية من قبل، وأنها تحتوي على الآلاف من الأعشاب والنباتات النادرة جداً، ومن ضمنها أجود الأنواع من أوراق الشاي. لذلك عندما ذكرت الخادمة أن أوراق الشاي تلك كانت من الحديقة، لم أستطع منع نفسي من القدوم إلى هنا، ورؤية أنواع أوراق الشاي المختلفة بنفسي!"

لم يبدو مقتنعاً تماماً بما قلته، لكنه أومأ بفهم على كل حال.

أعلم أنها كذبة غبية، لذلك لا تضحكوا علي حسناً؟ أعني بربكم! كيف يفترض بي تفسير هذا الهوس المفاجئ بتلك الحديقة المليئة فقط بالأعشاب، بالنسبة لفتاة يفترض أنها لا تعرف التفريق بين الكزبرة والبقدونس؟!


لكنني لا أهتم حقاً إذا لم يصدقني. أريد رؤية تلك الحديقة، وليذهب كل شيء آخر إلى الجحيم!

ابتعدت عنه وقلت وأنا أصعد تلك الدرجات الحجرية المؤدية إلى مدخل الحديقة "حسناً، انتظرني قليلاً، سأحاول ألا أتأخر"

كان هناك حارسان واقفان على جانبيّ البوابة الزجاجية المؤدية إلى الداخل. ولما رأياني، بدا مستغربين جداً. خفض أحدهما رأسه ثم خاطبني قائلاً بحذر "طاب مساؤك ليدي هاميلوت. هل يمكنني أن أخدمكِ بشيء؟"

أجبت بثقة دون أن أبدي على وجهي أي تعبير" لقد أتيت لتفقّد الحديقة. لن آخذ وقتاً طويلاً"

نظر الحارس إلى رفيقه بتردد، لكنه أومأ له بموافقة رغم إنه بدا متردداً هو الآخر. فابتعد من أمامي، وقال وهو يفتح الباب من أجلي" تفضلي يا آنسة، خذي وقتك"

لم أضيّع أي ثانية أخرى. فقد سرت بخطى سريعة إلى الداخل، بينما أشعر أن قلبي يكاد ينفجر من الحماس. أخيراً سأكون قادرةً على رؤية حديقة أحلامي!

ما رأيته بداخل الحديقة، كان أكثر إذهالاً مما توقعته بكثير.

في حياتي كلها لم أرى شيئاً بهذا الجمال والروعة. فعلى مدّ البصر، كان هناك الكثير من الأعشاب المختلفة التي لم أكن قادرةً على رؤيتها إلا في الكتب فحسب.
في المنتصف، كان يوجد جدول مياه صغير زرع عليه العديد من الأعشاب المائية النادرة. وقد كان هناك العديد من الممرات الحجرية المتفرعة التي تقود إلى كل جزء من الحديقة. أستطيع رؤية اللافتات المختلفة في كل قسم. حيث النباتات الطبية، نباتات الزينة، النباتات العطرية، وغيرها الكثير و الكثير



بحكم أن إيريك بانتظاري في الخارج، فلا أعتقد أنني سأكون قادرةً على تفقّد جميع الأقسام اليوم. لكنني مع هذا أخذت أسير بلا هدف معين، متتبعةً تلك الممرات الحجرية الكثيرة حيث أنواع النباتات المختلفة. الغريب في الأمر أن الحديقة خالية تماماً من أي أحد. لقد تصورت أنني سأجد العديد من العمال المشرفين على العناية بالحديقة، لكن يبدو أنهم لم يكونوا متواجدين لسبب ما.


أخذت أتجول هنا وهناك وأنا أنظر إلى النباتات من حولي بإعجاب شديد. كيف لهم أن يكونو قادرين على تنمية نباتات يفترض أنها تعيش في بيئات مختلفة عن بعضها، معاً في مكان واحد؟ أستطيع رؤية مدى العناية الفائقة التي كان يوليها المسؤولون هنا على هذه الحديقة. كل شيء كان متقناً ونظيفاً جداً، وقد تم الحفاظ عليه باهتمام شديد.

لم أشعر بمرور الوقت أبداً، وقد بدا أنه لا نهاية لهذا المكان. كنت أسير في ممر كان بين أشجار ونباتات كثيفة جداً، كان في نهاية البيت الزجاجي.

لكنني توقفت مكاني ما إن رأيت تلك الفتاة التي كانت جالسةً على ركبتيها أمام إحدى النباتات الزهرية، بينما تتحسسها بأصابعها.

