"لقد مرّت نصف سنة منذ أن وجدت نفسي هنا. أذكر اللحظة الأولى التي فتحت فيها عيني، كنت مرميًا في زاوية شارع ضيق وسط هذه المدينة الغريبة. لم يكن هناك أي شيء مميز حولها، لا أضواء نيون، لا أبنية شاهقة، ولا حتى حركة مرور مزدحمة. كل شيء كان عاديًا إلى درجة تثير الريبة.

الناس هنا، مثل المكان، يتحركون بطريقة ميكانيكية. وجوههم بلا تعبيرات، وكأنهم يتبعون نصاً مكتوبًا لحياتهم اليومية. يمشون، يتكلمون، ولكن بلا هدف حقيقي. وأنا، أصبحت واحدًا منهم. نصف سنة من التكرار، نفس الروتين، ولا شيء يتغير. المدرسة القديمة التي أذهب إليها ليست متهالكة، لكنها مملة، كأن الجدران تخنق أي حياة قد تمر فيها. لماذا ندرس؟ ما الفائدة من التعلم هنا إذا كنا عالقين؟

في الأسابيع الأولى، حاولنا – أنا والبقية – أن نجد طرقاً للخروج. كل زاوية، كل باب، كل نافذة، كانت هدفًا للبحث. كنا نتحرك في مجموعات، نبحث عن أي دليل، أي إشارة على أن هذه المدينة ليست النهاية. لكن لم نجد شيئاً. الطرق تنتهي عند حدود غير مرئية، والمدينة تلفظنا كلما حاولنا الابتعاد.

ومع مرور الوقت، استسلمنا. تحولت محاولات الهروب إلى ذكرى بعيدة. الآن، نحن نعيش هنا وفق نظام غريب، نظام ابتكرناه للحفاظ على بعض النظام وسط الفوضى. طعام محدود نتقاسمه، جداول صارمة، ولا شيء يتغير. لم أعد أتحدث مع أحد، لا حاجة لذلك. أنا أراقب الآخرين من بعيد، أسمع أصواتهم تتردد في رأسي دون أن أشعر بأي ارتباط.

لا شيء هنا يبدو حقيقيًا. ليس حتى المدرسة التي نذهب إليها كل يوم، حيث ندرس كأننا في عالم طبيعي. لكنني أتساءل دائمًا: لماذا ندرس؟ ما الهدف من كل هذا؟ ليس هناك مستقبل هنا، ليس هناك مكان نذهب إليه. كل شيء يبدو وكأنه بلا جدوى.

أصبحت حياتي ظلًا، أتحرك بصمت بين الزوايا، أحاول أن أكون غير مرئي. لا أحد يلاحظني، ولا أشعر برغبة في لفت انتباه أحد. لقد بدأت أعتقد أنني مجرد جزء من هذه المدينة، مثل الطوب المتآكل في جدرانها أو الهواء الثقيل الذي يملأ شوارعها. ولكن حتى في هذا الصمت العميق، هناك شيء ما يلوح في الأفق. شعور غريب يراودني. هذه المدينة ليست كما تبدو... وهناك شيء مختبئ تحت سطحها الممل، ينتظر اللحظة المناسبة ليظهر.

بعد لقاء ذلك الرجل الغامض، بدأت الأمور تصبح أكثر وضوحًا، أو على الأقل ظننت ذلك. أخذت خطاي الثقيلة نحو منزل رئيس القرية، شخص لا أعرفه جيدًا، لكنه كان المرجع الوحيد الذي قد يمتلك بعض الأجوبة. دخلت منزله المتواضع، ليجدني جالسًا قبالته مباشرة.

"هل تعرف لماذا نحن هنا؟" سألت بصوت مثقل بالشكوك

نظر الرئيس إليّ بنظرة متفحصة، وكأنه يدرك كل شيء ولكنه عاجز عن قول الحقيقة. ثم قال ببطء: "نحن مثلك. لم نعرف كيف جئنا إلى هنا. بحثنا طويلًا في كل مكان، كل زاوية وكل طريق، ولكن بدون جدوى. لا شيء هنا يشير إلى طريقة خروج أو مخرج."

