195 – نطاق أرض العالم
وفجأة، امتدّت هالة جعلت كلّ شيء يحسّ بظلام أبديّ يتخلّل قلوبهم وشعروا بأجسادهم تسقط في هاوية لا قعر لها. قارعت تلك الهالة هالة إدريس الحكيم وجعلت الجوّ مشحونا. حتّى أنّ السحب تكاثفت وصعق البرق بينما هدر الرعد. كانت تلك هالة إبلاس.
"أيّها القائد!" فرح الستّة وتذكّروا أنّ قائدهم موجود. لقد كانت هالة إبلاس منافسة لهالة إدريس تماما لوقت محدّد، لكنّها فاقتها حتّى قليلا. كان هذا الصراع قويّا لدرجة جعله الناس في العديد من المدن القريبة يفقدون الوعي، وأجبر السحرة على التقيّؤ بسبب شعورهم بالدوار وثقل تنفّسهم بعدما سقطوا ممدّدين على الأرضيّة.
"حاولوا أن تحافظوا على حياتكم!" عبس إبلاس وأكمل: "لا أعلم إن كنت أستطيع القتال وحمايتكم في نفس الوقت."
علم إبلاس أنّ هناك شيء مختلف هذه المرّة بإدريس الحكيم عن كلّ المرّات السابقة، وخصوصا بحكمته السياديّة التي لم يستطِع أن يرى من خلالها شيئا قطّ. لم يكن واثقا من حماية أتباعه بينما يقاتله.
ارتعد الستة ولم يفكّروا لوقت أطول قبل أن يسرعوا ويبتعدوا آلاف الأميال. فحتّى لو لم تكن مسافة بعيدة على إبلاس وإدريس، كانت كافية لهم للهروب من مدى هجماتهما والتورّط في مجال دمارهما.
وبالطبع، لم يتجرّؤوا أيضا على الاقتراب من المدينة التي حماها إدريس الحكيم، خوفا من أن تكون نهايتهم سريعة دون أن يعلموا كيف ماتوا كما حدث لصاحبهم.
حدّق إدريس الحكيم فجأة إلى قلب المدينة برؤيته السحيقة فرأى باسل وأنمار يخلوان الناس. كان هناك بعض السحرة الذين أحسّوا بالخطر بعدما دُمّرت المصفوفة فابتعدوا عشرات الأميال عن المدينة، لكنّهم علموا أنّ ذلك ليس كافيا لينجوا من هيمنة ذينك الكيانيْن المرعبين.
حدثت الكثير من الأشياء في العالم الواهن التي فتحت عصرا جديدا كالقسم الثاني من مستويات الربط، والإكسيرات، والأسلحة الأثريّة، ولكن كان هذان الكيانان أكثر ممّا يمكن لعقولهم تحمّله.
بدأت الناس تخلو مدينة العصر الجديد بعدما أظهر باسل نفسه كالجنرال الأعلى، وبالطبع ساعده الحارس جون وباقي قوّات المدينة. لقد كانت الإجراءات الاحتياطيّة في حالة ما إذا وقع شيء كهذا مثاليّة، لذا كان الإخلاء سريعا للغاية. تكلّف السحرة بمساعدة السكّان حتّى يغادروا بخفّة كبرى.
*باام* *بووم* *باام*
تفرقع الهواء واختفى إدريس الحكيم وشيطان اليأس وبقي طيفاهما فقط في المكانين اللذين اعتادا على العوم فيه. سُمِعت عدّة ضربات جعلت هدير الرعد لا يُسمع عندما صدى صوتها، وانطلقت شرارات من التلاحمات التي حدثت بين الاثنين امتزجت مع البرق في السماء وسقطت في العديد من الأماكن مخلّفة حفرا من الرماد.
كانت كلّ لكمة منهما تزلزل العالم وتجعل الناس يخافون من مجيء دور انكسار السماء على يد هذين المخلوقين المهولين.
لقد كان كلّ ذلك مجرّد تلاحم جسديّ بين إدريس الحكيم وشيطان اليأس، إلّا أنّ كل لكمة حملت معها وزن جبال وسرعة البرق. كانت هذه بداية القتال المعتادة بين هذين الاثنين؛ لطالما بدآ معركتهما بشحذ جسديهما عن طريق تبادل بعض الضربات.
