203 - البيضة المشعّة والحدث الغريب

203 – البيضة المشعّة والحدث الغريب

كلّ ما تبقّى من إدريس الحكيم، أو ما دلّ على وجوده على الأقلّ، كان ذلك الضوء الذي أحاط بباسل من جميع الجهات فغلّفه حتّى أصبح لا يُرى من الخارج. كان ذلك الضوء كشعلة حياة حملت معها خبرات لا تُعدّ ولا تُحصى، لقد كانت تمثّل حياة إدريس الحكيم نفسها في الواقع، بكلّ شيء مرّت به من عقبات وانعطافات، إلّا أنّه بدا أنّها حملت معها حيوات عديدة، وكلّ واحدة منها حملت معها خبراتها أيضا.

أصبح شكل الضوء كبيضة ضوء يقع باسل بداخلها كجنين يتغذى ببطء شديد على كلّ المغذّيات ويستفيد من جميع مزاياها، وأثناء ذلك كان ضوء البيضة يطلق أشعّة في جميع الاتجاهات. كانت تلك العمليّة التي قام بها إدريس الحكيم مستعصية للغاية كونها شيء يتحدّى إرادة أرض الوهب والسلب العتيقة؛ لقد كانت شيئا استحقّ أن يُمسح من الوجود من أجله.

كانت أرض الوهب والسلب العتيقة أرضا تمنح هبة ما لأولئك الذين ينجحون في الاختبار، لكنّها كانت تسلب أولئك الذين يفشلون فيه. قليل القليل من تجرّأ وتقدّم حتّى يمرّ بذلك الاختبار الذي كانت نسبة النجاح فيه أقلّ من نسبة النجاح في بلوغ مستويات السلطنة.

وحاليا، كان باسل يكسب شيئا لا يجب على المرء اكتسابه إلّا عن طريق واحد ألا وهو الاختبار الذي تضعه، فكان هذا أمرا فريدا في كلّ الأزمان بأيّ مكان. لم يحدث مثل هذا الشيء قطّ على مرّ العصور؛ فلا أحد تجرّأ على خيانة أرض الوهب والسلب العتيقة، أو واتته نفسه أن يعرّض روحه لشيء مجهول تماما.

بعد دقائق، تحرّك شخص من بين الغائبين عن الوعي وتقدّم إلى البيضة المشعّة فحاول لمسها، لكنّ جسمه ارتدّ لمئات الأمتار بشكل عنيف واصطدم بجبل فتقيّأ الدماء بكثرة. كان هذا الشخص هو أنمار التي ارتدّت بعض الصور في عقلها في الوقت الذي اصطدم فيه رأسها بالأرض.

رأت صورة إدريس الحكيم والكلمات التي قالها قبل أن يختفي تماما؛ كانت قد أصبحت واعية على ما يبدو في ذلك الوقت واستطاعت أن ترى وتسمع كلّ كلمات معلّمها الأخيرة. وقفت مرّة أخرى وقطعت خطوة تلو الأخرى بينما تُزامن كلّ واحدة منها دمعةٌ كانت تسقط من إحدى عينيها في كلّ مرّة.

كانت هناك وحيدة وسط تلك الأرض القاحلة بينما تقترب من البيضة المشعّة التي لم تصدر صوتا هي الأخرى. كان الهدوء قاتلا في هذه الأثناء بشكل يجعل المرء لا يصدّق أنّه كان هناك زلازل بعدد مرعب قد حدثت انطلاقا من هذا المكان الميّت.

حاولت أنمار مرارا وتكرارا لمس البيضة المشعّة من أجل أن تلمس باسل، إلّا أنّها أُرسِلت محلّقة مرّات أخريات فقط. كانت محاولاتها عقيمة، وحتّى بعد مرور وقت طويل كان الحال نفسه.

استيقظ الناس في المناطق المجاورة بعد مرور ساعات بينما يحاولون مجاراة ما حدث بعقولهم الصغيرة التي لم ولن تقدر أبدا على استيعاب ما وقع. لقد كان كلّ شيء يفوق أكثر تخيّلاتهم جموحا.

اقترب الحارس جون مع بعض الجنود من أنمار بعدما رأوها ما تزال تحاول الاقتراب من البيضة المشعّة التي سبّبت لها كلّ تلك الجروح البليغة والدماء التي غطّت كامل جسدها حتّى أصبح شعرها الذهبيّ أكثر حمرة وميولا للبرتقالي بعدما امتزج بالدم الأحمر.

كانت تريد لمس باسل ورؤيته في أقرب وقت ممكن، أرادت أن تشاركه المعاناة التي مرّ بها، أرادت أن تحزن معه على معلّمهما، أرادت أن تكون معه.

"سيدتي الصغيرة... أرجوك كفاك... إنّ سيّدنا باسل لم يكن ليريد أن يراك هكذا... هذا كثير."

وبالرغم من كلام الحارس جون، إلّا أنّها لم تهتمّ، أو كما بدا.. لم تسمعه، وظلّت رؤيتها مركّزة على بيضة الضوء تلك فقط.

