159 – طريق شاقّ بحمل ثقيل
بادر باسل الحديث مجدّدا: "يا معلّمي، أيمكنني طلب خدمة منك؟"
استغرب المعلّم ثم حدّق إلى باسل. فبما أنّ باسل قالها بهذا الشكل، إذًا لابد وأنّ ذلك لا علاقة له بالتدرّب بالمسار الروحيّ. ابتسم إدريس الحكيم وأجاب: "قل لي ما هي أوّلا."
عبس باسل قليلا وتذكّر حرب الاسترداد ضدّ عائلة غرين. لم يكن محبَطا بسبب الحرب نفسها، وإنّما من آثارها، وخصوصا على تينك الطفلتين الصغيرتين اللتين لا تعلمان شيئا. أصبحتا تعيشان في رعب لا يوصف ولا يطاق بعد مقتل عائلتهما.
قال بعدما تنهّد: "أريدك أن تمحي ذاكرتيْ طفلتين."
نظر إليه إدريس الحكيم بعمق وقال: "وهل طلبتا ذلك منك؟"
لم يرفع باسل وجهه وظلّ عابسا بينما يحدّق إلى الأرضيّة التي يجلس عليها. لقد فعل ما يتطلّبه الأمر فقط لتنمية هذا العالم. وبالطبع بعد إزاحة عائلة غرين عن الطريق تغيّرت الكثير من الأشياء وبدأ ازدهار جديد ينبثق في الإمبراطورية منتشرا إلى العالم.
ولكن كلّ ذلك لا يعني أنّه لم يحرم طفلتين من والديهما. هو أيضا فقد والده بدون أن يعرفه حتّى وكان ذلك قاسيا كفاية، وخصوصا عندما يرى عناء أمّه ومشقّتها. كم من ليلة رأى أمّه تبكي لوحدها وتتحسّر؟ وكم كره رؤية تلك الدموع تسقط من عينيها؟ ذاب قلبه وانصهر بكلّ قطرة تنزل من جفنها.
وُلِد بعد يوم فقط من مقتل أبيه، لذا كان يحسّ بالعجز كثيرا عندما تنتحب أمّه؛ أصبحت ذكرى مولده تصاحب ذكرى موت والده. كانت أمّه قد تزوّجت والده للتوّ فقط وكانا سيحتفلان بمولده بفرح، ولكنّ كلّ ذلك أصبح في مهبّ الرياح بسبب الدمار الشامل. كلّ ذلك بسبب الشياطين.
ولهذا كان باسل له كره عميق تجاه الشياطين. لم يكن السبب المباشر هو مقتل أبيه، وإنّما ما نتج عن ذلك من معاناة ومقاساة مرّت به أمّه كلّ ليلة. وحتّى الآن، لم يستطع باسل مسامحتهم أبدا. وما كان يحرّكه ليوحّد هذا العالم بسرعة كبيرة هو ضمان سلامة أمّه والعالم الذي تعيش به أوّلا والمقربين منه ثانيا.
هناك أشخاص لا يعدّون عانوا مثل مصيره، لذا كان يتفّهمهم ويحسّ بهم. كلّ واحد منهم سيكون بحرقة لاذعة شاعرين أنّه شلال من الجحيم يرمي بمياهه الحارة التي تصهر روحهم. وإن كان يستطيع أخذ حقّه وحقّ أمثاله بيده، فذلك سيكون واحدا من أهدافه في الحياة. وسيفعل أيّ شيء لا يخالف مبادئه ومثالياته لتحقيق ذلك.
وبالطبع كلّ هذا كان سببا في معاناته هو الآخر؛ كان هو الشخص الذي يسبّب التوجّع للآخرين. كم من عائلة جعلها تخسر فردا منها؟ المئات. وكم شخص قتل في حربه الأولى بيده؟ المئات إن لم يكن الآلاف. كان ذلك قاسيا للغاية على قلبه الشابّ.
جرّب القتل بعمر الثالثة عشر، ولولا الموقف اليائس آنذاك لما قتل، ولكن لكلّ شيء بداية. وفي عالم يعمّه القتل والنهب، كان أخذ حياة الآخرين أمرا اعتياديا. ومع ذلك، القتل يبقى قتلا مهما كان السبب، ولا يغيّر حقيقة سلب أحدهم من أعزّائه. لا يغيّر أيّ شيء حقيقة أنّه جعل عائلات عديدة تشعر بالفراغ.
حدّق إدريس الحكيم إليه لمدّة طويلة بدون أن يجيبه باسل عن سؤاله. أكمل بعد رؤيته حالة تلميذه: "لا شخصَ أزليّ أبديّ بل أمديّ، فلا فانٍ سرمديّ. من قاتل يجب أن يستعدّ ليُقتل، ومقتله لا يقع على كتفيْ قاتله. كلٌّ وخياره، فكلٌّ ومآله."
