179 – لا أحد (2)

حملق إدريس الحكيم إلى الشخص أمامه، وحاول إدراك ما حدث، وكيف لهذا الشخص ألّا يبعث ذرّة وجود. كان إدريس الحكيم يشعر كأنّه يواجه صورة وهمية فقط، دون جسد ولا روح ولا نيّة.

بلع الشابّ الفضّيّ ريقه ونطق: "كيف دخلت؟"

حدّق إليه العجوز محافظا على نفس الابتسامة العريضة، وقال مستهزئا: "إن لم تعلم ذلك حتّى، فإنّك مجرّد مبتدئ لا أكثر."

عبس إدريس الحكيم، وقال: "هذه المرّة الثانية التي أسمع فيها هذا الكلام في هذه السنة. هذا نادر حقّا. إن لم تكن ستقدّم نفسك بشكل لائق، فانقلع من نطاقي!"

حرّك إدريس الحكيم ذراعه إلى الأعلى، فدارت الكرات الثلاث المحاطة بالحروف الرونية، وبدأت تصنع أحكاما خاصة بها. كانت هذه الأحكام مختلفة عن تلك التي تطبّقها التعاويذ الذهنية الروحية، ولم تكن تستمدّ طاقتها من الطاقة السحرية، ولكن من مصدر آخر.

كان هذا المصدر هو الكرات الثلاث فوق إدريس الحكيم. فكلما دارت تلك الكرات وارتفعت سرعتها، ازدادت قوّة تلك الأحكام وتأثيرها على الوجود. وفي لحظة فقط، كان إدريس الحكيم قد كوّن ختما كبيرا أمامه مكوّن من كلمتين: "طرد إجباريّ."

كانت هاتان الكلمتان تحملان حكمة متناهية، وعبر نيّة ملقيهما، تكوّنت حالا يدان عملاقتان، فاندفعتا نحو العجوز بثقل يستطيع دكّ أعتق الجبال وترويض المخلوقات السامية.

*بااام*

ضربت اليدان العملاقتان العجوز، فسبّبتا صدمة هزّت جنوب إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة بأكمله، فهلع الناس في شتّى الأماكن، وارتعبوا من ذلك الزلزال المفاجئ والمفزع.

كانت مهمّة هاتان اليدان العملاقتان هو طرد العجوز دون ترك فرصة له للمقاومة. لقد كان إدريس الحكيم داخل نطاق من صنعه بحكمته السياديّة، وطاقته الروحيّة، فكانت له اليد العليا. في هذا النطاق، كان بإمكانه تشكيل ما شاء من الأحكام وتطبيقها على الوجود. لقد كان ذلك عالما صُنِع بواسطته عبر حكمة لا مثيل لها، فكانت له القدرة على القيام بما يشاء داخله.

"ليس سيّئا بالنسبة لمبتدئ." انبثق الصوت من جديد، فجعل ذلك إدريس الحكيم يُصعق مرّة أخرى. كان العجوز يقف أمام اليدين العملاقتين بدون أن يؤثّر عليه أبدا الطرد الإجباريّ.

تكلم إدريس الحكيم صارخا: "من أنت بالضبط؟ ليس هناك سوى قليل ممّن باستطاعتهم تحمّل أختام حكمتي السياديّة في هذا النطاق."

لم يزل العجوز تلك الابتسامة من على محياه أبدا، ثم قال مرّة أخرى ساخرا من إدريس الحكيم: "سأنيرك يا فتى. لربّما أختامك وأحكامك لها تأثير كبير على الوجود بحكمتك السياديّة، ولكنّها بدون فائدة عليّ، فأنا لست من الوجود، ولن يؤثّر عليّ شيء مهما كان. أنا لا أحد."

وفي تلك اللحظة، سمع إدريس الحكيم صوتا قادما من بعيد. لقد كان ذلك باسل يصرخ: "أيّها المعلّم، ماذا هناك؟"

قطب إدريس الحكيم ثم خاطب العجوز أمامه: "سأتجاوز كلّ التساؤلات الأخرى. ما هدفك؟"

ضحك العجوز: "هاهاها. لا داعٍ لأنْ تأخذ الحيطة والحذر منّي. لقد جئت لأرى معدنك فقط." نظر العجوز إلى خارج النطاق، ولم يكن صعبا عليه بتاتا ملاحظة باسل يتقدّم نحوهما، فأكمل: "أتيت لأرى فقط إن كنت ستكون سببا في نجاة الفتى من لعنته الأبديّة، أم ستكون مجرّد سبب آخر في المعاناة طويلة الأمد التي تنتظره."

