"ليون! استيقظ، حان وقت الإفطار!"
تردد صوت أمي في أذني كأنغام لحن هادئ ينساب برفق، يوقظني من سبات أحلامي.
كانت أشعة الشمس الذهبية تتسلل عبر النافذة الخشبية البالية، تداعب وجهي بحنان، بينما استعدت وعيي تدريجيًا على وقع تغريد العصافير الذي ملأ الأجواء.
لطالما اعتدت صوت أمي، ذلك الصوت الذي يملأ صباحي طمأنينة وراحة.
أصبح نغمًا روتينيًا يبعث في نفسي سكينة لا تضاهى. ومع ذلك، كان يخالجني شعور بالخوف العميق من فقدانها يومًا ما، فهي كانت الملاذ الوحيد لي بعد فقدان أبي.
كانت أمي، تلك المرأة الرقيقة التي حملت عبء حياتنا بعد أن اختطفته الحرب الملعونة من بيننا، تقف كالسد الحامي لي ولأختي التوأم "ميا".
لم أنسَ أبدًا ذلك اليوم، حين دخلنا الغرفة لنجدها تُسدل المعطف البني على وجه أبي الراحل، ودموعها تنساب بصمت، تلمع كالبلور النقي تحت وهج الضوء الخافت.
رغم كل شيء، لم نشعر يومًا بالنقص،فكنت انا واختي نعاني من متلازمه الالبينو التي تسببت بانعام لون البشره والشعر. أمي كانت صامدة، صابرة، لا تدعنا نحس بوطأة المعاناة التي حملتها على عاتقها.
..
.
-"هيا، بني!"
قطع صوتها حبل أفكاري، فأدركت أنني استغرقت في التفكير أكثر مما ينبغي.
تمتمت لنفسي بشيء من العتاب، ثم نهضت من فراشي، أترنح يمنةً ويسرةً حتى استعدت توازني.
غرفتي كانت بسيطة جدًا؛ سرير متواضع، نافذة خشبية قديمة، دولاب صغير يضم بضعة ملابس بالية، ومكتب صغير يتراكم عليه عدد من الكتب عن تاريخ الحرب الشهيرة "ذات الرداء القرمزي".
لطالما كنت مهووسًا بتاريخ تلك الحرب التي رسمت ملامح قريتنا المنهكة.
خرجت من الغرفة بخطوات ثقيلة، متوجهًا إلى المائدة في تلك الصالة الصغيرة التي بالكاد تستحق هذا الاسم.
-"أخي، هل أصبحت رجل أعمال؟ أم أن نومك الطويل علامة على ذلك؟"
كان صوت ميا، المفعم بالسخرية، أول ما استقبلني. تجاهلتها تمامًا، فأنا لست في مزاج يسمح بالجدال.
بعد لحظات، دخلت أمي وهي تحمل وعاء الطعام بيديها، تبتسم ابتسامتها الدافئة التي لطالما بددت كل أحزاننا.
شعرها الأشقر المموج كان ينساب كالحرير، وعيناها الخضراوان تلتمعان كحجر الزبرجد النادر.
وضعت الطعام على المائدة بلطف، فقلت ممتنًا:
-"شكرًا لكِ، أمي."
لكن ميا لم تترك الفرصة تمر دون مزاح آخر:
-"أمي، أعتقد أن أخي قد يخفي عنّا أنه رجل أعمال سري!"
بدأنا تناول الطعام وسط ضحكاتها، لكن عقلي لم يستطع الانفصال عن دوامة الأفكار التي تأخذني بعيدًا.
-"ماذا لو فقدنا أمي مثلما فقدنا أبي؟"
-"هل سأتمكن يومًا من حمايتها؟ من حماية ميا؟"
-"إلى متى سأظل عبئًا عليها؟"
تسللت هذه الأسئلة إلى رأسي كأشباح، تعبث بي بلا هوادة.
فجأة، ودون وعي مني، طرحت السؤال الذي كان يختمر في أعماقي:
-"أمي... هل تكرهيننا؟ هل نحن عبء ثقيل عليكِ؟"
ساد الصمت، وغمر المكان جو من التوتر. نظرت إليّ أمي بحزن عميق، ثم تقدمت نحوي، واحتضنتني أنا وميا بقوة.
-"أبنائي، كيف لأم أن تكره أبناءها؟ أنتم حياتي ونور عينيّ. كل ما أفعله، أفعله من أجلكما. لا أريد سوى أن أراكم تكبرون أمام عيني."
لم أتمالك نفسي من البكاء، بينما مسحت أمي على شعري بحنان، مؤكدة لي أنها لن تتخلى عني أبدًا.
لكن الحياة، كما علمتني لاحقًا، لم تكن تنوي الوفاء بتلك الوعود.
...
..
.
-------
في ذلك اليوم، ذهبنا مع أمي إلى المزرعة التي تعمل بها لم نرغب باالذهاب الى جدي، لقد كان جينيرال مخيف سابق بالحرب!
.كانت الرحلة مليئة بالمرح والضحك. لعبنا، ركضنا، واستمتعنا بكل لحظة تحت أشعة الشمس.
لكن العودة إلى القرية كانت مختلفة.
رأينا من بعيد سحب الدخان تتصاعد. شعرت بشيء ثقيل يجثم على صدري. ومع كل خطوة نخطوها نحو القرية، اتضح المشهد أكثر: حريق هائل يلتهم كل شيء.
كانت الصرخات تعلو في كل مكان.
-"النجدة! الرحمة!"
أمي، التي لطالما بدت قوية، أمسكت بيدي وبيد ميا وركضت نحو منزل جدي.
لكن الطريق كان محفوفًا بالظلام. اعترضنا ملثمون يحملون شعار المقاومة، ووسط الفوضى، قُتلت أمي وأختي أمام عيني.
لم أستطع أن أفعل شيئًا. قدماي كانت متيبستين، ودموعي تحجب عني الرؤية. هربت دون تفكير، هربت من كابوس واقعي مزقني إلى أشلاء.
ركضت وركضت..
لكن أين المفر؟
المشهد لم يغادر مخيلتي مثل مقطع صوتي بالعرض البطيء، وصوت أمي وهي تهمس:
-"فلتعش... يا ليون..."
ظل يطاردني كطيف مؤلم.
كان ذلك اليوم نهاية كل شيء... وبداية رحلة أخرى، لا تحمل سوى الألم والضياع.
...
..
.