حافظ باسل على قطبه ثم رفع أخيرا رأسه ونظر إلى معلّمه بنظرات شاخصة لا تعرف معنى التردّد. قال بنبرة حادّة لكن محترمة: "يا معلّمي، كلّ ما قلتَه منطقيّ. يبقى الأمر أنّني لا أريد إراقة الدماء والخطو للأمام كأنّني لم أفعل شيئا. ذاكرتي لا تنسى، وكلّ ما يمكنني فعله هو تذكّر وجه كلّ من مرّ به نصلي والتقت به عيناي.
"...ذلك ليس عطفا منّي، وإنّما حزم وعزم. سأتسلّق طريقي بينما أحمل ذلك الجبل، ولن ألقيه بعيدا فقط لأنّه ثقيل، فلقد بنيته بيديّ. ولا ريب في غدوّه أضخم وأوْزَن، لكنّني أؤمن أنّه سيكون ذا نفع ذات يوم."
تنهّد إدريس الحكيم ونظر إلى باسل. كانت مهمّته كمعلّم له إرشاده وجعله يتّبع الطريق المنشود، ولكن لا يمكنه فعل أيّ شيء بشأن مساره الروحيّ. فكما قال سابقا: كلٌّ وخياره، فكلّ ومآله.
كلّ ما عليه فعله هو إرشاده نحو الطريق الصحيح كي لا يضلّه مستقبلا أبدا. وغير ذلك، كل شخص حرّ في كيفية إنجاز ذلك. كان هذا المسار الروحيّ ولا يمكن للكلّ الاتفاق على اتخاذه بوتيرة ومنهج واحد.
تحدّث إدريس الحكيم: "طريق صعب ذاك الذي تنهجه. وفوق كلّ شيء، هل طلبت منك الطفلتين؟"
عبس باسل وقال: "لم تفعلا، لكنّي أريد منحهما هناء لتعيشا في سعادة. لن يكون هذا تعويضا منّي لأنّني لن أستطيع فعل ذلك أبدا. وبالأحرى، سيكون ذلك استعدادا لتواجها هذه الحقيقة في المستقبل."
عبس إدريس الحكيم ثم قال: "تريد مسح ذاكرتيهما مؤقتا؟"
وقف باسل ثم قال: "بعدما تبلغان المستويات الروحيّة وتكونان مستعدّتين لمواجهة الحقيقة، فأنا لهما في أيّ وقت احتاجتاني فيه. لو أرادتا الانتقام عندئذ فسأمنحهما الفرصة لذلك. وحينئذ يمكنني القول أنّني على الأقلّ لم أسلبهما كلّ شيء."
نظر باسل إلى النافذة التي دخل منها ضوء إشراق الشمس، والذي أنار الغرفة في لحظة، ثم اجتاحت رياح المكان كأنّها تحمل فألا سيّئا. تنهّد باسل مرّة أخيرة وقال: "على العموم، لقد أدخلت نفسي في هذه الفوضى بإرادتي. ولم يعد يهمّ إن كان يزعجني أو لا يعجبني، ففي النهاية لا شيء بدون مقابل في هذا العالم. لا يمكنني الهدف إلى شيء بدون تضحية."
حدّق إليه إدريس الحكيم لمدّة طويلة. لقد كان هذا الفتى غير اعتياديّ حقّا. كانت شخصيته أكبر من سنّه بكثير وتفكيره واسع الأفق. وكان هذا هو الشيء الذي أعجب إدريس الحكيم في باسل من الوهلة الأولى – شخصيته.
استدار المعلّم بعد مدّة من التحديق إلى باسل المغمور بشتّى المشاعر المتضاربة، وقال: "لك ذلك. سأختم ذاكرتيهما حتى تبلغان المستويات الروحيّة. وعلى كلّ، استعدّ جيّدا لما ستواجهه مستقبلا؛ فكلّ من اتّبع مثل هذا الطريق صنع بحارا من الدماء وجبالا من الجثث، ولكن ولا واحد منهم حمل مثل هذا الحمل الثقيل حتّى النهاية؛ لأنّهم إمّا ألقوه بعيدا وتخلّوا عن كلّ مبادئهم أو دمّروا أنفسهم ذاتيا من الإرهاق."
لم يجبه باسل وأخذ النصيحة ثم خزّنها في أعماق عقله وروحه. لقد كان يعلم ما ينتظره، إلّا أنّه ارتأى أنّ ذلك هو الطريق الوحيد الذي سيمكّنه من تحقيق أهدافه. هناك العديد من الخيارات الأخرى، ولكن لا يمكنها أن توصله إلى الأوج. فقط بذلك الحمل الثقيل يمكنه المضيّ قدما في الطريق الشاقّ متحمّلا كلّ مصاعبه.
