204 – ولادة جديدة

كان حال أنمار سيّئا نفسيّا للغاية، إذ لم تنطق حرفا لمدّة سنة كاملة، وصامت كلّ شيء إلّا ما يكفي من طاقة العالم حتّى تبقى على قيد الحياة. لقد كانت ظاهرة باسل فريدة للغاية ولم يعلم أحد كم ستدوم، فعام أصلا كان أكثر من كافٍ للعديد حتّى يبدؤون يؤمنون بحقيقة أنّه قد لا يعود أبدا، ولكن أنمار ظلّت ليلا نهارا تراقبه دون راحة.

حتّى بالنسبة لساحر في مستواها كان عدم النوم لكلّ هذه المدّة شيئا مذهلا للغاية ويتطلّب إصرارا عظيما، فالنوم بالأصل غريزة لا يمكن مقاومتها إلّا عن طريق قوّة إرادة كبيرة، فما بالك بصومه أيضا لمدّة سنة كاملة.

تعجّب الناس من حال باسل، لكنّهم كانوا مذهولين من حالها بنفس الدرجة أيضا. كان هناك العديد من الأشخاص الذين قدّروا ولاءها الذي لن تجده إلّا بعد بحث قد لا يكفي عمر واحد له، وتمنّى الكثير لو كانت هناك ملاك حارس مثلها يراقبهم دائما ويهتمّ بهم أكثر من نفسه.

لو أثبت هذا شيئا ما، فهو تخمين إدريس الحكيم حينما قرّر تعليمها بجانب باسل كونها ستكون رفيقة مساره الروحيّ الدائمة، إذ كان حبّها له حقّا يستطيع تجاوز آلاف السنين واختراق العوالم بالرغم من أنّها صغيرة. فمهما يمرّ من الزمن، له تكن خير العون، ومهما يفرقهما المكان، تبلغه قبل فوات الأوان.

لقد فعلت الكثير من أجله، ومعزّتها له كانت كبيرة للغاية، فلم يجد باسل خيارا آخر سوى تناسي كلّ شيء يمكن أن يخرّب ذلك الانجذاب الذي بينهما. لقد كانت أنمار تستحقّ بكلّ جدارة وبالرغم من أنّه تجاهلها لحوالي خمس سنوات، إلّا أنها لم تيأس قطّ وواظبت على ملاحقتها له حتّى كسبته من جديد.

كلّ شخص كان ليرجو وجود مثل هذا الشخص في حياتهم، لذا كلّ من رآها على تلك الحال احترمها بشدّة وقدّرها لدرجة كبيرة في قلبه وتمنوّا من قلوبهم أن يعود باسل لها.

في أحد الأيّام، ظهر ضيف مألوف نوعا ما لأخوي القطع، وبمجرّد ما أن رياه حتّى رميا بنفسيهما عليه كما لو أنّهما نمران جائعان قد وجدا فريسة أخيرا. كانت عيناهما حمراوين للغاية وحتّى أنّهما فعّلا طاقتهما السحريّة إلى أن بلغت أوجها من أجل قمع ذلك الشخص.

دفعاه على الأرض ولم يتركاه يهرب قطّ، لكنّ ذلك الشخص لم يقاوم وربّت على ظهرهما بينما يبتسم بلطف بوجهه الطفوليّ ذاك، ثم قال بصوت مختنق: "هيّا ابتعدا عنّي، كفّا عن هذا، لن أهرب إلى أيّ مكان، لم أكن سآتي إلى هنا على أيّ حال إن كنت سأهرب."

حدّقا إليه كما لو كانا لا يثقان به، لكنّه حافظ على ابتسامته اللطيفة تلك حتّى اقتنعا أخيرا فنهضا وتركاه يقف أخيرا. نفض الغبار من على جسده بينما يتمتم: "حقّا يا له من إزعاج هذا الذي ورّطت فيه نفسي، حقّا يجب ان أصلح من عادتي الغبيّة تلك."

كان هذا الشخص هو أوبنهايمر فرانكنشتاين، العالم المجنون.

لقد كان يقصد بكلامه الأخير ذلك الاتّفاق الذي عقده مع إدريس الحكيم، وعندما اختفى هذا الأخير من الوجود، أحسّ هو أيضا بذلك، إلّا أنّه ما جعله يستغرب لم يكن ذلك، فهو لم يكن يهتمّ في الواقع إذا مات إدريس الحكيم أم عاش، لقد كان استمراريّة ذلك الاتفاق الذي يقيّد روحه ما جعله يتعجّب.

"في ذلك الوقت، كنت متحمّسا لكلّ تلك المعرفة التي ملكها ذلك العجوز، ولم أهتمّ بالثمن الذي يجب عليّ دفعه، ولكن بالتفكير في الأمر ثانية... آآه حقّا هذا ألم في المؤخّرة."

