154 - إبرة اختراق الأبعاد

154 – إبرة اختراق الأبعاد

حدّقت أنمار إلى باسل الذي أغمض عينيه وبدأ يسقط من السماء بعدما اختفت النيران من أسفله. تحرّكت بعد ذلك الأفعى الكوبرا المجنّحة ثم التقطته. كانت جروحه بالغة كثيرا وكادت تبلغ تلك التي أصيب بها بع مقاتلة الأقدم الكبير فالتشر.

كان بإمكان باسل في الواقع ربح النزال بدون التعرض للإصابة بمثل هذه الجروح، لكنّه أراد إخفاء أوراقه الرابحة للوقت الأهم، إضافة لرغبته في تدرّيب بينته الجسمانية وبحر روحه أكثر على قدرتهما الاستيعابية لطاقة العالم؛ كانت معارك الحياة أم الموت هي أفضل وسيلة لتحقيق هذا الأمر.

جلس الجنرال رعد متدبّرا قابضا يد باسل مرسلا إشارات سحرية لعقله مبقيا عليه واعيا كما أخبره باسل. كان ذلك لسبب واحد وجيه؛ يجب على باسل أن يكون واعيا ليكون قادرا على منع الطاقة السحرية الخارجية من التوغل لبحر روحه وإبقائها بمستوى منخفض.

ففي الوقت الذي علم به باسل من الكبير أكاغي عن الحرب العظيمة، دخل في انعزال للانتقال للقسم الثاني من مستويات الربط بعدما تعالج من التدرّب على النقوش الروحية. لم يكن من السهل عليه المرور بمثل تلك المرحلة؛ فمعنى الانتقال لقسم مستويات الربط الثاني يعني كسر الختم أوّلا ثم التعرض لكمّيّات هائلة غير محدودة من طاقة العالم، ومحاولة السيطرة عليها في نفس الوقت بتعلّمه جذب الطاقة السحرية الخارجية إليه كما يفعل جميع السحرة.

مقارنة بالطاقة السحرية الخارجية التي كان يتعرّض لها جسد باسل قبل كسر الختم، فالطاقة التي واجهها بعد الكسر كانت أضعاف ذلك بمرّات لا تحصى. كان عليه الانتقال للقسم الثاني في وسط هذا المحيط من الطاقة التي تريد دخول جسده إلى بحر روحه. وفي مواجهة مثل هذه الكمّيّة التي لا يمكن لأيّ شخص طبيعيّ جذبها، وجب على باسل المرور بمعاناة جهنّميّة لم يسبق له وأن اختبرها أبدا.

لكن، حتّى لو كان لباسل تحكّما مثاليّا أو قدرة تعلّم استثنائية، لم يكن ليتمكّن من التعامل من كلّ تلك الطاقة غير المعقولة؛ كان ذلك مستحيلا بكلّ بساطة.

كانت طاقة العالم تتخذ منهجا غريبا أثناء دخولها لبحر روحه. تبدأ بكمّيّة قليلة ثم ترتفع مع الوقت وبسرعة كبيرة حتّى تبلغ أوجها وحدودها. والآن بدون الختم، لم يكن هناك حدود ولا أوج، بل استمرّت في الارتفاع فقط كما لو العالم كلّه يريد أن يدخل لبحر روح باسل. كما لو أن هذا الأخير أصبح محوره وأصله، كما لو أنّ هذا العالم موجود لدعمه فقط. بدا العالم كأنّه يريد الاتّحاد مع باسل.

وفي ذلك الوقت، توهّجت جبهة باسل بضوء ساطع للغاية. كان هذا الضوء مثله مثل ذاك الذي أنتجه جسده الرضيع. كان ذلك ضوءا ساميا يستطيع بلوغ الأعالي بالغا أرفع المقامات وحكم العوالم التي لا تحصى. كان ذلك الضوء يحوي طاقة روحية خالصة كانت نقيّة لأبعد الحدود، شملت أحكاما وتعاويذا ذهنية روحية طبّقت قواعدها على الوجود فأمكنها عبور الأبعاد واختراق الفراغات بالغةً المنشآت.

بظهور ذلك الضوء أصبح العالم مظلما، وباختفائه عاد النور. كما لو أنّ العالم كان قمرا وذلك الضوء كان شمسا.

وفي ذلك الوقت، توهّج شيء ما بداخل الضوء. كان ذلك ضوءا ينير عالما، لكنّه لم يستطع أن يتفوّق على سطوع ذلك الشيء الذي بداخله. كما لو أن ذلك الشيء هو في الواقع منبع ذلك الضوء ومنشأه وأصله.

ضاقت عينا إدريس الحكيم أمام الحدث الذي أمامه ثم ظهرت ثلاث كرات ضوئية روحية حملت أحكاما من السماوات والأرض وكل شيء كان باديا أمامها. سطعت عينا إدريس الحكيم وامتدّ التوهّج من عينيه إلى كامل جسده فتألّق بالكامل قبل أن يختفي العجوز ويظهر الشابّ ذو الهالة الملكيّة.

