178 – لا أحد
كان إدريس الحكيم يطوف فوق الكوخ، في شكله الشابّ، بينما يستخدم حكمته السيّاديّة لحساب العديد من الأشياء. كان العالم الواهن الصغير مثل راحة يده، يمكنه رؤية كلّ شيء به وتوقّع أيّ شيء يحدث به. وركّز هذه المرّة بشكل كلّيّ على مكان محدّد في قارّة الأصل والنهاية.
كان ذلك المكان محميّا بهالة خارقة، جعلت من الحكمة السياديّة دون نفع. كان ذلك المكان يدار بنيّة سامية لم يقدر حتّى إدريس الحكيم على معرفة من مالكها لمدّة طويلة، ولكنّه حمل شكّا هذه المرّة جعله ينادي باسل في عجلة من أمره.
كانت هناك أشياء أخرى أراد مناقشتها أيضا مع باسل، ولكنّ ذلك الشكّ الذي حمله في قلبه كان صادما حتّى بالنسبة له. كان ذلك له علاقة بما كان يحدث لباسل مؤخّرا، وبدأ يربط إدريس الحكيم الخيوط كي يحصل على الصورة الكاملة.
أحاط ضوء فضّيّ إدريس الحكيم فجعله يبدو كأنّه في عالمه الخاصّ، ولا يقدر أحد على الإفلات من أحكامه وسيطرته المطلقين في ذلك العالم. ظهرت تعاويذ ذهنيّة روحيّة، وجعلت منه يبدو كسيّاديّ سامٍ قادر على محق كلّ العالم الواهن بكلّ سهولة لو أراد.
لقد كان إدريس الحكيم يدعى بـ'حكيم الفنون السامي السياديّ' لسبب، وكان ذلك يفوق مخيّلة أيّ شخص من العالم الواهن. لقد كان اسم الحكيم السياديّ منتشرا عبر العوالم الروحيّة كلّها، ولم يكن هناك شخص لا يضع الاعتبار له، سواء أكان من أقوياء الوجود أو من حكّامه حتّى. لقد كان إدريس الحكيم دائما شوكة في حلوقهم، وليس فقط بسبب مستواه الحالي، ولكن بسبب الإمكانيات الهائلة التي يملكها كحكيم سياديّ.
كان لا يزال صغيرا كساحر روحيّ، ومع ذلك كان مستواه جيّدا للغاية مقارنة بمن في نفس عمره. كان هناك القليل من يستطيع منافسته، ولم يكن ذلك القليل من جنس البشر لأنّه كان في قمّة شبّانه، واقتصر ذلك على الشبّان من الأجناس الأخرى كونها لديها مزايا مختلفة تخوّلها مجاراة الحكمة السياديّة.
ومن بين كلّ هؤلاء الشبّان، تذكّر إدريس الحكيم واحدا راسخا في ذاكرته. لقد كان ذلك الشخص منافسه، وعدوّه اللدود منذ أن كانوا مجرّد سحرة. لم يكن هناك شخص أكثر منه أهلا لينادى بخصم إدريس الحكيم. فبكلّ حرب، ترقّب الجميع قتالَهما، وتضاربَ استراتيجياتهما.
كان ذلك الشخص من جنس الشياطين، وكان من أفضل الموهوبين بعرقه. كانت له مكانة، وأيّ شخص يسمع باسمه يهرب إلى أقصى ما يمكنه بلوغه. لقد كان يجلب اليأس معه أينما حلّ، لأنّه كان اليأس بعينه في نظر كلّ شخص. لقد كان ذلك الشخص أحد قادة جيش ملك الشياطين العظيم، شيطان اليأس، إبلاس.
كان إدريس الحكيم قلقا، ومتشوّقا. تضاربت مشاعره مع بعضها، ولم يعلم ما الإحساس الذي يجب عليه الأخذ به. "فأينما حلّ إبلاس نزل اليأس". كانت هذه مقولة معلومة لدى العوالم الروحيّة. لذا كان إدريس الحكيم قلقا بسبب ذلك، ومتشوّقا لمقاتلة خصمه بعد مدّة طويلة.