كان يشتم ويتذمّر دون توقّف لسبب ما فترك الاثنين مستغربين. قبضاه من يديه ثم جرّاه دون نطق أيّ كلمة، فأوقفهما وقال: "لقد قلت لكما لا حاجة لكلّ هذا. أنا أعلم ما حاجتكما بي، وهذا أنا ذا أعْلِمْكما أنّها الغرض من مجيئي أصلا. هيّا أزيحا يديكما قبل أن أبترهما." ابتسم في نهاية كلامه كما لو أنّه يمازحهما، إلّا أنّ كلامه حمل نيّة شرسة يمكنها زرع الفزع في القلوب بسهولة.

لم يشعر أخوا القطع حتّى وجدا نفسيهما قد ابتعدا عنه عدّة أمتار، فتنهّد بعد رؤيتهما كذلك وقال: "أخيرا بعض المساحة. حافظا على هذه المسافة وتقدّما أمامي، فأنا لا أحبّ البشر كما يبدو عليّ."

صعدت القشعريرة مع جسديهما فحمدا ربّهما على بقائهما على قيد الحياة حتّى الآن بعدما اقتربا منه بتلك الطريقة وإلى تلك الدرجة. لقد كان سبب تلك القشعريرة هذه المرّة مختلفا عن السابق، لم تكن هذه المرّة نيّته ولا هالته أو شيء من هذا القبيل، لقد كان فقط تعبير وجهه. بدا لوهلة كما لو أنّ شيطانا ما قد استحوذ على طفل ما فصنع من خلال وجهه الطفوليّ تعبيرات شيطانيّة لم يكن أحد ليتوقّعها.

تحرّك الاثنان وحاولا مجاراة ما يقوله للآن فقاداه إلى حيث تقع البيضة المشعّة، حيث يوجد باسل. وفي طريقهما التفت كاي ثم تساءل: "كيف لا تحبّ البشر وأنت منهم؟ أتكره نفسك أيضا؟"

"كوكوكو." ضحك الشابّ بوجهه الطفوليّ ضحكة ساخرة ثمّ قال: "أكره نفسي؟ هذا محال. أنا أحب نفسي أكثر من أيّ شيء آخر في هذا الوجود. أنا فقط لا أعدّ نفسي بشريّا."

"ها؟" تفاجأ الاثنان من هذا الردّ ولم يريدا أن يتحدّثا مع هذا المجنون أكثر من ذلك فأكملا بقيّة الطريق بصمت.

استأذنا قبل أن يدخلا، فوجدا أنمار جالسة في غرفة أمام البيضة المشعّة كالعادة، فتكلّم الأخ الأكبر غايرو: "يا سيدتي الصغيرة، لقد أحضرنا شخصا قد يقدّم مساعدة ما."

حدّقت إليه أنمار ثمّ أرجعت نظرها إلى بيضة الضوء من جديد كما لو كانت لا تهتمّ. لقد حاول العديد من الأشخاص فعل شيء ما لكن لا أحد نجح في تغيير شيء.

دخل أوبنهايمر فرانكنشتاين فرمق أنمار لقليل من الوقت قبل أن يتقدّم إلى البيضة المشعّة، ثمّ حدّق إليها لوقت طويل دون أن يرمش قطّ بالرغم من تلك الأضواء التي تجعل الشخص يغمض عينيه رغما عنه.

"هذا...!" تفاجأ الشابّ ثمّ جنّ جنونه فجأة ورمى بنفسه على البيضة المشعّة: "يا له من عجب!"

*بااام*

ارتدّ جسده فحلّق آلاف الأمتار بعيدا واصطدم بعدّة مباني حتّى ارتطم بصخرة ضخمة فشتّتها، فكان جسده محترقا ومليئا بالجروح العميقة.

شاهد أخوا القطع ما حدث وفهما لمَ مُنِع على الشخص لمس تلك البيضة المشعّة. لقد سمعوا بما حدث لأنمار، لكنّه لم يكن بهذه الشدّة. وبالطبع كان ذلك شيئا طبيعيّا لأنّ أنمار كانت تحاول لمس تلك البيضة فقط وذلك ما حدث لها، أمّا أوبنهايمر فرانكنشتاين فقد رمى بنفسه عليها.

نهض بينما لا يزال يحمل نظراته المتحمّسة تلك، ثمّ حدّق إلى البيضة المشعّة واختفى في لمح البصر قبل أن يظهر من جديد أمامها، فصرّح: "هكذا هو الأمر، إنّه حقّا لجنين ينمو داخل بيضة محميّة."

انذهل الاثنان من سرعته المرعبة وهدوئه رغم تلك الجراح التي تغطّي جسمه، وجعل أنمار تُظهر تعبيرا آخر أخيرا بعد سنة كاملة من الجمود، إذ عبست وأبدت اهتماما. لقد كان ذلك التصريح شيئا جديدا عليها ولم تفهم ما الذي يقصده بذلك، فحملقت إليه وانتظرته يكمل كلامه.

