177 - شجار بين حبيبيْن؟

177 – شجار بين حبيبيْن؟

أثناء تراجع الجيش العظيم، افترقت قواه، كلّ واحدة اتّخذت طريقا نحو ديارها. كانت إمبراطورية الشعلة القرمزيّة هي الأقل تعرّضا للخسارة، وتوسّطت إمبراطوريّة الأمواج الهائجة اللائحة، ثم جاءت إمبراطورية الرياح العاتية في المرتبة الأولى من حيث عدد القتلى.

لقد كانت تملك أربع جنرالات فقط، وذلك أثّر كثيرا على مردوديّة تشكيلاتها أثناء المعركة، أمّا قبائل الوحش النائم، فبالرغم من تلقّيها خسائرا فادحة أيضا إلى أنّها كانت في مدّة قصيرة فقط كونها أتت في الوقت الأخير من الحرب.

عادت القبائل إلى وطنها أيضا، ولكن رافقت لمياء وقادة القبائل الثلاث الأخرى الكبير أكاغي كي يقرّروا مستقبلهم. كان هناك خمس قبائل قياديّة في الواقع، ولكن تبيّن كما توقّع باسل أنّ إحداهنّ كانت خائنة، وكانت قبيلة حاكم النيران، ولهذا لم تظهر في هذه الحرب. فبعد كلّ شيء، مصير الخائن هو الإعدام في هذا العالم دون استثناء.

أعدِم جميع المسؤولين وحُجِز التوابع إلى أجل غير مسمّى حتّى يتّضح الأبيض من الأسود. وبسبب ذلك، هرب بعضهم، فجعل ذلك القبائل تتأخر في القدوم إلى الحرب، بما أنّهم اكتشفوا أنّ من هرب تلقّى المساعدة، واحتاجوا إلى أن يعرفوا من قدّمها لهم، فذلك عنى وجود خائن شريك.

وهكذا كانت القبائل قد انتهت أخيرا من انعزالها الذي استمرّ لخمس وخمسين سنة. فأصبح بمقدور أعضائها الانطلاق نحو العالم لرؤية معالمه وما يحمله من مفاجآت ومغامرات. ولكن ليس حتّى يتقرّر الأمر على يد قادتهم.

عندما اختفى الجميع، ظهر شخص أمام جثّة ظلّ الشيطان، مبتسما بوجه طفولي. كانت عيناه تحملان وهجا من الحماس، بينما تحدّقان إلى الجسد الميّت أمامه. نطق فمه بعد أن انحنى إلى الجثّة: "حامل عنصر الدمار الوحيد في كلّ العوالم. لا تقلق يا ظلّ الشيطان أو أيّا كنت، فبالتأكيد لن أجعل من موتك يذهب سدى."

عاد باسل وأنمار إلى القصر الإمبراطوريّ أيضا، ولبثا هناك لأيام قليلة قبل أن يقرّرا العودة إلى ديارهما التي ابتعدا عنها لمدّة طويلة. لم يرَ باسل أمّه لعام كامل، لذا كان متسرّعا من أجل العودة.

ترك كلّ الأمور المهمّة لقادة التشكيل، واتّفق مع الكبير أكاغي على مغادرته، فترك له التعامل مع القبائل وكلّ شيء آخر. لقد مرّ بعام مليء بالأحداث، ولم يكن ولا واحد منها يشمل أمّه، أو العمّة سميرة، أو الجدّ عليّ حتّى.

اشتاق باسل كثيرا إلى أمّه، أكثر شخص يعزّه في حياته، وافتقد مزاح العمّة سميرة، ولطف الجدّ عليّ إضافة لجزره الحلو. كلّ ذلك أصبح أقصى أولوياته، ولم يرد أن يبقى بعيدا عنه لوقت أطول بعدما انتهت كلّ الحفلات.

أثناء مغادرتهما، لم يأخذا معها عربة ولا شيء آخر. كان باسل يريد الترحال بين المناطق المحظورة والتمتّع بالمناظر في طريقه. فلو أراد الإسراع للوصول لاستخدمت أنمار وحشها المستدعى أو طار هو بهما بالرياح. لقد كان يريد أخذ رحلته نحو الديار بهدوء، ويحسّ بالشعور الذي ألف به طوال صغره.