"ساعدوني على إيقافها!"

صرخ الحارس جون آمرا الجنود خلفه ثمّ تقدّموا كلّهم مرّة واحدة ووقفوا في طريق أنمار، ولكنّها تقدّمت إلى الأمام كما لو لم يكن أمامها شيء، وعندما اصطدمت أخيرا بجسد الحارس جون، أدركت فقط أنّ هناك شيء يمنعها من التقدّم، لذا شحنت ما لديها من طاقة سحريّة وفعّلت فنّها القتاليّ ثم صرخت: "لا شيء يمنعني من مقابلة رجلي!"

وعندما كانت ستطلق هجوما كان سيقتل كلّ من أمامها، ظهرت لطيفة وسميرة فجأة وراءها وقبضتا يديها بينما تقولان: "سيكون بخير يا أنمار، ارتاحي فباسل لن يريدك هكذا."

هدأت أنمار بعدما سمعت ذينك الصوتين المألوفين وعادت إلى رشدها أخيرا. بصرت من كان أمامها ثمّ نظرت إلى أمّها وعمّتها لطيفة قبل أن تسقط في حضنهما بينما تبكي.

كانت حزينة للغاية على فقدان معلّمهما، ولم ترد شيئا آخر في هذه الأثناء سوى الكون مع باسل حتّى يتشاركا نفس المشاعر والأحاسيس التي لم يكن هناك شخص في هذا العالم يمكن أن يفهمها. لقد كان إدريس الحكيم أبا لهما أكثر من معلّم، علّمهما السحر وكلّ شيء متعلّق به، لكنّه أيضا ربّاهما وحماهما وراقبهما كوالدهما. لقد كانت معزّته لا توصف في قلبيهما.

حدّق الحارس جون إلى المشهد أمامه ثم وجّه نظره إلى البيضة المشعّة وتحسّر؛ أراد أن يقول شيئا لكنّه لم يعلم ماذا ينطق، وفي النهاية سأل فقط: "ما الذي يحدث لسيّدنا؟ هل سنراه مرّة أخرى؟"

حدّقت أنمار إلى بيضة الضوء ثم نظرت إلى الأرض وقالت: "لا أعلم، لكنّني أعلم أنّه شيء في مصلحته فقط. سيكون علينا أن نصبر إلى أن يحين موعد عودته."

كانت أنمار تعلم أنّ معلّمهما قد فعل شيئا لباسل في آخر اللحظات من أجل إنقاذه، لذا كانت واثقة من نجاحه. لقد ضحّى إدريس الحكيم بحياته من أجل تحقيق ذلك ولم يكن هناك مجال للفشل.

نظر الحارس جون إلى الأرجاء حوله ثمّ أمر الجنود: "ساعدوا الناس وعالجوا كلّ مصاب وخفّفوا عنهم بأيّ طريقة."

"حاضر!"

التفت بعد ذلك إلى أنمار ثم قال: "يا سيّدتي الصغيرة، بعدما رأيناك سابقا، لا أظنّه بوسعنا نقل سيّدنا باسل في وضعه الحالي من ذلك المكان، لذا سنخيّم هنا حتّى يعود إلينا. أين تريدين أن نضع خيمتكن؟"

حدّقت أنمار إلى أمّها ولطيفة ثم أجابت مباشرة: "خيمتنا ستكون هي نفسها خيمة باسل."

"سمعا وطاعة!" أجابها الحارس جون مبتسما ثم غادر ليبدأ عمله.

شربت أنمار إكسير العلاج وتكلّمت مع الكبير أكاغي عبر خاتم التخاطر عن كلّ ما حدث، وأعلمته بحالة باسل الحالية فأخبرها بقدومه العاجل، وليس هو فقط، بل جميع رؤساء العائلات الكبرى من الإمبراطوريّات الثلاث وكلّ شخصيّة مهمّة قد أتوا. لقد كان الأمر متعلّقا ببطل البحر القرمزيّ، لذا كان كلّ شخص مهمّ بهذا العالم مهتمّا.

مرّ اليوم الأوّل، وكان باسل على نفس الحال بداخل البيضة المشعّة.

ثمّ اليوم الثاني، الثالث... أسبوع... أسبوعين... لا شيء تغيّر.

حضر الأباطرة الثلاث وعلموا عن الوضع جيّدا، وتعجبّوا لحال باسل لمّا رأوه فلم يفقهوا شيئا. حاول العديد منهم حلّ لغز تلك البيضة المشعّة إلّا أنّهم تعرّضوا للرّفض التام منها وظلّ غموضها مبهما كما كان.

كان جميع الأشخاص الذين التقوا بباسل حزينين على وضعه ذاك، مرتقبين لحظة عودته فقط، عاجزين عن فعل شيء آخر.

مرّ شهر، فتبعه الثاني والثالث... ولا شيء تغيّر.