لن أكذب إن قلت أنني لم أرى في حياتي فتاةً بهذا الجمال، وهذه النعومة والرقة. تلك العينان الزرقاوان الصافيتان اللتان كانتا تحدقان بالفراغ، كانتا تملكان سحراً غريباً جداً. ذلك الصفاء، وتلك النقاوة كانت تأسر العيون حقاً.
شعرها البنفسجي الحريري الذي يكاد يتحول إلى اللون الأبيض، كان يغطي كامل ظهرها وصولاً إلى الأرض حتى، بينما عبثت أصابعها الرقيقة بأوراق تلك النبتة بلطف.
بشرتها الحليبية الناصعة، جعلتها تبدو كما لو أن الشمس لم تقترب منها ولو للحظة. إنها باختصار، جميلة بحق.


لكن مهلاً، شعر بنفسجي؟ أليس لون شعرها كلون شعر الامبراطورة؟!

أوه تباً! إن لم تخني ذاكرتي، فتلك هي الابنة الثانية للإمبراطورة، والأميرة الرابعة ماريانا. عليّ العودة بسرعة. لا أريد أن أفسد هذا اليوم الجميل بمواجهة سخيفة مع إحدى بنات الامبراطورة!

لكن لسوء حظي، وقبل أن أكون قادرةً على الابتعاد عنها، سمعت صوتها الملائكي لما سألتني قائلةً دون أن تنظر نحوي "من هناك؟"

وقفت ببطء، ثم استدارت باتجاهي، لكنها لم تنظر إلي. كانت تنظر إلى الأمام، بينما عيناها الزرقاوان كلون السماء الصافية، كانتا تنظران للاشيء.



تكلّمت مرةً أخرى قائلةً بهدوء " أعلم أن هناك أحد ما هنا. كيف استطعت الدخول؟ لا يسمح إلا بأفراد العائلة المالكة، أو عمال الحديقة بالتواجد في هذا المكان. عمال الحديقة يغادرون عندما أبقى هنا، ولا يبدو لي أنك من العائلة المالكة."

ثم سكتت قليلاً وأردفت بقلق" سوف تتعرض للمشاكل إذا ما بقيت هنا"

لم يتطلب الأمر مني وقتاً طويلاً لأدرك الأمر. هذه الفتاة لا يمكنها الرؤية!
شعرت بانقباضة في صدري ما إن علمت ذلك. من المؤسف حقاً أن إنساناً بهذا الجمال الآخاذ يمكن أن يعاني من شيء كهذا. لكن حسناً، لا يوجد إنسان كامل أبداً.

ذلك القلق الذي شعرته في نبرة صوتها، جعلني أشعر بالاستغراب حقاً. إنها شقيقة كريستينا، ولا أظن أن تلك الأفعى سوف تشعر بالقلق على شخص تعتقد أنه دخيل في هذا المكان المهم. بالأحرى، أظن أنها ستصرخ في وجهي، وتأمر الحراس بالقبض علي ومعاقبتي بأسوء الطرق الممكنة.

لم أعرف حقاً ما الذي أقوله لها، فلا أحد قد ذكر لي كيف هي علاقتها بإيميليا. وفي الواقع، لا أذكر أنني سمعت عنها أي شيء، ولم أرها أبداً في أي من أمسيات العشاء العائلي.

ولما ساد بيننا صمت مربك أشعرني بعدم الراحة، قطعت ذلك الصمت لما قلت بحماس مصطنع، وأنا انظر للنبتة التي كانت تتحسّسها قبل قليل " واو، أهذه هي زهرة ريناسيا؟ لا أصدق أنه من الممكن أن يتم تنميتها في بيئة رطبة كبيئة الامبراطورية!"

لما قلت هذا، تغيّرت تعابير وجهها على الفور، لتقول دون أن تنظر نحوي بينما شقّت وجهها ابتسامة سعيدة " هل تعرفين هذه النبتة؟! لقد تمت زراعتها مؤخراً، ولم يخبرني أحد عنها بعد. لقد اعتاد سيباستيان المسؤول عن الحديقة على إخباري عن كل نبتة جديدة. لكنه سافر قبل عدة أيام ولم يعد بعد."