كانت أنمار في الجهة الأخرى سعيدة بذلك. كلّ ما تريده هو وقت تكون فيه لوحدها مع باسل، ولو كانت هذه الرحلة ستمنحهما ذلك، فستفضّل أن يكون وقتها طويلا. كانت مبتسمة طوال الوقت، ولم تزح نظرها عن باسل بينما تمشي بجانبه. حتّى أنّ نظراتها جعلت باسل يشعر بالإرهاق من محاولة تجنّبها.

كانت تبدو أنمار في قمّة السعادة، وكأنّها ذاهبة لحفل زفافها، من أجل الزواج بحب حياتها. حيّرت أمر باسل بصمتها غير المعتاد، والذي استمر لمدّة طويلة جدّا بعد مغادرتهما العاصمة. فجعلته يتكلّم قائلا سؤالا لم يتخيّل أنّه سيأتي يوم ويقوله: "لمَ أنت صامتة هكذا؟"

ابتسمت أنمار، فجعلت الزهور المشرَقة بالشمس تخجل من فخرها بجمالها. كانت ملاكا بين الجنّيات، وجعلت من أرواح الطبيعة تقرّ بنقص فتنها أمامها. كانت ابتسامتها مغمضة العينين كافية لإسقاط جميع الرجال في غرامها، وعندما فتحتهما، بدت كأنّها أخذت هيبة السماء وسموّها وجعلتهما ملكها.

جعلت تصرفاتها قلب باسل يتحرّك، فاضطرّ إلى النظر بعيدا. خطت أنمار بعد ذلك قليلا ثم قابلت وجهه عن قرب، فجعلت وجنتيه تحمرّان من الخجل. تراجع عدة خطوات للخلف كأنّه هرب من عدوّ، فتبعته أنمار مباشرة فلم يستطع باسل ملازمة مكانه.

خطوة بعد خطوة، عاد باسل من الطريق الذي أتى منه، متراجعا مبتعدا عن أنمار، غير مدركٍ لمَ لا يستطيع مواجهة تصرّفاتها الغريبة. لم يسبق لأنمار أن تعاملت معه هكذا، لذا لم يعلم كيف يستجيب. تبع غرائزه فقط، والتي أخبرته أنّه في خطر محدّق.

تعثّر باسل فجأة، فسقط أرضا بعدما اختلّ توازنه، ثم نظر إلى العينين الزرقاوين اللتين تحدّقان إليه مباشرة دون أن ترمشا. ازداد توتّره فقال: "ما الذي يحدث معك؟ إنّك تتصرّفين بغرابة."

اقتربت أنمار منه، فجعلت حرارته ترتفع، لقد كان يعلم أنّ مشاعره لها من الماضي لم تختفِ، ولكنّه لم يتوقّع ان يكون الأمر إلى هذا الحدّ. أغمض عينيه وانتظر ما سيحدث، ولكنّ لا شيء وقع. فتح عينيه فوجد أنمار تمدّ يديها إليه فقط لتساعده على النهوض.

أمسك باسل يدها ثم نفض عنه الغبار بعدما نهض، وركّز النظر إلى عينيْ أنمار محاولا اكتشاف سبب تصرّفاتها المفاجئة، واستمتع بجمالها في نفس الوقت بينما يشعر بالخجل. راودته العديد من المشاعر المتضاربة ولم يعلم كيف يتعامل معها. فحتّى مع كلّ الدروس التي تلقّاها من معلّمه عن كيفية التعامل مع النساء، إلّا أنّه لم يستطِع إثبات نفسه أمام أنمار.

أخذ نفسا عميقا لمرّات متتالية، ثم أهدأ من روعه. لقد كان قلبه متسارعا بشكل مذهل حقّا. تنهّد قبل أن يقول: "حسنا. يمكنك الكلام فقط إن أردت. أنا دائما أخبرك بالسكوت، ولكن تستطيعين التحدّث الآن."

وبشكل مفاجئ، نطقت أنمار بصوت منخفض وحنون: "لمَ ابتعدت عنّي؟"

تفاجأ باسل لأنّها تكلّمت أخيرا، وسألت ذاك عكس ما توقّع أن تقول، فأجاب: "هذا لأنّك كنت تتصرفين بغرابة."