لقد كان ذلك نوعا آخرا من طريق الأقوياء، وأحد الأكثر مشقّة وقساوة. لقد كان طريقا متعبا للغاية وطويلا إذْ كان السير فيه بطيئا بشكل لا يوصف. فبعد كلّ شيء، لم يكن ممكنا التقدّم دون حمل كلّ ما سبق ومررت به. كان هذا شكلا آخرا من المسار الروحيّ.
***
بعدما أنهى إدريس الحكيم عمله، دخل باسل لغرفة فوجد الطفلتين تقبضان كفّ بعضيهما بعضا وبعينين فارغتين. ابتسم بليونة في وجههما بعدما نزل ليتساوى معهما، ثمّ قال بصوت منخفض وهادئ: "كلّ ما فعلته هو إعطاؤكما فرصة، فإمّا تعيشان هكذا لبقيّة حياتكما، أم تختاران أخذ حقّكما. لقد حرصت على ضمان الاثنين معا لكما لتختارا أيّ واحد هو أفضل لكما في المستقبل."
ربّت على رأسيهما قبل الوقوف والاستدارة مغادرا. لقد انتهى عمله هنا كلّيّا وحان الوقت ليبدأ الاستعداد للحرب الشاملة. ستكون تلك هي المعركة النهائية ضدّ حلف ظلّ الشيطان، أو على الأقل سيحرص على أن تكون كذلك.
كل ما ومن يعيق نموّ هذا العالم الواهن سوف يُزال، وكان حلف ظلّ الشيطان هو العرقلة الكبرى، فكان الاصطدام المباشر به قادم لا محالة، سواء عاجلا أم آجلا.
وبعد أسبوع فقط، تأكّد أنّه كان عاجلا.
***
قبل أيّام قليلة، كان هناك شخص يقف بغابة أحيطت بالجبال العملاقة، وامتدّ عبرها نهر واسع بدا كتنّين مائيّ يقطع طريقه بسرعة كبيرة. وقف هذا الشخص هناك بينما يحيطه هدوء كبير للغاية، وغلّفته هالة بنفسجيّة داكنة من جميع الجهات. وفي لحظة، انطلقت هذه الهالة ممتدّة من جسده نحو الأرجاء، فتدمّر كل ما مسّته كما لو لم يكن موجودا.
أصبحت الجبال غبارا والنهر واديا، واختفت الغابة كما لو قد تعرضت للمحق. كلّ ما تبقّى كان هذا الشخص والأرضية أسفل قدميه. بدا كملك دمار يمكنه هدم كلّ شيء. ظهرت الوديان بخطوِه، واختفت الحياة بتلويح منه.
صار المكان الذي حلّ عليه هدما وأنقاضا، وكلّ ما ومن وقف في طريقه هُدِم. لا، بل دُمِّر، وأصبح غير موجود كما لو لم يكن قبلا.
كان هذا الشخص عبارة عن شابّ أسمر. رمقت عيناه السوداوان العالم بضوء أرجواني غامق، فبدا كمخلوق جبّار سامٍ يمكنه حكم العوالم التي لا تحصى وبلوغ الأعالي الأقاصي ليقف فوق جميع المخلوقات كسيدهم. بدا كحاكم أسطوريّ يمكنه ركوب التنانين الذهبيّة وأمر الأعراق السامية.
كان الشابّ ذو البشرة السمراء بجمال لا يضاهى، وشعره الأسود الحالك الطويل جعل أكثر النساء فخرا وتكبّرا تخجل من نعت شعرها بالأفضل. أمّا سمرته فقد كانت برّاقة بنقاوتها وتلمع بانعكاس الضوء عليها. ساحر كالليل ومتألّق كنجوم سمائه المظلمة.
كان شابّا يجعل النفس تغرق بظلام عميق بلمحة منه، ويصيبها بالفزع بحملقة منه. كان له جمال خلّاب، لكنّ هذا الحسن امتاز بنظرات شيطانيّة حادّة. كلّ ذلك زاد من هيبته وعمقه.
حدّق الشابّ إلى السماء عاليا ثم قال بصوته العميق: "يوما ما، سأبلغ السيادة العظمى. يوما ما، سأطبع قدمي في كلّ الأراضي المحرّمة والواهبة العتيقة. ويوما ما، سأحكم كلّ العوالم وأبلغ سموّا جليلا."
نظر إلى الأفق كما لو كان يبصر ما لا يُرى ثم أكمل: "لقد كان الدمار الشامل مولدي الحقيقيّ، وكان أحد السادة العظماء مرشدي السامي. سوف أبلغ مقاما عاليا ولن أخيب أملك أيها السيد العظيم 'إبلاس'."
كان هذا الشابّ هو ظلّ الشيطان، 'هدّام' الضَّروس.
من تأليف Yukio HTM
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.