حملق إدريس الحكيم إلى العجوز ثم صرخ: "ما الذي تقصده؟ أخبرني عمّا تعلمه! أتعلم عن قضيّة الطفل الأخير والمختار تلك؟ قل لي ما الذي المصير الذي ينتظر الفتى باسل."

"يبدو أنّني قلت الكثير." نظر العجوز إلى باسل مرّة أخيرة ثم قال: "لربّما تأثّرت قليلا، ولكن... أنا ليس لديّ الإجابة عن تساؤلاتك. أنا مجرّد مراقب. حتّى مجيئي إلى هنا كان نزوة فقط لا أكثر."

اختفى العجوز مباشرة بعد ذلك، وترك إدريس الحكيم في حيرة من أمره. لقد كان ذلك الشخص من أكثر الأمور غرابة التي اختبرها إدريس الحكيم في حياته كلّها. لم يعلم من أين أتى أو إلى أين ذهب، أو هل سيظهر مرّة أخرى أم لا. لقد كان حقّا شخصا بلا وجود.

بدّد إدريس الحكيم بعد ذلك نطاقه الفضّيّ، ثم استمع لما لدى باسل. وبعدما سمع لكلّ ما حدث، صنع ابتسامة خفيفة لم يلاحظها باسل، ونظر إلى الأفق دون قول أيّ شيء. لقد كان يفكّر في كلّ الأمور التي تحيط باسل.

وفي نفس الوقت، راقبتهما عينان من مكان غير معلوم. كانت العينان تعودان للعجوز الذي لم يستطِع إزاحة عينيه عن باسل. بقي يفكّر لوقت طويل ثم قال بعدما ابتسم، ساخرا من نفسه: "لقد راقبته لسنوات فقط، لا يمكن أن تكون سوى قطرة من نهر الزمن الذي أسري مجراه، ولكنّه أثّر بي؟"

تذكّر العجوز بعضا من الذكريات العتيقة، وأكمل تكلّمه مع نفسه: "هاهاها. لقد راقبت كلّ الثلاثة عشر، ولكنّ الرابع عشر ترك أثره فيّ. لقد كان السابع مثيرا للاهتمام أيضا في صغره، ولكنّه لم يكن بقدر هذا. حتّى أنّ جميع الثلاثة عشر لم يمرّوا بما اختبره هذا."

راقب العجوز إدريس الحكيم وباسل من اللّامكان، وأخرج جزرة، ثم بدأ يأكلها، واختفى نهائيّا.

نظر إدريس الحكيم إلى باسل ثم قال: "يا أيّها الفتى باسل، إنّك لست بواهم، فقط يبدو أنّ الشخص الذي تبحث عنه غير موجود. اسمعني ولا تسألني. لم يكن الشخص الذي تبحث عنه موجودا أبدا، لذا ليس من الغريب ألّا يتذكّره أحد. ستفهم ذات يوم."

قطب باسل، ولم يفهم شيئا. لقد كان يزور الجدّ عليّ منذ نعومة أظافره، وكان يأخذ الجزر منه دائما، ويتحدّث معه عن الكثير من الأشياء طوال الوقت، فكيف ألّا يكون موجودا؟ كان باسل سيُجنّ، ولكنّه توقّف عن التفكير في هذا للآن. فحسب كلام معلّمه، سيأتي وقت يفهم فيه ما يحدث بشكل جيّد.

حدّق إدريس الحكيم إلى تلميذه، وابتسم مفكّرا: "حسنا، حتّى لو أراد إجابة مقنعة فلن يجدها عندي. يجب أن ينتظر الوقت فقط ليحلّ كلّ شيء."

بقي باسل بعد ذلك لمدّة قليلة مع معلّمه، ثم عاد مرّة أخرى إلى منزله. أمضى أيّاما هانئة هناك دون حصول أيّ شيء. فقط نفس الأيام الهادئة التي اعتاد عليها بصغره. اعتادت ان تكون هذه الأيّام مجرّد ملل بالنسبة له عندما كان صغيرا، ولكنّه يجدها الآن باعثة للراحة.

وفي أحد الأيّام، كان باسل قد قرّر شيئا، فاستخدم خاتم التخاطر: (يا تورتش، أريدك أن تقوم بالتالي.)