"لا ! " رفعت أنمار صوتها: "أنا أقصد لمَ ابتعدت عنّي في ذلك الوقت. لقد واصلت وضع مسافة بيننا طوال تلك المدّة. ألا تعلم كم كان مؤلما لي؟"

صمت باسل غير قادر على الإجابة، كما لو أنّ القط أكل لسانه. تذكّر بعض الأشياء ثم قطب بينما يحدّق إلى السماء. لقد كان هذا موضوعا صعب عليه ذكره. نظر إلى أنمار مرّة أخرى وأجاب: "أنت تعلمين لماذا."

قطبت أنمار واستهجنت. لقد علمت ما عناه، فأحكمت قبضتيها دون شعور، وأرادت ضرب أيّ شيء مهما كان. ودّت أن تنفّس عن غضبها الذي ذكّرها به في أسرع وقت. ومع ذلك، استجمعت أفكارها وهدّأت نفسها. نظرت إلى عينيْ باسل مباشرة ثم قالت: "إنّك من لا تفهم. فلو حدث ومررنا بنفس الأحداث مرّة ثانية، فلا أزال سأفعل نفس ما فعلته. إنّه ليس خطئي أنّني أردت المحافظة عليك لي. إنّه خطؤها لمحاولتها أخذك منّي."

"دوما، دوما، دوما." تكلم باسل بعد أنمار مباشرة وبدأ يرفع صوته مع كلّ كلمة يقولها: "إنّك دائما تظنّين نفسك تفهمينني ولكنّك لا تفعلين ذلك حقّا."

"ها؟" صرخت أنمار كذلك: "ما الذي تعنيه بهذا؟ ليس هناك مخلوق يفهمك أكثر منّي في كلّ ما بين السماوات والأرض. وما علاقة هذا بذاك؟"

صاح باسل: "حتّى لو فهمتني كثيرا، لو لم تفهمي لماذا ابتعدت عنك فلا معنى لكلّ ذلك. لو أنّك فهمتني وفهمت لمَ ابتعدت عنك في المقام الأوّل لما بلغنا هذا الحال."

جهرت أنمار بصوتها أكثر قبل أن تضيف: "ولهذا أسألك لماذا ابتعدت عنّي، أيها الأحمق ! " لم تستطِع ضبط نفسها أكثر، وفاق غضبها المستوى الذي تقدر على تحمّله، فلكمت باسل فجأة بكلّ ما تملك من قوّة.

طار جسد باسل لعشرات الأمتار بعيدا وارتطم مع جبل قريب. نهض بسرعة بينما يسيل القليل من الدم من فمه. حدّق إلى أنمار ثم قال: "أنت لا تفهمين..."

*بووم*

لم يعرف باسل ما حدث حتّى وجد نفسه محلّقا لمئات الأمتار بعيدا. لم يتوقّع أنّ أنمار ستكمل الضرب.

"لقد فرغتُ من التصرّف كالعروس الجيّدة ! " استدعت أنمار وحشها السحريّ ثم ركبته فتبعته. كانت تستشيط غضبا في تلك اللحظات، وقالت صارخة: "لا تفهمين، لا تفهمين، لا تفهمين. نعم أنا لا أفهم، وذلك محبِط كثيرا. نعم لا أفهم، وذلك مؤلم كثيرا. نعم لا أفهم، ولهذا أسأل. فلِمَ لا تتوقّف عن قول لا تفهمين وتفهّمني."

لم تتركه أنمار يرتاح، وأكملت ضرباتها المتتالية، باستخدام فنّها القتاليّ، وعنصر الوهم، إضافة لاقتراض عنصر الماء من وحشها المستدعى، والذي بدوره استخدمته في الهجوم أيضا. لقد كانت تهاجم باسل كأنّها تقاتل عدوّا لدودا. كان ذلك مقدار غضبها. بدت كأنّها تسأل السؤال ولا تنتظر الجواب لأنّها تخاف أن تسمع ما لا يرضيها.

وعلى عكس ما توقّعت، لم يقاومها باسل إطلاقا، وتركها تضربه لوقت طويل حتّى جعلت جسده مغطّى بالدماء، ومحطّمَ العظام، كما لو كان قد مرّ بمعركة ضارية. لقد ضربته لوقت طويل جدّا حتّى استفرغت كلّ ما لديها من طاقة وقوّة.