نظر الشابّ بعينيه اللتين شاهدا كل شيء أمامهما وعلما ماهيته وكينونته. كان ذلك طورا من أطوار الحكيم السياديّ. الدرجة الأولى: تقنية الرؤية الحكيمة السياديّة. يمكنها أن تبصر الظلام وتعقل الضلالة. فقط برؤية إدريس الحكيم للشيء داخل الضوء، استنبط وابتسم ثم قال: "هذا ما قصدته آنذاك ! لهذا أنا معلّمه يا جلالة الملك الأصليّ ! "

*ووووش*

في لحظة، تجمّع كلّ الضوء مرّة واحدة بنقطة واحدة. في الواقع، لم يكن يتجمّع وإنّما يعود لمنبعه الذي كان ذلك الشيء بداخله. ومباشرة بعد ذلك، ظهر شكل ذلك الشيء أخيرا بوضوح. لقد كان إبرة متصدّعة أربعة عشر صدعا تصل لحوالي ثلاثة سنتمترات. وبعدما اختفى الضوء أخيرا بداخلها، وتبدّد توهّجها أيضا، صارت مجرد إبرة طافية فوق جبهة باسل.

حدّق إليها إدريس الحكيم ثم تمتم بشكل عاطفيّ: "إبرة اخترقت فضاءً وبُعدا، فعبرت عوالما، وانتقلت عبر السماوات، واجتاحت الأراضي. طريقها خالٍ، ووجهتها مبلوغة لا محالة."

قال إدريس الحكيم مستحييا: "لقد مرّت مدّة منذ أن رأيتها، من كان يعلم أنّ الختم الذي مُنِحته هو في الحقيقة إبرة اختراق الأبعاد؟ يبدو أنّ مستواي في الحكمة السياديّة لا يزال ضعيفا ليبلغ مرحلة تخوّله الدراية بأعمال جلالته."

جلس متدبّرا مباشرة بعد ذلك وتحدّث: "يا جلالتك، لنبدأْ من فضلك."

سطعت التصدعات الأربعة عشر التي تحيط بالإبرة ثم انطلق منها ضوء معمي، ومباشرة بعد ذلك تحرّكت إبرة اختراق الأبعاد بسرعة لا يمكن رؤيتها ولا بلوغها من أيّ مخلوق. خاطت الإبرة بضوء ساطع الوجود بتحرّكها فكوّنت مصفوفة روحيّة في لحظات فقط. أحاطت المصفوفة بالمعلم والمتعلّم معا فختمت المنطقة حولها مكوّنة بذلك نطاقا ومجالا آخر. كان ذلك عالما آخر كلّيا، لا، بل كان بعدا مختلفا أصلا.

كانت طاقة العالم في ذلك البعد شبه معدومة. كان ذلك بعدا خاصّا أنشأته الإبرة لوحدها من دون أيّ مساعدة. كان أصل تلك الإبرة استثنائيا ومرعبا، ولم يعلم بشأنها سوى الملك الأصليّ وقليل معدودين. وبقدرتها على اختراق الأبعاد استطاعت أخذ الاثنين إلى هذا البعد الخاص.

استخدم إدريس الحكيم الحكمة السياديّة آنذاك وتزامن مع الإبرة ليجعل طاقة العالم تتوغّل لهذا العالم بشكل بطيء. كان ذلك أصعب ممّا بدا عليه الأمر. فذلك لم يكن ليحدث لولا وجود إبرة اختراق الأبعاد وحكيم سيادي كمعلّم باسل.

وهكذا أصبح بإمكان باسل التدرّب على إتقان التحكم في الطاقة السحرية الخارجية بشكل مريح أكثر. وبعد مرور حوالي الشهر، كان قد بلغ مستويات الربط.

كان باسل قادرا على الدخول لقسم مستويات الربط الثاني بكل سهولة كونه مرّ بتجربة طويلة مع الطاقة السحرية الخارجية. فعلى عكس السحرة الآخرين، كان باسل يتعامل مع طاقة العالم مذ كان بالمستوى الأول، وللتدقيق مذ أصبح ساحرا.

أصبح في حوزته السيطرة على طاقة العالم إذْ كان يمنعها من دخول جسده. كان هذا أصعب بكثير من جذب الطاقة السحرية الخارجية كما يفعل السحرة في الحالات الطبيعية. كان الجذب أسهل بكثير من النبذ الذي احتاج للتحكم المثالي كشرط أساسيّ في الحقيقة.

انتهت العمليّة أخيرا وحدّق إدريس الحكيم إلى إبرة اختراق الأبعاد وقال بعينين شاخصتين: "يا جلالته، لقد أخبرتني بعدم التعمّق في الأمر كثيرا، لكنّ الأمر قريب منّي لدرجة كبيرة لأتجاهله. لم يعد ذلك يقتصر على فضول شخصيّ؛ فالفتى ابني الآن وواجب الأب حمايته. سأقدّر لك ذلك لو حدّثتني عن قضيّة المختار والطفل الأخير هذه. فذلك أصبح قضيّتي أيضا الآن."