انهارت العديد من المناطق التي دُعِّمت بالسحر بمدينة العصر الجديد بعدما سقطت عليها تلك الشرارات البرقيّة وانتشرت فيها العواصف المتولّدة من الصدمات الصوتيّة، فما بالك بما حدث للمناطق العادية بالمدينة. لقد أصبحت مدينة العصر الجديد أطلالا في دقائق! وبالطبع حدث نفس الشيء للعديد من المناطق المحيطة.
ولحسن حظّ السكّان أنّهم كانوا قد أخلوا المنطقة القريبة من الضرر الأكبر مسبقا، وكلّ ما كان يهدّد حياتهم قد تصدِّي له من باسل وجميع السحرة الآخرين.
ابتسم إدريس الحكيم بعدما رأى أنّ المدينة قد أصبحت خالية في دقائق بعدما وصل باسل، ورضي عمّا فعله. وبالطبع لم يحتج لقول أيّ شيء لباسل، لأنّ هذا الأخير كان يعلم ما عليه فعله جيّدا. لقد كان ذلك التلاحم الأخير مجرّد قتال جسديّ لا غير، ولم يُستخدم فيه فنونا قتاليّة ولا سحر ولا تقنيات روحيّة. كلّ ذلك كان إشارة للمدى الهائل الذي سيشمله دمار هذه المعركة.
تنفّس باسل الصعداء عندما وجد أمّه والعمّة سميرة. لقد كان هذا أهمّ شيء له في تلك اللحظات الصعبة. كلّ ما فكّر فيه هو سلامتهما ولم يعتبر شيئا آخرَ حتّى تأكّد من صحّتهما وعافيتهما. لقد كانت أمّه بالخصوص سببه في إدخال نفسه في شيء مزعج كتقوية العالم الواهن. لو لم تكن موجودة لما أقلق نفسه بكلّ ذلك وتمتّع بإرضاء فضوله فقط.
كانت الوسيلة الوحيدة المضمونة لإعطاء لوالدته مكانا آمنا للعيش في العالم الواهن هو جعل العالم الواهن آمنا.
بصق إبلاس بعض الدم من فمه ثم مسحه، وحدّق إلى إدريس الحكيم بعينين ضيّقتين: "يبدو أنّني لا أملك ولن أملك فرصة أمامك بالقتال الجسديّ ما حيينا. ما الجحيم الذي مررت به يا حكيم حتّى يصير لديك ذلك الجسد القاسي؟"
كان إدريس الحكيم يلمع بضوء فضّيّ كعادته، ولم يكن هناك خدش واحد عليه. ابتسم بتكلّف وأجاب: "مجرّد تدريبات خفيفة يا إبلاس، لا يمكنها أن تُعتبَر من طرفك حتّى."
كان إدريس الحكيم يستخدم حكمته السياديّة، لذا كانت كلّ كلمة منه تبدو حقيقة مطلقة، فلم يستطع إبلاس الرؤية عبره حتّى بعينيْ حقيقته، ولكن حتّى بدون الحاجة لاستخدام عينيه في هذه اللحظات كان يعلم تماما أنّ إدريس الحكيم كان يلاعبه فقط. لقد كان هذا شيء خاص بينهما دائما. كانا عدوّيْن لدوديْن، ولكن بما أنّهما لم يختما نتيجة معاركهما قطّ أصبحا يتعلّمان من بعضهما بعضا كصديقين متنافسين. كانت علاقتهما نادرة للغاية.
أزاح شيطان اليأس نظره عن إدريس الحكيم، ثم نظر بعينيه اللتين تستطيعان كشف ما ستره الكفّ إلى عشرات الأميال بعيدا. كان يحدّق بالضبط إلى شخص ما كان يهرب مع الناس، أو يجب القول كان يقودهم. وبالطبع كان هذا الشخص هو باسل.
ابتسم إبلاس ثم نظر إلى إدريس الحكيم بينما يقول: "لقد كنت ترمي بعض النظرات إلى ذلك الاتّجاه لذا تساءلت عمّا يثير انتباهك أثناء تبادلنا الضربات، ولكن... أنت يا قاسي الرأس صعب المراس علّمت شخصا من العالم الواهن؟!" وضع يده بعد ذلك على وجهه، فظهر من بين أصابعه تلك الابتسامة التي كان يحاول إخفاءها. لقد كانت تلك عادة به.