وفي النهاية، اقترب منها باسل بجسد الدامي، ونطق: "أنا أعلم لِمَ ضربتها حتّى شارفت على الموت، أعلم أنّك فعلت ذلك لأنّكِ علمتِ أنّها كانت تحاول أخذي منكِ، وأنّها فعلت ذلك فقط لتلبّي رغبة أخيها عثمان في إبعادي عنك. ولهذا أبرحته ضربا قبل خمس سنين."

ضربته أنمار مرّة أخرى بقضبتها، ولكنّها لم تكن تملك قوّةً، ليس فقط لأنّها استفرغتها، ولكن أيضا لأنّها كانت محطَّمة. نزلت قبضتها على صدر باسل المحطّم، فتبع جسدُها قبضتَها واتّكأت على باسل المليء بالجروح.

أكمل باسل بعدما وضع ذراعيه حولها: "ابتعدت عنكِ لأنّكِ تحرّكتِ من خلفي ودون علمي. لقد كنت تفعلين ذلك دائما، ولم تخبريني أبدا عمّا تنوين فعله. إنّكِ لا تفهمين، أنت لا تفهمين أنّني خشيت أنّني لا أستطيع فهمك."

دمعت عينا أنمار بعد ذلك مباشرة، ثم قالت: "أيها الأحمق ! " فنامت بين ذراعيه. جلس باسل بعد ذلك ثم حدّق إليها لوقت طويل، حتّى وجد نفسه هائما في جمالها. أخرج إكسير علاج وشربه، ثم استلقى هو الآخر بينما يضع رأس أنمار على ذراعه، وناما في تلك الليلة من شدّة التعب.

استيقظت أنمار أوّلا في الصباح التالي، فوجدت نفسها في تلك الوضعية، فاحمرّت وجنتيها ومدّت يدها ثم لامست وجه باسل النائم، وداعبت شعره لوقت بينما تنظر إلى كلّ زاوية من جسده. شعرت بالهناء والراحة، وأرادت استغلال هذه اللحظات الثمينة.

فتح باسل عينيه، فوجد أنمار تجلس بجانبه، بينما تلمس شعره، فوقف بسرعة كبيرة، ولم ينبس ببنت شفة، ثم ذهب إلى نهر قريب متصّرفا كأنّه لم يحدث شيء. غسل وجهه وبدأ يزيل ملابسه حتّى يغتسل، فإذا به يجد أنمار خلفه مباشرة.

صاح متفاجئا: "ما الذي تفعلينه هنا؟ ألا ترينني أستعد للاغتسال؟"

ابتسمت أنمار ثم قالت: "من واجب الزوجة الاعتناء بزوجها."

"زوجة؟" استغرب باسل من كلامها ثم أكمل: "أيّ زوجة تتحدّثين عنها؟ ليس لديّ الوقت لهذ..."

توقّف باسل عن الكلام فجأة. كان ذلك بسبب تلقّيه اتصالا عبر خاتم التخاطر: (أيها الفتى باسل. أسرع إليّ. يجب أن تكون عندي في أسرع وقت ممكن.)

استغرب باسل ثم أجاب في الحال: (نحن قريبان أيّها المعلّم. سنكون عندك في الحال.)

أكمل إدريس الحكيم: (من الأفضل ألّا تأتي بالصغيرة أنمار. سأنتظرك.)

تعجّب باسل من كلام معلّمه، وحدّق إلى أنمار دون شعور. أنهى الاتصال ثم أخبر أنمار: "سأذهب للقاء المعلّم الآن. فلتسبقيني، سآتي لاحقا."

عبست أنمار ثمّ قالت: "لا، أودّ الذهاب معك."

قطب باسل ثم فكّر: "ها قد عدنا من جديد." فوَردت فكرة في ذهنه، فقال مباشرة: "أليس من واجب الزوجة الاستماع لزوجها؟" ابتسم باسل عند قوله ذلك، وكان واثقا ممّا يقول.

وبالطبع، كما توقّع مباشرة، أكلت أنمار الطعم ثم هدأت وقالت: "حسنا. سأسبقك."

ودّعته، ثم أخذ باسل طريقه نحو معلّمه.

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2018/08/17 · 1,146 مشاهدة · 1707 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024