ثم بدت مترددة قليلا لما سألتني بخجل" هل يمكنكِ إخباري عنها؟"

ابتسمت لنبرتها الخجولة تلك، وتوترها الواضح بينما تقوم بسؤالي. في الواقع، بدت لطيفة نوعاً ما. هذه الفتاة ليست كشقيقتها أبداً، ويمكنني أن أكون واثقةً من هذا بمجرد النظر إليها.

اقتربت منها ووقفت إلى جانبها بينما انظر إلى تلك النبتة، ثم أجبت على سؤالها بهدوء " هذه النبتة تعرفة بزهرة ريناسيا. إنها تنمو عادةً في مملكة راغنالديا ذات البيئة الحارة والجافة، وهي تحتاج إلى القليل من الماء من أجل نموها. لقد اعتاد الرغنالديون على استعمالها في صناعة العطور، كما أن أوراقها يمكن استعمالها كشاي مهدئ للأعصاب."

كرّرت الفتاة ورائي بتفكير" هممم ريناسيا إذن.."

ثم ابتسمت وقالت بحماس" يبدو أنكِ تعرفين الكثير عن الأعشاب!"

لا يفترض بإيميليا أن تكون على معرفة واسعة بالأعشاب، لذلك أجبتها بينما أعبث بأصابعي في توتر "امممم ليس تماماً. لقد كان قريبي يحب جمع النباتات الغريبة في منزله، وقد حدثني عنها ذات مرة، لذلك كرّرت ما قاله لي فحسب."

همهمت الأميرة كإجابة. لكنني سألتها بفضول مغيرةً الموضوع " لكن..أجد أنه من الغريب جداً كونكِ عرفتِ أن هذه النبتة قد زرعت حديثاً. أعني...كيف يمكنكِ حفظ النباتات الموجودة هنا؟"

ابتسمت الفتاة لسؤالي وأجابت بهدوء" أعلم أن هذا يبدو غريباً. أعني، كون فتاة عمياء مثلي يمكنها التمييز بين هذه النباتات هكذا"

لما قالت هذا، تكلمت على الفور متداركةً الأمر، وقد كنت صادقةً جداً فيما قلته" أنا لم أقصد الأمر بهذه الطريقة. في الواقع، ما فكرت به مختلف تماماً. أظن أن قدرتكِ على معرفتها رغم أنكِ غير قادرة على رؤيتها، يجعلكِ مذهلةً حقاً! إنني متفاجئة ومنبهرة جداً من قدرتكِ العظيمة هذه "

ما إن قلت ذلك، حتى احمرّت وجنتاها خجلاً، وقد أخذت تعبث بأصابعها محاولةً إخفاء إحراجها مما قلته. لكن بطريقة ما، شعرت أنها بدت سعيدةً للغاية.

قالت بصوت امتلأ بالعديد من المشاعر المختلطة، بينما التمعت عيناها الباهتتان بدموع لم تشأ إخراجها" شكراً لك. إنها المرة الأولى التي يمتدحني فيها شخص ما غير أخي."

ابتسمت لكلامها وقلت بلطف" إنه ليس شيئاً تشكرينني عليه"

ثم أمسكت يدها وقلت بنبرة مرحة" والآن هيا أخبريني، ما السر وراء قدرتكِ المذهلة تلك؟"

ضحكت بتوتر وقالت بخجل" امممم إنه ليس بالشيء المميز حقاً."

فضغطت على يدها برفق قبل أن أقول بثقة" لكنني أريد أن أعرف، إنني فضولية حقاً حول هذا!"

أخذت نفساً عميقاً قبل أن تقول بنفس تلك النبرة الخجولة" لقد...لقد كنت قادرةً على حفظ جميع النباتات الموجودة هنا، اعتماداً على رائحتها وملمسها."

ما إن قالت هذا حتى هتفت بإعجاب" حقاً؟ ذلك رائع جداً! أن تكوني قادرةً على تمييز أنواع مختلفة من النباتات فقط من الرائحة والملمس. أنتِ عبقرية حقاً أتعلمين؟"

احمرّت وجنتاها أكثر لما قلت هذا وتمتمت بارتباك" أ..أنتِ تبالغين!"

ضحكت على تعابيرها تلك. إنها تبدو مضحكةً وطفوليةً جداً عندما تشعر بالاحراج، ويبدو لي أنها لم تعتد على سماع عبارات الإطراء من قبل أبداً.
لقد قالت أن الوحيد الذي امتدحها هو أخوها. هل كانت تقصد شقيقها الأمير الثاني ريموند؟
لقد رأيته أكثر من مرة خلال العشاء العائلي، لكنه كان يبدو بارداً وغامضاً جداً. لا أتصور أبداً أنه من النوع الذي قد يكون طيباً مع أحدهم. لكن من يدري، ربما يغدو شخصاً مختلفاً عندما يكون برفقة أخته الصغيرة.