قطب إدريس الحكيم بعدما علم إبلاس عن هذا الأمر.
ضحك شيطان اليأس بصوت مرتفع أخيرا بعدما أزال يده. رفع ذراعيه إلى الأعلى وقال بصوت مرتفع: "حسنا، حسنا. الآن هذا جيّد، فعلا جيّد."
"لا تحاول القيام بشيء غريب يا إبلاس!" أسرع إدريس الحكيم في التكلّم: "أنت تعلم..."
"غريب؟!" قاطعه إبلاس فجأة مواصلا حديثه بصوت مرتفع: "أيّ غرابة تتحدّث عنها يا تُرى؟ أو لستُ أتصرّف كعادتي؟ هذا هو أنا يا حكيم. لا تنسَ، حتّى لو كنت تعطيني متعة مختلفة، فلن تقترب أبدا من تلك التي أناشدها منك."
"مسَّ منه شعرة وسأسلخ من أقربائك عشرة!" تحدّث إدريس الحكيم بتجهّم يعتلي محياه. امتدّت نيّة قتله طولا وعرضا فجعلت الناس تعتقد أنّ وحشا من جحيم ما قد اجتاح عالمهم الفاني هذا. أكمل بنفس الوتيرة: "لا تكن جشعا كي لا تلقى مصيرا بشعا!"
"هاهاها!" ضحك إبلاس بصوت عال من جديد وقال: "تهدّدني؟ أنا يا حكيم؟ لا أكون جشعا؟ ومتى كنت قانعا؟ إنّك تطلب الكثير. لقد حرمتني من رؤية النظرة التي أريد على محياك طيلة ألف سنة، فكيف تريدني أن أضبط نفسي. هاهاها!"
"اليوم، إنّه اليوم. لا، بل الآن." ارتعش جسد إبلاس من الحماس، ثم التفت بسرعة مرعبة واخترق بصره 'باسلا' كاشفا كلّ شيء.
*انكسار*
تشقّق الهواء فجأة كقطعة زجاج، فاختفى إبلاس في نفس الوقت. لقد استخدم فنّه القتاليّ في تلك اللحظة، وعلى ما يبدو، فقد كان يشبه فنّ هدّام الضروس القتاليّ.
وبالطبع، لم يفت ذلك إدريس الحكيم الذي رأى برؤيته السحيقة نوايا إبلاس، وبتحليله الشامل جهّز أفضل طريقة لمقاومة ذلك، وبتحكّمه السليم طبّق كلّ ذلك.
*ززن*
اختفى إدريس الحكيم في نفس الوقت بعدما خلّف صوتا يشبه صوت تقاطع سيفين، وظهر مرّة أخرى فوق باسل بمئات الأمتار. كانت سرعته كبيرة للغاية ففاق إبلاس بكلّ سهولة واعترض طريقه. كان إبلاس في هذه الأثناء أمامه ببعد عشرات الأمتار.
أرجع إدريس الحكيم ذراعه إلى الوراء استعداد للّكم، ثم أطلق ضربة صاحبها عاصفة وهدير رعد أرعب الناس.
أرسِل إبلاس محلّقا عدّة أميال مصطدما بعد ذلك بالخراب الذي اعتاد أن يكون مدينة العصر الجديد. لقد كانت تلك ضربة مدمّرة بشكل لا يصدّق. فلو كان هناك حاكم أو ملك روحيّيْن أمامها لشعرا بالوهن والعجز الكلّيّيْن، ولم يكن ليتبقى منهما عظما إلّا وتحوّل إلى غبار بداخل جسميهما المفرومين.
ومع ذلك، انبثق شيطان اليأس من الغبار كوميض ضوئيّ كما لو لم يحدث له شيء. كان على ما يرام، حتّى أنّ تعبيراته كانت مشرقة. كان مزاجه جيّدا كثيرا أكثر من أيّ وقت مضى.
أكمل باسل والآخرون الهرب دون التوقّف. تأكّد بعض الأشخاص أخيرا أنّه عليهم الهروب بعيدا بمئات آلاف الأميال إن أرادوا أن ينجو من آثار دمار هذه المعركة.
تحدّث إدريس الحكيم آنذاك بنظرات عازمة: "أنا أقسم لك يا إبلاس، لو مسسته بأيّ شرّ، لأقتلنّك حتّى لو كان الثمن روحي."