وصل باسل أخيرا إلى معلّمه، ثم بقي معه ليوم كامل قبل أن يذهب إلى منزله بنظرة عبوسة للغاية، والتي لم تطل ما أن بصر باسل القرية. استنشق الهواء بعمق ثم انطلق إلى المنزل. تناسى مؤقّتا ما دار بينه وبين معلّمه ثمّ ركّز على مقابلته لأمّه والآخرين.
وعند دخوله القرية، لمح رأس ثعبان ضخم معلّقا فوق البوابة. لقد كان ذلك رأس ملك الثعابين الشره. لم يعلم باسل كيف وصل إلى هنا، ولكنّه لم يهتم بذلك وأكمل طريقه.
وصل إلى المنزل بسرعة، وكان الوقت صباحا، وبمجرد ما أن دقّ على الباب، حتّى فتحت أمّه لطيفة الباب بسرعة وانتفض جسدها، فترامت إلى ابنها جاعلة إيّاه بين ذراعيها. انهمرت الدموع من وجهها بينما تعانقه بشدّة، قائلة: "انظر كم كبرت. لقد أصبحت أطول قبل أن أعلم، وجسدك أضخم، هل كان عليك حقّا أن تغيب عنّي كلّ هذه المدّة؟"
لقد كان باسل قرّة عينها، وكأمٍّ وحيدة دون زوج يساندها، ربّت باسل جنبا إلى جنب مع صديقتها سميرة أمّ أنمار. لقد كان باسل عائلتها الوحيدة من دمها، ولم تستطِع معاناتها إن فقدته أيضا. تذكّرت العديد من الذكريات عندما حدّقت إلى ابنها، فرأت زوجها المتوفّى جاسر، فبكت أكثر وتحسّرت بينما تتذكّر بعض كلمات أب باسل: "هل حقّا تريدين هذا حتّى بعدما علمتِ بلعنتي؟"
ومضت بعض الصور في عقلها، وأحسّت كما لو أنّها في نفس اللحظة التي ردّت فيها على زوجها آنذاك: "لا تهمّني أيّ لعنة، فكلّ ما أريده هو البقاء إلى جانبك أقصى ما أمكنني."
حدّقت إلى باسل فوجدته يصنع نفس الابتسامة التي رأتها في أبيه حينذاك، فجعلها ذلك تسقط على ركبتيها من شدّة الأمر عليها. لطالما حاولت البكاء مختبئة عن باسل، ولطالما علم هذا الأخير بذلك. ولكن اليوم، كلّ شيء ظهر إلى العيان، فأحسّ باسل بأنّ أمّه بدأت تنظر إليه كرجل قادر أخيرا.
انحنى باسل ثم قبّل رأس أمّه، و نظر إليها بعدما نزلت دمعة من عين واحدة، رافقتها ابتسامة مشرقة وحنونة لم يسبق له أن بَسَمَ مثلها. غمرته الفرحة والسرور، واختفت منه كلّ الأحزان والشرور. كلّ ما بقي هو معزّته لأمّه لا شيء آخر.
عانق أمّه ثم قال لها: "لقد عدت يا أمّي. لطالما فعلت، ولَأفعلنّ."
كانت اللحظات التي يمضيها باسل مع أمّه إحدى اللحظات التي يجد فيها السكينة والطمأنينة، ويشعر أنّه في هناء لا يقربه شقاء. أعزّ أمّه واعتبرها عالمه، فأراد حمايتها وتوفير لها حياة رغيدة حيث لا تمرّ بما سبق اختبرته من مآسٍ.
نطقت أمّه ثم قالت: "لقد كنت خائفة من أن تصيبك اللعنة أيضا."
دخل باسل بأمّه إلى المنزل ثمّ أمضى معها وقتا تحدّثا فيه عن كلّ المغامرات التي قام بها باسل دون ذكر مخاطرها. وفي المقابل، كانت أمّه دائما تعلم أنّه يفعل ذلك في كلّ مرّة يحكي لها. لقد كان ذلك طبعا من أبيه فقط، ولم يكن ليمرّ بها كلام منه دون أن تكشف خباياه.