نظرت نحوها بابتسامة هادئة قبل أن أقول" لكن، يبدو لي أنكِ تحبين النباتات كثيراً"

بدت تعابيرها غامضةً لما عقّبت على كلامي بهدوء" البقاء بقرب النباتات يشعرني بالراحة كثيراً. أعني حسناً...أنا لن أكون مضطرةً للقلق بشأن ما تعتقده بشأني مثل الوقت الذي أكون فيه مع البشر مثلي. إنها هادئة للغاية. لا ترى، لا تسمع، لا تتحرك، ولا تتكلم أبداً. لكنها رغم ذلك تمنحنا فوائد عظيمة جداً.. إنها أكثر فائدة من الكثير من الأشخاص الذين لا يجيدون سوى الحكم على الآخرين، وتصيّد الفرص من أجل إهانتهم، والتقليل من شأنهم دائماً. بالنسبة لشخص مثلي، إنه المكان الوحيد الذي يمكنني أن أكون فيه على سجيتي عندما لا يكون أخي بالجوار."

من خلال ما قالته، أستطيع أن أدرك أنها عانت الكثير بسبب إعاقتها تلك. إنه ليس ذنبها أبداً كونها مختلفة عن الآخرين بأي شكل كان. لكن في بيئة كهذه، يمكنني أن أتخيّل ما مرّت به.
ربما من الغريب أن يجد الانسان الراحة بالقرب من هذه الكائنات الجامدة التي لن تتفاعل معه بأي طريقة. لكن عندما أفكر في كلامها، أظن أنني أشبهها بطريقة أو بأخرى. لقد عشت محاطةً بالأعشاب لخمس سنوات الآن. وباستثناء لُوِي، لقد كان ارتباطي بالأعشاب، أقوى من ارتباطي بالبشر من حولي بكثير. كنت أجد الراحة في مختبري، وبجانب أعشابي الطبية أكثر من تواجدي بين البشر مثلي.

سحبت نفساً عميقاً قبل أن أعلّق على كلامها قائلة" أنتِ على حق، فالنباتات لن تقوم بخداعكِ ولا بخيانتكِ مثل البشر."

ساد بيننا صمت مريح لبعض الوقت، ويبدو أن كلا منا كانت غارقةً في أفكارها الخاصة. لكنها قطعت ذلك الصمت لما سألتني فجأة بعد أن وضعت يدها الأخرى فوق يدي التي كنت أشد يدها بها "أنا لم أقدم لكِ نفسي بعد. اسمي ماريانا رودولف دي هاديس. الابنة الرابعة للامبراطور."

ثم بدت مترددة جداً لما قالت بتعابير خائفة من أن أرفض كلامها "إنني سعيدة جداً بالتحدث معكِ. صحيح أنني لا أعرفكِ بعد، لكنني ولأول مرة أشعر أنني قادرة على أن أكوّن صداقة مع شخص ما. هل لا بأس معكِ في ذلك؟"

ابتسمت لكلامها وقلت بمرح حتى أخفف من توترها" ما الذي تقولينه؟ لا أظن أنكِ بحاجة لسؤالي، فنحن صديقتين بالفعل!"

وسكت قليلاً قبل أن أردف بهدوء" وأنا إيميليا. إيميليا هاميلوت، خطيبة أخوكِ الأكبر آرون."

ما إن قلت هذا، حتى اختفت تلك الابتسامة التي شقّت وجهها بعد سماعها لموافقتي قبل قليل، لتبدو تعابيرها غامضة فجأة.

وبعد أن صمتت لدقيقة ربما، قالت بهدوء فجأة بعدما ضغطت على يدي بين يديها بقوة أكبر" أنتِ لستِ إيميليا صحيح؟ لقد حدثني أخي عن تغيّرك المفاجئ، وأيضاً عما فعلته لكريستينا وريناليا. كنت قد شككت في الأمر، لكنني بعدما التقيتك الآن، أستطيع أن أجزم أنكِ لستِ إيميليا حتماً"

لما قالت هذا، شعرت أن الألوان قد اختفت من وجهي تماماً. سحبت يدي من بين يديها وقلت على الفور محاولةً إخفاء توتري "ما الذي تقولينه يا سمو الأميرة؟ لابد أنكِ تمزحين صحيح؟"