وبعد أيّام أخرى، ذهب ليخبر أمّه والعمّة سميرة مع حضور أنمار بشيء كان يجب الانتهاء منه. وقبل دخوله إلى المنزل، كانت أنمار تتحدّث مع أمّها ولطيفة: "نعم. ذلك حقّا حدث."

وضعت لطيفة وسميرة يديهما على فميهما من الدهشة وقالتا: "إنّ هذا لخبر مسعد. حتّى أنا لم أتوقّع أنّ باسل سيُقدِم على هذا الخطوة بهذه الجرأة. هنيئا لك يا صغيرتي."

نهضت سميرة من على كرسيّها وعانقت أنمار قائلة: "وبهذا، سيكون أبواكما سعيدين أيضا."

تحرّك حاجب أنمار عند سماع ذلك، وفي عندها دخل باسل ثم جلس ودخل في الموضوع مباشرة: "لم أخبركما عن هذا. لقد التقيتُ بجدّتي، والتقت أنمار بعائلتها، العائلة الإمبراطورية كريمزون."

نبض قلبا لطيفة وسميرة بسرعة كبيرة للغاية بعد ذلك، وأصبحت تعبيراتهما جامدة. لقد علمتا أنّ هذا اليوم آتٍ لا محالة، وعندما غادر الاثنان المنزل قبل عام، شكّا في أنّ فرصة معرفة الطفلين بهويّتهما ستكون كبيرة. واليوم بعدما واجههما باسل بهذه الحقيقة، لم تعلما ما الوجه الذي يجب عليهما صنعه أو الكلام المناسب لقوله.

لقد كانت قرية باسل في أقصى جنوب الإمبراطوريّة، ولم تكن تلّم بالأخبار كثيرا. فلم يكن هناك ساحر حتّى، وكانت القرية مجرّد منطقة زراعيّة منعزلة لا تصلها الكثير من الأخبار. ولهذا لم تعلم الأمّان عن أميرة الإمبراطوريّة الجديدة أنمار، أو حتّى عن الجنرال الأعلى باسل.

وحتّى لو بلغت الأخبار هذه القرية، فلن تصل إلى الأمّين. لقد كانتا مجرّد امرأتين عاديتين لا علاقة لهما بعالم السحر أو السلطة. لو وصلت الأخبار إلى القرية فسيعلم عنها زعيمها أو الشخص الذي يتكلّف بأمورها. وفي الوقت الحالي، وضع عثمان نفسه كذلك الشخص، لذا علم عن ظهور الأميرة الجديدة، وعن الجنرال الأعلى، ولكنّه لم يكن ليتخيّل أنّهما باسل وأنمار في الواقع.

بلعت الأمّان ريقهما ثم بدأت لطيفة بالتحدّث: "بما أنّك تعلم عن كلّ شيء الآن، فلن أخفي أيّ شيء بعد الآن. نعم، لقد أردت إبعادك عن عائلة كريمزون، أنت وأنمار. لقد اتفقنا على هذا معا حتّى نحميكما."

أكملت من بعدها سميرة: "وفوق كلّ ذلك، لم نعلم إن كانت عائلة كريمزون ستقبل بكما. أنتما طفلا الشخصين اللذين اختارانا على عائلتيهما، وخاناهما. لم نكن سنقوم بالمجازفة بجعلكما تواجهان حياة صعبة حيث تشعران بالنبذ." رفعت سميرة رأسها وحدّقت إلى عينيْ باسل، ومن ثمّ إلى عينيْ أنمار، وواصلت: "أنا لست نادمة أبدا على اختياري ذلك."

أمسكت لطيفة يدها ثم قالت: "ولا أنا."

ابتسم باسل وأنمار آنذاك، فتكلّمت أنمار: "لا تقلقا، فلقد التقينا بالعائلة، وتلقيّنا أفضل المعاملة."

دمعت أعين لطيفة وسميرة عند سماع ذلك، فتابع باسل: "لم نأتِ كي نسأل لماذا خبّأتما عنّا ذلك. أتينا لطلب شيء منكما فقط."

حدّق باسل بجدّية إلى أمّه والعمّة سميرة، ثم قال: "يجب أن تواجها ماضيكما. فكما أنا متأكّد من أنّ عائلة كريمزون مستعدّة تماما للقائكما، آمل أن تكونا كذلك أيضا."

مسحت الاثنتان دموعهما، ثم أجابتا بعد قليل من الوقت استغرقتاه في استرجاع الذكريات: "لكما ذلك. سنواجهه."

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2018/08/21 · 1,085 مشاهدة · 1358 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024