بعد فترة وجيزة، أتت العمّة سميرة وأنمار في نفس الوقت، وبقوا معا حتّى تناولوا الغذاء مجتمعين، بينما تلقي العمة سميرة مزاحها المعتاد: "أيها الغرّ، ما بالك لا تمرّ على منزلي حتّى بعدما عدت. حقّا عادتك لا تتغيّر."
تكلّمت بعدها لطيفة: "لا تكوني قاسية عليه. فأنا من أسره معي."
عبست سميرة ثم قالت: "أنت دائما ستأخذين جانب ابنك على أيّ حال، لذا كلامك غير مبرِّر."
ضحك أربعتهم لوقت طويل بينما يأكلون. مرّ النهار على ذاك الحال، حتّى جاء موعد ذهاب باسل لزيارة الجدّ عليّ. ومرّ وقت قصير فقط بعد ذهابه فعاد إلى المنزل. فقال سائلا أمّه والآخرين: "أتساءل، أرأى أحدكنّ الجدّ عليّ؟ فأنا لم أجده في السوق، وعندما سألت عنه لم يعطني أحد إجابة مرضية."
صنع جميعهنّ نظرات مستغربة، فنطقت لطيفة أوّلا: "الجدّ عليّ؟ من هذا يا ترى؟"
قطب باسل ثم حدّق إلى أنمار وأمّها، فوجدهما تنظران إليه بغرابة، كأنّه يتحدّث عن غريب ما. لم يفهم باسل ما يحدث فنطق بسرعة: "لا تقلن لي أنكنّ أيضا نسيتنّه، إنّه الجدّ عليّ صديق عائلتنا، بائع الجزر الحلو. كيف لكنّ ألّا تتذكّرنَه؟"
كانت أنمار تغسل الصحون في ذلك الوقت، فاستدارت وقالت: "لا أذكر أنّني وضعتك تحت وهم كهذا. من أين تأتي بكلّ هذا؟"
اتّسعت حدقتا باسل فتأكّد أنّ هناك شيء خاطئ لا محالة. كيف لأمّه وتينك الاثنتين أن ينسين الجدّ عليّ. لا بدّ وأنّ شيئا ما حدث. خرج مسرعا من المنزل وذهب إلى السوق مرّة أخرى، فوجد أولئك الأشخاص الذين كانوا يزعجونه دائما يتحرّكون في مجموعة بينما يترأّسهم عثمان – حرس الملاك أنمار الشخصيّ.
أوقفهم، ثم حدّق إليهم بشكل شرس، لكنّ قائدهم عثمان لم يهلع كعادته هذه المرّة، وتقدّم إلى الأمام قائلا: "ماذا تريد أيها البرغوث؟ هل أتيت باحثا عن مقتلك؟"
تنهّد باسل ثم فكّر لقليل من الوقت: "لماذا لا يتعلّم هذا المخلوق درسه أبدا؟" قال بنظرة جدّية بعد ذلك: "لا أريد ضرب أحد في الوقت الحالي، فلا مزاج لي. أريد سؤالكم عن شيء واحد فقط، فأجيبوني عنه."
تقدّم أحد من المجموعة إلى الأمام ثم تكلّم بصوت مرتفع: "هيْ، هيْ، هيْ، مع من تظنُّكَ تتحدّث؟ ألا تعلم أنّك في حضرة ساحر القرية الأقوى، عثمان قاتل الثعبان؟ إنّه الشخص الذي أتى برأس ملك الثعابين الشره من وادي الظلام العميق، وجعله رمزا لقريتنا. انظر إلى هناك."
أشار الشابّ بيده إلى مدخل القرية، وأكمل: "لقد رأيت رأس الثعبان الضخم عند المدخل؟ سأنوّرك يا هذا. لقد كان قائدنا، مفخرتنا، عثمان أبو عثمان هو من علّقه ها هناك. وهل تعرف ماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني أنّ القرية تحت حمايته. واسمها الآن هو قرية العثمان. لقد عفى عنك الزمن أيها البرغوث الأحمر، إنّه زمن سيّدن..."
*فرقعة*
فجأة، توقّف ذلك الشخص عن التكلّم ثم علم كلّ واحد أنّه أُرسِل محلّقا لعشرات الأمتار. حملق باسل إلى عثمان ثم قال: "لن أعيد كلامي."