لم تعلّق على ما قلته، بل تابعت كلامها دون أن ترتسم أي تعابير واضحة على وجهها" بالنظر لكون الجميع يصدقون أنكِ إيميليا فعلا، فأظن أنكِ تشبهينها كثيراً. لا، بل أعتقد أنكِ نسخة طبق الأصل عنها. لكن أتعلمين؟ من السهل جداً خداع البصر، لكن خداع الحواس الأخرى صعب جداً.
أغلب الأشخاص الذين لا يستطيعون الرؤية، تصبح حواسهم الأخرى مضاعفةً أكثر من الأشخاص العاديين. لقد التقيت بإيميليا لأكثر من مرة، لكنكِ مختلفة تماماً عنها. نبرة صوتك، رائحتك، الهالة المحيطة بك. كل ذلك مختلف تماماً. لا أنكر أنه من الممكن جداً أن تتغير شخصية الإنسان، لكن هناك أشياء تميّز كل شخص، ولا يمكن أن تتغير أبداً.
إيميليا كانت هادئة جداً، منعزلة، وخائفة. لقد استطعت الشعور بمدى الخوف الذي تحمله في قلبها منذ اللحظة التي التقيتها فيها. وخوفها لم يكن فقط بسبب وضعها داخل القصر الإمبراطوري، بل من أشياء كثيرة أخرى.
لكنكِ لست كذلك. أنتِ قوية، وواثقة جداً من نفسك. منطلقة لأبعد الحدود، ذات شخصية نارية ترفض الإذعان لأحد، وتستمرين في القتال دائماً حتى مع علمكِ أنكِ قد لا تكونين قادرةً على الفوز في النهاية. لكنكِ رغم هذا تحملين داخلكِ قلباً محطماً لا يثق بأحد. تستطيعين إنكار كلامي، لكن ذلك بلا جدوى."

لقد فاجأني كثيراً كونها استطاعت أن تعرف كل هذا عني رغم أننا نلتقي لأول مرة الآن. لكنني مع هذا عقدت يديَّ أمام صدري، وقلت وأنا أنظر نحوها بتحدي" لنفترض أن ما قلته صحيح، هل تظنين أن الآخرين سيصدقون كلامكِ لمجرد أنكِ تشعرين أنني مختلفة عن إيميليا التي تعرفينها؟ تحتاجين إلى دليل قوي جداً يا عزيزتي إذا ما أردتِ اتهامي بشيء كبير كهذا!"

أخذت نفساً عميقاً قبل أن تجيبني بثقة "ربما يعتقد أخي حالياً أنكِ إيميليا حقاً، لكنه يثق جداً في كلامي. سوف يصدقني على الفور إذا ما قلت له هذا"

ضحكت على كلامها وقلت بثقة، وأنا أجاري نبرتها تلك" مجدداً، لا يمكن لأحد أن يتهمني بأنني شخص آخر دون دليل هكذا. إن تهديدكِ هذا لن ينفع يا سمو الأميرة"

عقدت الأميرة حاجبيها بضيق قبل أن تقول بنبرة قلقة" أظن أنكِ فهمتِ كلامي بشكل خاطئ. إنني لا أهددكِ أبداً. يكفيني فقط أن أعرف أنكِ لن تشكلي أي تهديد على أخي، وأنكِ لن تفعلي أي شيء قد يضره، عندها لن أفعل لك أي شيء. في الحقيقة، عندما حدثني عنكِ رغبت حقاً في لقائك. أردت أن أتأكد بنفسي مما تكونين. لكنني عندما التقيتك، بت أشعر بالراحة حقاً. أنا واثقة من أنكِ لا تضمرين الشر لأخي، وهذا كاف."

ثم خفضت رأسها وأردفت بتردد خجول" كما أنكِ...لقد امتدحتني، ولم تسخري مني بسبب أنني عمياء. وفوق كل هذا، قلتِ أننا صرنا صديقتين بالفعل."

ورفعت رأسها لتهتف برجاء" أرجوكِ أن تصدقيني. إنني لا أعرف لماذا أنتِ هنا وما هو هدفك، لكنني لا أنوي إيذائكِ أبداً. بدلاً من هذا، أرغب حقاً في أن أكون حليفة لك، وأساعدك بقدر ما أستطيع!"