عمّ الصّمت لمدّة طويلة. كان إدريس الحكيم يبدو كأنّه يخاطب نفسه، ومن رآه يفعل ذلك سيعتقد أنّه مجرّد مجنون. تنهّد بعد مرور وقت ليس بالقليل وحدّق إلى باسل الذي يركّز كلّيّا على التدبّر والتأمّل.

وعندئذ، تحوّل المعلّم لرجل عجوز واختفت الهالة الملكيّة التي أحاطته سابقا. لم يتلقَّ أيّ إجابة أرادها فأصبح مزاجه عكرا نوعا ما. وبالتوالي بعدما أوقف تشغيل الحكمة السياديّة، ظهر أربعة عشر صدعا في النطاق الذي كانوا بداخله ثم انجلى مع الرياح كأنّه تبخّر.

اندفعت طاقة العالم مرة أخرى لجسد باسل بشكل جنونيّ، لكن واجهت قمعا ونبذا من باسل منعها من التوغّل أكثر. وأكثر ما استطاع باسل تحمّله آنذاك كان قسم المستوى العاشر المتوسط، وبعد التدرّب لمدة من الوقت أصبح أخيرا يستطيع استيعاب طاقة سحرية خارجية بكمّيّة تصل لتلك التي تكون عند القسم الأوّليّ من المستوى الحادي عشر.

في الوقت الذي عاد به الاثنان من ذلك البعد الخاص. نظر إدريس الحكيم إلى الإبرة ثم شبك قبضته وانحنى قليلا قبل أن يقول باحترام: "سآخذ ذلك على أنّني لست مستعدّا بعد."

فجأة، صدر صوت رنّان في الأنحاء وبدا كصوت عميق من رجل بلغ مقاما ساميا: "إدريس الدارِس يتعلّم دائما الدرس. قبل ألف وخمسين سنة كان أنا من منحك هذا الاسم. فلا داعٍ لتخجل من رغبتك في العلم. لقد كسبت الحكمة السياديّة ولن يمرّ وقت طويل حتّى تفوقني علما يا فتى. لا أخفي عنك لكنّني أخفيك عن الهول."

أشرقت عينا إدريس الحكيم كما لو كان طفلا متحمّسا لرؤية أبيه الذي غاب عنه لوقت طويل. حدّق إلى الإبرة ثم انحنى أكثر قبل أن يقول: "شكرا لك يا جلالتك ! "

عمّ السكون لوقت طويل مرّة أخرى فبدا الأمر كما لو أنّ إبرة اختراق الأبعاد كانت تشاهد المعلّم وتلميذه. وأثناء ذلك استمرّ إدريس الحكيم في الانحناء فقط.

رنّ الصوت من جديد على حين غرّة فزُلزِل إدريس الحكيم: "سأخبرك بشيء واحد؛ غير ذلك سيكون سيّئا لك فقط."

بدا إدريس الحكيم كما لو قد انحنى أكثر ثم قال: "الشكر لك يا جلالتك ! "

دندن الصوت من جديد: "لقد اختِرتُ قبل خمسين ألف سنة، وكنتُ الطفل السابع. في هذا الجيل، وقع الاختيار على الطفل الأخير."

رنّ ذلك الصوت بتلك الجملة قبل أن تشع الإبرة من تصّدعاتها الأربعة عشر مرّة أخرى وتنطلق نحو الأفق بسرعة الضوء فتكسّر الفضاء منطلقةً عبره إلى مكان غير معلوم مختفيةً بذلك من هذا العالم.

بقي إدريس الحكيم منشغلا بعد ذلك بالكلام الأخير الذي سمعه. ما المقصود بالضبط بالطفلين السابع والأخير؟ وما الذي اختيرا من أجله؟ ألم تزد هذه المعلومة من تساؤلاته أكثر فقط؟ هناك العديد من الأشياء المخفية التي يجب عليه العلم بها.

حدّق إلى الأفق كما لو أنّه يرى المسار والوجهة اللذين أخذتهما الإبرة ثم قال: "يا جلالتك، سيقوم تابعك هذا باتباع إرشادك للآن. لكن... الفتى ابني وسأحتاج للعلم بما يحدث بالضبط في هذا العالم."

***

بالعودة للوقت الحالي، كان الجنرال رعد يحافظ على وعي باسل. طارت الأفعى الكوبرا المجنّحة عائدة للشعلة القرمزيّة. التقوا بالكبير أكاغي بالقصر الإمبراطوريّ وعمّ الفرح بالأرجاء لعودة أنمار سليمة معافاة.

نُظِّمت حفلة صغيرة للاحتفال بالنصر المؤقت. ومباشرة بعدها عُقِد اجتماع للتكلّم بشأن ما هو قادم.

لقد قتل باسل حتّى الآن ثلاثة قدماء كبار، لذا كان من المنطقيّ التفكير في أنّ استجابة العدوّ ستكون عنيفة. وهذا ما أوصلهم لاستنتاج أنّ الحرب الشاملة قريبة، ولا يفصلهم عنها سوى أيامٍ معدودات.

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2018/05/12 · 1,002 مشاهدة · 1555 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024