تقدّم عندئذ عثمان إلى الأمام وازدرى باسل بأسلوب متعالٍ: "إنّك حقّا لمغرور كعادتك."
ابتسم باسل وردّ: "وإنّك حقّا لصرصور كعادتك."
ارتفع ضغط دم عثمان، فاحمرّ وجهه وانقضّ على باسل، وفعّل سحره، فكوّن سيوفا من الرياح، ورمى بها واحدة تلو الأخرى على باسل حتّى يصنع لنفسه ثغرة في دفاع باسل. لم يتحرّك هذا الأخير وتركها تضربها كلّها، فضحك عثمان بصوت مرتفع، واثبا، مستعدّا للكم باسل بكلّ ما يملك من قوّة وسحر.
وفجأة، امتدّت يد من الغبار، وقبضت عنقه. لم يعلم عثمان ما حدث حتّى وجد نفسه معلّقا في الهواء بيد باسل. لم يستطِع التحرّك ولا استخدام سحره تحت ذاك الضغط الهائل الذي وجد نفسه تحته. لقد كان واثقا كلّ الثقة هذه المرّة من فوزه، ولكنّه لقي نفسه، مرّة أخرى، في نفس الوضعية التي اعتاد باسل إمساكه بها دائما.
تكلم عثمان صارخا: "أنتم، اهجموا ! "
حملق إليهم باسل ثم قال: "أتريدون إعادة الكرّة؟"
ارتعدوا جميعا، ولم يستطيعوا التقدّم. فنظر بعد ذلك باسل إلى عثمان المعلّق في الهواء: "والآن، فلتجبني. أرأيتَ الجدّ عليّ؟"
نظر عثمان إليه، وقال بصعوبة: "من سيجي..."
توقّف عن الكلام قبل أن يكمله، وكان ذلك بسبب أنّ باسل ضغط على عنقه أكثر. تكلم باسل بجدّية: "أجبْ ! "
تنفس عثمان بصعوبة ثم قال: "لا أعلم. أنا لا أعلم."
ارتفع غضب باسل ثم قال: "أخبرني، إنّه الرجل العجوز قبل ثلاث سنوات. لا تقل لي أنّك لا تتذكّره. لقد حنيت رأسك له." ضغط باسل بقبضته على عنقه أكثر، فجعله يقترب أكثر من الموت.
قال عثمان بخرخرة: "أقسم لك. لا أعلم. أرجوك اتركني."
أطلق باسل سراحه ثم ذهب يسأل الناس واحدا تلو الآخر، ولكن كل ذلك كان بلا نتيجة. لم يعلم أحد عمّن يسأل باسل، والذي جعله يصبح مجنونا. كيف لشخص أن يختفي فقط هكذا. بدأ الشكّ يتخلّله حتّى، أنّه الشخص الواهم.
هرع باسل في ذلك الوقت مباشرة نحو الكوخ: "يجب أن أعرف ما يحدث في هذا العالم ! "
كان في ذلك الوقت إدريس الحكيم داخل عالمه الفضّيّ، وكان يدرس العديد من الأشياء في آن واحد. كان يدرس التعاويذ الذهنيّة الروحيّة، والسحر، والروح، والأسلحة، إضافة للعالم الواهن. وفي ذلك الحال، كان يستطيع الإحساس بكلّ شيء في نطاق شاسع للغاية.
وفجأة، نطق صوت بداخل عالمه الفضّيّ. كان صاحب هذا الصوت عجوزا بسيطا. لا يبدو عليه أيّ أثر من القوّة. بدا كعجوز يعيش ما تبقّى له من سنوات قليلة فقط لا غير.
"ما زلت مبتدئا."
فتح إدريس الحكيم عينيه المغلقتين، وتسارع قلبه بجنون. لم يحسّ بأيّ ذرّة من الوجود تأتي من ذلك العجوز أمامه، فلم يشعر أبدا بدخوله، فلم يعلم كيف دخل. قال إدريس الحكيم بشكله الشابّ بصوت مرتعب: "مـ-من أنت؟"
ظهرت أسنان العجوز البيضاء الناصعة، صانعا ابتسامة عريضة، قائلا: "لا أحد."
من تأليف Yukio HTM
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.