سكت قليلاً وأنا أفكر في كلامها. بدت صادقةً جداً في كل ما قالته، ولم أعرف حقاً كيف أجيبها.
هل يمكنني الوثوق بها؟ هل أفكر جدياً في عرضها؟ لكنني رغم ذلك سألتها عن الشيء الذي استطعت إدراكه منذ بداية حديثها ذاك" الأخ الذي كنتِ تتكلمين عنه طوال الوقت. إنه آرون صحيح؟"

سكتت قليلاً قبل أن تقول بابتسامة ساخرة " وهل ظننتِ أنني كنت أتحدث عن أخي ريموند؟"

ولما لم أرد على تعليقها الساخر، أخذت نفساً عميقاً لتجيب على سؤالي بألم "يمكنني أن أفهم سبب حذركِ مني. إنه بسبب أنني ابنة الامبراطورة، والأخت الشقيقة لكريستينا صحيح؟ لكن ليس عليك القلق بشأن هذا. بالنسبة لوالدتي وشقيقاي، لقد كنت دائماً وصمة العار التي ما كان يجب أن تولد أبداً. لم تستطع الامبراطورة أن تحتمل فكرة ولادة طفلة معاقة من نسلها، لذلك لطالما كانت تحتقرني وتنبذني دائماً. هي لم تنظر نحوي يوماً، وقد كانت تعاملني بأسوء الطرق الممكنة. حتى أنها منعتني من الظهور أمام العلن حتى لا أحرجها أمام الآخرين، كوني الابنة العمياء التي لا فائدة منها على الإطلاق. في ذلك الوقت الذي كنت فيه محتقرةً من قبل الجميع، كان الوحيد الذي عاملني كإنسانة واهتم بي كشقيقته حقاً هو أخي الأكبر آرون. لقد عانى كثيراً مثلي في طفولته. لا، بل كان وضعه أسوء مني بكثير. لذلك كان أكثر من يفهمني، وقد اعتنى بي منذ أن كنت طفلةً صغيرة. بالنسبة لي، أخي هو عائلتي الوحيدة، وأنا مستعدة لفعل أي شيء من أجله. قد يبدو لكِ قاسياً جداً وغير مبالٍ بأحد، لكنه ما إن يفتح قلبه لك، حتى تدركي أنه في الحقيقة يحمل قلباً طيباً جداً."

آرون طيب القلب؟ من الصعب حقاً أن أتخيل ذلك. لكن بالتفكير في الأمر، أظن أنني لا أعلم عنه شيئاً بعد. وفي الحقيقة، لم أكن مهتمة بذلك أبداً. لكن ما أزعجني حقاً هو ما أخبرتني به الآن. لقد كانت المرأة التي أنجبتني مثلها تماماً، وربما أسوء بكثير. هل الأمهات جميعاً هكذا؟ يبدو لي أنني لست الوحيدة في هذا العالم التي ولدتني امرأة حقيرة مثلها!

سكت قليلاً أحلّل كلامها، قبل أن أقول بهدوء" بما أنكِ مقربة جداً من آرون كما تقولين، فذلك يعني أنه من المفترض أن أكون عدوّتك الأولى في الواقع. اعذريني، لكن الأمر يبدو لي كما لو أنكِ تقولين لي.."

ثم أضفت بنبرة ساخرة"(لا تثقي بي من فضلك، فأنا سأصبح صديقتكِ من أجل التجسس عليك، وإلحاق الضرر بك من أجل أخي.)"

تنهدت الأميرة بضيق، وقالت بعد أن خفضت رأسها بحزن " ذلك ليس صحيحاً أبداً. قد يبدو ذلك غريباً، لكنني أحببتكِ حقاً، وأرغب في أن أكون مقربةً منكِ بصدق دون أي دوافع خفية. العلاقة التي تجمعكِ بأخي لا تهمني على الإطلاق طالما أنكِ لن تقومي بإيذائه، وأنا واثقة تمام الثقة من أنكِ لن تفعلي."

" لكن أخاك ينوي إيذائي عاجلاً أم آجلاً. هل تظنين أنني سأقف مكتوفة اليدين حينها؟ أنا آسفةً حقاً، لكن أظن أن مصيرنا هو أن نكون عدوتين في النهاية."

اقتربت مني، ثم فتحت يديها أمامي لتقربهما من جسدي وقد استقرتا على كلا كتفاي. أخذت تتحسس ذراعيّ نزولاً باتجاه يداي. ولما أمسكت بهما أخيراً، رفعت كفي باتجاهها وقالت بثبات وهي تضغط عليهما برفق "آرون لن يقوم بإيذائك. أريدكِ أن تصدقي ذلك على الأقل."