صمت للحظة ثم أضاف: "لذلك قررنا أن نعيش. أن نتأقلم مع هذا المكان، وأن نستمر في الانتظار حتى نجد الحل. قد يكون الحل في الصبر أو في مواجهة شيء لا نعرفه بعد."

خرجت من منزله بحالة من الضياع. كانت تلك الكلمات تعني الكثير، لكنها لم تعطيني الإجابة التي كنت أبحث عنها.

انتقلت إلى منزل كبير، حيث أعيش مع آخرين في نفس سني تقريبًا، لا يزيد عمر أي منهم عن 18 عامًا. كنا ننام تحت سقف واحد، نعمل معًا، ونأكل معًا، لكن دون أن نشارك بعضنا قصصنا. كنت أنطوائيًا بطبعي، ولم أكن أبحث عن صداقات هنا.

بينما كان الرئيس يشرح لنا المهام اليومية التي يجب علينا إنجازها، جاءنا فجأة رسول متلهف، وجهه كان شاحبًا، وكأنما رأى شيئًا مرعبًا. صاح بصوت مرتجف: "وجدنا جثة في الغابة! شخص ما... مقتول!"

تجمّع الجميع بسرعة، وركضنا نحو الغابة المحيطة بالقرية. عندما وصلنا إلى المكان، وقف الجميع في صدمة. كانت الجثة مشوهة بشكل مروع، لم تكن مجرد جريمة قتل، بل كان شيئًا فظيعًا، خارج عن المألوف. الجثة كانت ممزقة من كل الجهات، وكأن وحشًا قد هاجمها. كان اللحم ممزقًا، والعظام مكسورة بطريقة غير طبيعية، والدماء تلطخ الأرضية بشكل عشوائي.

بينما كنت أتأمل تلك الجثة، شعرت بشيء غير طبيعي. لم يكن الأمر مجرد موت عادي. هناك شيء في هذه التمزقات جعلني أعتقد أن هناك كيانًا أكبر خلف هذا الأمر.

وعند عودتنا إلى القرية، اقترب مني أحد الأولاد، وهو شخص لم أتحدث معه من قبل. نظر إليّ بعينين مثقلتين بالهم، وسألني بصوت خافت: "هل لاحظت ما لاحظته؟"

لم أجب على سؤاله، كنت غارقًا في أفكاري، أحاول استيعاب

ما رأيته. لكنني

بينما كنت أفكر في تلك التمزقات الغريبة على الجثة، اقترب منا أربعة أشخاص آخرين، كانوا من أعمار متقاربة، مزيجًا من الأولاد والبنات. كل واحد منهم بدا وكأنه يعرف شيئًا، أو ربما كانوا مثلي، يبحثون عن إجابات.

أحدهم قال بنبرة مترددة: "علينا أن نعرف ما الذي يحدث هنا... هناك شيء لا نراه. لا يمكن أن تكون مجرد صدفة

كان لكل واحد منهم سبب مختلف للحديث. البعض منهم كان مدفوعًا بالخوف، والبعض الآخر بالفضول. لكن في النهاية، كنا جميعًا متحدين بفكرة واحدة: علينا أن نكتشف الحقيقة خلف هذا المكان، خلف هذا الغموض الذي يحيط بنا.

تبادلنا نظرات مختلطة بين الشك والخوف، وقررنا أخيرًا أن نعمل معًا. ربما كنا الأمل الوحيد للخروج من هذا الكابوس.

نظرت إليهم وأومأت برأسي بالموافقة. لم يكن لدي أي خيار آخر. وهكذا، بدأت قصتي... لا، قصتنا. قصتنا نحن، "ولاد الحومة".

2024/10/22 · 1 مشاهدة · 819 كلمة
SKELZ_evil
نادي الروايات - 2024