الفصل السادس: بين الماضي والمجهول
عزلة القلب... وبداية التحوّل
في تلك الليلة التي تسرب فيها الهدوء إلى أنحاء الغرفة، جلس كانوي على سريره في العتمة. لم يكن الظلام خارجيًا فقط، بل داخله أيضًا. هذا السكون… سكون ما قبل العاصفة، لكنه لم يكن عاصفة في الخارج، بل عاصفة داخل قلبه الصغير الذي بدا أكبر من عمره بكثير.
تمدّد على السرير كجثة هامدة، عيناه تحدقان في اللوح الخشبي العلوّي، لكن عقله كان غارقًا في هاوية أعمق من أي ظلام عرفه. لا صوت سوى دقات قلبه التي تتسارع فجأة، ثم تهدأ، ثم تعاود القفز من جديد، كطبول ترفض الركون. رائحة غرفته—مزيج من العرق القديم وخشب الأثاث—تغلّفت به، فشعر كأنه محاصر في صندوق بلا مفتاح.
الذكريات عادت دون استئذان:
وجه أمه الحنون يختفي في رمش عين.
صديقه الأول الذي خذله.
نظرات المعلم الذي ظنه يسمع قلبه لكنه لم يفعل.
همس كانوي:
> “أنا لست مشوشًا… أنتم من لا تفهمون.”
وقف ببطء أمام المرآة. حدق في انعكاسه وظله خلفه يتلوى بلا ضوء يثيره. نظرة فارغة، لكنها تنضح بشيء لا يُوصف—خليط من الحزن والغضب والحقيقة المُنكَرة.
> “من أنا؟”
لم يخرج الصوت من فمه، بل من أعماق صدره.
بلمحة، انتفض ظلُّه وكأنه يرفض الانكشاف. خفقان قلبه دوّى في أذنيه، وسقطت ورقة من دفتره القديم على الأرض. التقطها: كلماتٌ خطتها يد طفله الذكي قبل سنوات، تقول:
> “الحقيقة ليست ما تراه، بل ما تشعر به حين لا تجد تفسيرًا.”
ارتعش. شعر أن الهواء قد أصبح أثقل، وكأن الغرفة بأسرها تراقبه. ثم طرق صرير الباب البعيد أذنيه خافتًا، كأنه صدى انتظار. لم يكن صريرًا حقيقيًا، بل صدى داخلي ينبض بالموعد القريب.
تقدم نحو النافذة وفتحها. الهواء الليلي –ثلجٌ خفيّ– نزل على وجهه، يقرصه كأنها دعوة لا تُقاوَم. ثم همسةٌ في الرأس:
> “اذهب إلى السطح…”
لم يستطع مقاومة النداء. صعد الدرج بخطوات ثقيلة، كل درجة تطلق صدى صغيرًا في الممر الصامت. صوت قلبه يسبق كل خطوة. لكنه حين وصل إلى باب السطح، تراجع:
> “ليس الآن.”
همست نفسه، وعاد إلى غرفته. لكن شيئًا في داخله كان قد تغيّر: قد فُتح بابٌ داخلي—بوابة مخفية بين الماضي والمجهول.
---