لست واثقةً حقاً من أنه لن يفعل، لكنني رغم ذلك شعرت أنه عليّ أن أفكر جدياً في كلام هذه الفتاة الواقفة أمامي الآن.

ربما أنا بحاجة إلى حليفة هنا حقاً. حتى لو لم أكن قادرةً على الوثوق بها تماماً، فعلى الأقل، سأكون قادرةً على أن أرخي دفاعاتي ولو قليلاً برفقتها. فترقّب الخيانة من كل من حولي طوال الوقت، صار يشعرني بالإرهاق حقاً. قد يكون ذلك تهوراً وحماقةً كبيرةً مني. لكن ولسبب ما، أشعر أنني قادرة على تصدقيها. وسواء ندمت على ذلك أم لا، فأنا أرغب حقاً في أخوض هذه العلاقة التي أحظى بها لأول مرة في حياتي.

ابتسمت لها وقلت بهدوء" لا أستطيع القول أنني أصدق أن آرون لن يؤذيني، لكنني أرغب في أن أصدق أنكِ لن تفعلي هذا على الاقل."

ثم سكت قليلاً قبل أن أردف بتعابير باردة " ما قلته صحيح، فأنا لست ايميليا. إيميليا هي أختي التوأم، وقد افترقنا في سن صغيرة جداً. بقيت أنا مع والدتي، بينما بقيت هي مع والدي الدوق هاميلوت. لكنه ظهر في حياتي فجأة، وأجبرني على أن آخذ مكانها لأسباب خاصة."

وأصفت بسخرية" ولهذا أنا هنا الآن. أتظاهر بكوني شخص آخر، بينما أتلقى الإهانات والكره من أشخاص لا أعرفهم، ولا تربطني بهم أي صلة على الإطلاق."

ضغطَت على يديّ محاولةً تشجيعي، بينما ارتسمت على وجها تعابير حزينة. لكنها فاجأتني حينما اقتربت مني وقامت باحتضاني فجأة. ربّتت على ظهري وقالت بمواساة" لابد أن ذلك كان صعباً جداً عليك. أن تضطري لمواجهة بيئة قذرة كهذه وحدكِ."

أجبت على كلامها بينما بدت تعابير وجهي خاليةً تماماً من المشاعر" لقد واجهت ما هو أسوء بكثير، لذلك فهذا يعد لا شيء بالنسبة لي."

لم تعلّق على كلامي، ويبدو أنها فهمت أنه عليها ألا تسألني عن هذا الآن، فلقد كنت غير مستعدة لإخبار أي شخص عما مررت به بعد. حتى لُوي...إنه يعرف أشياء سطحية جداً عن ماضيَّ.

لست شخصاً منفتحاً للآخرين أبداً، لأنني أعلم جيداً أنه في اللحظة التي أخبر فيها شخصاً ما عن نفسي، فسوف يكون الأمر كما لو أنني أمنحه سكيناً ليطعن به ظهري متى شاء، وهو ما لن أسمح لحدوثه أبداً.

ابتعدت عني قليلاً قبل أن تسألني بتردد" هل يمكنكِ إخباري ما هو اسمك؟"

هل علي حقاً أن أجعل الأمر يصل إلى هذه الدرجة؟ هل ما أفعله هو الصواب؟ هل سأندم على ذلك لاحقاً؟ لا أدري، لكنني وجدت نفسي أخبرها ومن دون أن أشعر، بينما بدا الضياع في نبرة صوتي.

"آناستازيا"

ابتسمت لما سمعت ذلك وردّدت ورائي بصوتها الملائكي الهادئ" آناستازيا؟ ياله من اسم جميل جداً."

لا أذكر كم مضى من الوقت على آخر مرة سمعت فيها اسمي على لسان أحدهم. وبطريقة ما، كان ذلك قد أسعدني حقاً. لكنني رغم ذلك قلت لها بتحذير " أنتِ تعرفين أنه لا يمكنكِ مناداتي باسمي أبداً صحيح؟"

ابتسمت لكلامي وقالت بهدوء" أجل أعلم. لكنني سعيدة جداً بالتعرف عليك."

ثم مدّت يدها نحوي وقالت بمرح" إذن دعينا نقدم أنفسنا من جديد. أنا اسمي ماريانا، ويمكنكِ مناداتي ماري. سأغضب حقاً إن ناديتني بسمو الأميرة كما كنتِ تفعلين!"