"هاهاها!" ضحك شيطان اليأس مرّة أخرى متمتّعا: "نعم. تلك النظرات هي بداية متعتي. أتشوّق لرؤية تغيّرها."
نظر إلى باسل البعيد ثم قال: "سيكون فتاك فاخر غيورا يا حكيم لو رأى ما تفعله من أجل هذا الفتى." أكمل ضحكه ثم واصل كلامه بعد ذلك: "هناك أمر يشغل بالي. أصبحت أريد أن أعرف هل كان هذا الفتى أم أنت من قتل فتاي."
صمت إدريس الحكيم ولم يجبه.
لوّح إبلاس يده قائلا: "لا، لا تحتاج للإجابة حتّى. لقد كان من الغريب أصلا تدخّلك وقتلك مجرّد ساحر. لابدّ وأنّك تركت هذا الفتى يتعامل معه. يبدو أنّه يستعمل خطوات الرياح الخفيفة، ويبدو أنّ هناك شيء غريب يحدث في بحر روحه. هذا مثير، مثير للغاية. لربّما يكون أحد ألغاز العالم التي لطالما حيّرتني."
عبس إدريس الحكيم عندما سمع ذلك. لقد كان ذلك بسبب أنّ إبلاس قال شيئا آخر غير رغبته في استعمال باسل في صالحه ضدّه. لقد أراد شيطان اليأس أن يرى اليأس في وجهه، لذا أراد أن يستخدم باسل، لكنّه الآن أبدى اهتماما لما يحدث مع باسل وربطه بألغاز ما.
شكّ إدريس الحكيم في ما إذا كان إبلاس يعلم شيئا عن حالة باسل، لذا ازداد قلقه أكثر؛ فبذلك ستكون رغبة إبلاس بباسل أشدّ. لطالما كان التعامل مع هوسه صعبا، لكنّه الآن سيصير أصعب.
لم يجرؤ إدريس الحكيم على التفكير لثانية أخرى، ففعّل طاقته الروحيّة، وإذا بأرض واسعة يمكنها حمل السماء وتغطية العالم تظهر تحته مباشرة. لقد كانت حمراء كثيرا كما لو أنّها اعتادت أن تكون ساحة قتال سُفِكت فيها دماء الملايين. كانت هذه الأرض واسعة كأرض إمبراطوريّة ما بشسوعها، وغطّت جزءا كبيرا من العالم الواهن في لحظة.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ؛ انبثقت أعشاب وأزهار في الأرض الواسعة فجأة فبدت حيّة للغاية ووفيرة بالطاقة الروحيّة. بدت كأنّها أرض عالم عميقة مباركة تحمل كمّا هائلا من جوهر طاقة العالم. كان بها نبع طاقة روحيّة متّصل بجذر شجرة لم تنبت بعد تعمّق إلى نهايتها ممّا جعلها تكسب قوّة عظيمة، وتمركزها جوهر روحيّ بدا كأنّه الروح نفسها.
عبس إبلاس عندما رأى هذه الأرض الواسعة ونطق: "نطاق أرض العالم!" ابتسم بتكلّف ثم أكمل: "حسنا، حسنا. هذا غير متوقّع نظرا لموهبته الميّتة. يبدو أنّ الحكمة السياديّة تغيّر الشخص حقّا."
لم يتوقّف دور الحكمة السياديّة في جعل مظهر إدريس الحكيم لوحده متخفّيّا، بل جعلت مستواه غير معروف لأشخاص يفوقونه بمستويات مرتفعة كثيرا أيضا. لم يستطع شيطان اليأس رؤية هذه الحقيقة حتّى بعينيْ حقيقته.
جعلت هذه الأرض الواسعة العالمَ الواهنَ مظلّلا للحظات، قبل أن تختفي مرّة أخرى. وللدقّة، لم تختفِ وإنّما تحوّلت، أو يجب القول اندمجت مع رمح خشبيّ كان بيد إدريس الحكيم. صار الرمح الخشبيّ بعد ذلك مشعّا، وأصبح أحمرا، وبدا كما لو أنّه صار ثقيلا بوزن تلك الأرض الواسعة، وغنيّا بطاقتها، ومدعّما بقوّتها.
لقد كان ذلك سلاح إدريس الحكيم الروحيّ.
من تأليف Yukio HTM
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.