رُمِّمت الأرض القاحلة حتّى بدأت الروح تعود إليها، وشُيِّدت المباني فيها من جديد، وبدأت مدينة العصر الجديد تعود شيئا فشيئا إلى سابق عهدها. كانت تلك فكرة التشكيل، إذ ظنّوا أنّه سيكون من الجيّد رؤية المدينة مزدهرة كما يجب أن تكون بعد الاستيقاظ من نوم عميق.

كانت أنمار في مبنى بُنِي على تلك البيضة المشعّة، منتظرة باسل على نفس الحال. لم تأكل ولم تشرب قطّ طيلة المدّة الماضية واعتمدت على طاقة العالم في تغذية نفسها فقط. اختلط حزنها على معلّمها مع فقدانها لباسل كلّ هذه المدّة فجعلها تصوم الأكل والشرب، والكلام أيضا، إذ كان طلبها من الحارس جون قبل ثلاثة أشهر الشيءَ الأخير الذي قالته حتّى الآن.

مرّ نصف عامٍ، وهدأت قلوب الناس أخيرا بعد اختبار تلك الزلازل التي زعزعت أرواحهم وزرعت الرعب فيها.

كان حال باسل هو نفسه، كما كان حال أنمار التي تنتظره. حاولت أمّها وأمّ باسل التخفيف عنها، ولكن لم يكن هناك شيء يستطيع تحقيق ذلك غير لقائها بباسل.

كانت بعض الشخصيات المهمّة تزور باسل من حين إلى آخر، ولكن بعد مدّة نقُصت تلك الزيارات وكانت لطيفة وسميرة وأتباع باسل القريبين هم الوحيدين الذين داوموا على زيارته يوميّا، أمّا أنمار فكانت معه في كلّ لحظة.

كانت ستّة أشهر طويلة للغاية، ولم يسبق لأنمار أن عانت نفسيّا لهذه الدرجة لكلّ هذه المدّة. بدأت الشكوك تراود قلبها القلِق، لكنّها دائما ما تخمدها بثقتها في معلّمهما؛ مهما تأخّر الأمر فسيعود لا محالة؛ إنّه صنع معلّمنا؛ الأفضل؛ كلّ تلك الأفكار جعلتها تصبر وتصبر ثم تصبر مرارا وتكرارا حتّى تجتاز هذه الفترة العصيبة.

وفي يوم من أحد تلك الأيّام، وبعدما سكن العالم الواهن أخيرا، حدث شيء جعل النيام يستيقظون والواعين يهلعون والشجعان يخضعون. أمام أعين كلّ شخص انشقّت السماء لنصفين على مداها كلّه، ثم انشقّت إلى أربع بعد ذلك، وبعد لحظات أصبحت الشقوق لا تُحصى وامتدّت عبر السماء كلّها.

أصبحت السماء كزجاجة متصدّعة بشكل كبير، وأيّ لمسة من أيّ شخص كانت لتسقطها شتاتا. وفي الوقت الذي كان فيه كلّ شخص مرتعد من حدوث ذلك الأمر، تزلزل العالم عدّة زلازل مرّة واحدة كما لو كان ينقلب رأسا على عقب حرفيّا، فانكسرت السماء بصوت جعل العالم الواهن بأكمله يهتزّ وتصدى فيه كلمة واحدة رسخت في قلب السامع والأصمّ على حدّ سواء.

"ختم!"

بعدما حدث هذا الأمر، لم تسقط السماء ولا شيء، فقط استمرّت الزلازل حتّى هدأت بعد يوم كامل من الاهتزازات المتواصلة. كان ذلك الحدث غريبا للغاية ولم يعلم أحد ما حدث بالضبط، إلّا أنّه بعد سماع تلك الكلمة، أحسّ كلّ شخص بالرغبة في الخضوع إلى صاحبها والمثول أمامه من أجل تلبية كلّ طلباته. كانت تلك كلمة أتت من سلطان أمكنه حكم أيّ مكان في أيّ زمان.

تساءل الناس عمّا حدث في الأيّام القادمة لمدّة طويلة، وكثُرت الإشاعات والتخمينات عن مصدره. كان هناك من قال أنّه مخلوق سامٍ قد صبّ غضبه على العالم الواهن، وهناك من قال أنّه تحذير من الشياطين، وهناك من قال أنّها عقاب من الخالق، وهناك من قال أنّها حادثة طبيعيّة لسبب ما.

اختلفت الآراء ولكن ولا واحد استطاع نسيان تلك الكلمة التي انتقلت عبر نيّة سامية، ولم يستطيعوا فهم المعنى وراءها.

وبين كلّ هذا، كانت البيضة المشعّة على نفس حالها. كان باسل لا يزال بداخلها بينما يمرّ بعمليّات مختلفة لا يعلم أحد عن ماهيّتها سوى الخالق.

مرّ وقت طويل حقّا، حتّى كان عاما، إلّا أنّ باسل ما زال لم يظهر بعد.

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/01/22 · 1,071 مشاهدة · 1562 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024