ضحكت لكلامها، لكنني قلت بينما أصافح يدها أنا الأخرى " وأنا اسمي آناستازيا. وإذا ما بقينا على تواصل حتى بعد توقفي عن التظاهر بأنني إيميليا، يمكنكِ حينها مناداتي بآنا."

ثم سكت قليلاً وأردفت باستدراك" أوه وبالمناسبة، لقد كذبت عندما قلت أنني لا أعرف شيئاً عن النباتات. ففي الواقع، أنا طبيبة أعشاب."

بدت متفاجئة جداً ما إن قلت هذا وهتفت بحماس" حقاً؟! ذلك يعني أنكِ تعرفين الكثير عن الأعشاب! عليكِ أن تعلميني عنها حتماً، اتفقنا؟"

ابتسمت باتساع وقلت بنبرة مرحة" بالطبع! يسرني جداً أن تكوني تلميذتي، ماري."

بعد ذلك، بقيت أنا وماري معاً لبعض الوقت. لكنني حينها تذكرت إيريك الذي كان بانتظاري في الخارج. فركضت نحو المخرج بسرعة بعد أن ودعتها، لأجده جالساً على الدرج الحجري المؤدي إلى باب البيت الزجاجي، وقد بدا ضجراً جداً.

ما إن شعر بوجودي، حتى التفت نحوي على الفور وهتف قائلاً براحة" أخيراً!"

ثم قام من مكانه ووقف أمامي، ليقول بشيء من العتاب" ما الذي استغرقكِ كل هذا الوقت؟! قلتِ أنكِ ستلقين نظرةً فحسب!"

قلت معتذرة بينما انظر نحوه وأنا أشعر بالذنب حقاً" أنا آسفة جداً إيريك. لقد كانت الحديقة في غاية الروعة، ووجدت نفسي أتأمل في جمال كل زاوية منها دون أن أشعر بمرور الوقت"

فرك إيريك شعره بانزعاج وقال" لا أدري حقاً ما الرائع فيها، فهي تحتوي على بعض العشب فحسب!"

ثم نظر نحوي قليلاً، قبل أن تظهر على وجهه شبح ابتسامة ليقول بهدوء "لكن حسناً، تبدين سعيدة جداً لسبب ما، لذلك لا أظن أن علي أن أشتكي أكثر"

ثم مدّ يده نحوي ليساعدني على السير وقال بنفس تلك الابتسامة" إذن، لنذهب الآن"

وضعت يدي على كفه المبسوط أمامي، ليساعدني على نزول تلك الدرجات، بينما كانت تعلو وجهي ابتسامة سعيدة حقاً.

ماري كانت لطيفةً ومسليةً جداً، وقد قضيت معها وقتاً رائعاً بالفعل. لست واثقةً من ذلك بعد، ولكن في زاوية عميقة جداً من قلبي، أردت أن أصدق أنه سيكون بوسعي اعتبارها صديقتي المقربة. أردتها أن تكون الشخص الذي سيكون بإمكاني الوثوق به. ومن يدري، ربما يتحقق ذلك فعلاً يوماً ما.

To be continued..

******


_رأيكم بالفصل؟


_توقعاتكم للأحداث القادمة؟


_لماذا تضايق إيريك مما قالته آنا؟


_هل تظنون أن آنا قد اخطأت بكشف هويتها لماري؟ وكيف ستكون علاقتهما في المستقبل؟


_هل سيكون لعلاقة آنا بماري أي تأثير على وضعها داخل القصر الإمبراطوري؟


أعلم ان الفصل كان هادئا جدا ولم يحتوي على احداث كثيرة، لكن لقاء آنا بماري سيكون له أهمية كبيرة جدا في سير الأحداث مستقبلا، لذلك أردت التركيز على هذا الفصل بشكل خاص، وستفهمون ما أقصده في الفصول القادمة.


انتظروني في الفصل القادم الذي سيحتوي على أول مؤامرة صغيرة ستحيكها آنستازيا، والذي سيكون اساسا لأحداث كثيرة أخرى..😉


أرجو أن الفصل قد نال إعجابكم، ولا تنسو التصويت والتعليق عليه فتفاعلكم هو ما سيشجعني على الكتابة❤


أراكم على خير أحبتي، دمتم في امان الله وحفظه😘


2020/12/02 · 425 مشاهدة · 5114 كلمة
NajwaSD
نادي الروايات - 2024