أحسّ أوبنهايمر فرانكنشتاين بنظراتها الشرسة ثم أكمل: "لا أعلم الكيفيّة التي يحدث بها ذلك، ولا المدّة التي سيأخذها مثل هذا العجب، ولكن ما أعلمه أنّ ذلك المز... السيّد باسل ينمو بطريقة ما داخل هذه البيضة. باختصار، يمكنكم القول أنّه عندما يظهر، فستكون تلك ولادة جديدة له."

نظر أخوا القطع إليه بوجه مستاء وفكّرا في نفس الشيء: "ألم يكن سيقول 'ذلك المزعج' للتوّ؟ هذا الشخص..."

وبالنسبة لأنمار، لم يكن ذلك مهمّا إطلاقا وركّزت فقط على كلامه، إلّا أنّها لا تزال غير مقتنعة بما قاله ونظرت إليه بحدّة أكبر جاعلة إيّاه يتنهّد.

أكمل بعد ذلك: "حسنا، حسنا. لك السبب في تفكيري بذلك. أنا أعلم أنّني تحمّست لدرجة كبيرة ورميت بنفسي على هذه البيضة، لكنّ ذلك كان لسبب في الواقع وليس مجرّد غباوة منّي."

نظر إليه الأخوان بوجه خال من التعابير وفكّرا مرّة أخرى في نفس الشيء: "لا، لقد فقدت رشدك قبل قليل يا هذا."

واصل شرحه: "لقد رميت بنفسي كذلك حتّى أتأكّد من شيء توجّب عليّ تحسّسه جيّدا. طيلة هذا الوقت، تعاملت مع الروح بطرق عدّة حتّى صرت أفهمها لدرجة كبيرة، وخصوصا بعد التقائي بذلك العجوز، ولهذا يمكنني الجزم، هذه البيضة عبارة عن شيء مشابه للروح لكنّها ليست روحا، ويحمل معه أشياء كثيرة لا أعلم ماهيتها. لكنّني أعلم أنّها كلّها تعمل كتغذية لذلك الـ... للسيّد باسل."

فكّر بعد ذلك في شيء ما لم يخبرهم به: "حسن، هناك سبب آخر وهو الاتفاق الذي عقدته مع ذلك العجوز. أنا أفهم الآن لمَ ما يزال قائما بالرغم من أنّني علمت أنّه مات. يا له من عجب."

أكمل كلامه مع نفسه: "والآن بعدما تأكّدت ممّا جعل الاتفاق يسري حتّى بعد اختفاء روح العجوز، لا أظنّ أنّه تبقّى لي ما أفعله هنا، ومن الأفضل المغادرة قبل أن يستيقظ ذلك المزعج" التفت ونظر إلى أنمار فوجدها قد اقتنعت بكلامه وتفسيره، لذا استدار وهمّ بالمغادرة.

"انتظر..." تكلّم غايرو فجأة بينما يصنع تعبيرا مصدوما من شيء ما.

عبس أوبنهايمر فرانكنشتاين بسبب ذلك والتفت إليه: "أوّل شيء، لا تتحدّث معي بصيغة الأمر تلك وحاول إضافة صيغة الطلب إليها، وثانيا، كن متأكّدا من أنّ انتظاري لك يستحقّ، وثالثا، اعلم أنّك إذا لم تطبّق هذين الشيئين الاثنين مرّة أخرى فلن تجد رأسك مكانه."

ابتسم أوبنهايمر فرانكنشتاين في نهاية كلامه تلك الابتسامة الطفوليّة البريئة بينما يحدّق إليه بعينيه اللتين لا تجاريان تلك الابتسامة إطلاقا إذْ ظلّتا جامدتين حتّى شوّش عقل غايرو بتعبيراته غير المتناسقة تلك.

بلع غايرو ريقه ثمّ ندم على فعله هذا، لكنّه تشجّع وسأل: "كيف؟ أين كلّ تلك الحروق والجروح العميقة التي كانت تغطّي جسدك؟"

فتح كاي عينيه على مصراعيهما من الدهشة أخيرا بينما ظلّت أنمار هادئة كونها قد لاحظت ذلك بالفعل. لقد كان جسد أوبنهايمر فرانكنشتاين مغطّى بالدماء، لكنّها كانت دماء فقط وكلّ الجروح قد سبق والتأمت كما لو أنّها لم تحدث أصلا، وجميع الحروق شُفِيت فأصبحت بشرته بيضاء ناصعة ورطبة كالتي لدى الأطفال. كان ذلك شيئا مرعبا للغاية بالتفكير فيه؛ فهو لم يستخدم إكسير علاج أو أيّ شيء له نفس الفعّاليّة. لقد كانت تلك قدرة جسده الشفائيّة البحتة.

عبس أوبنهايمر فرانكنشتاين ثمّ استدار مغادرا، أثناء ذلك رفع ذراعه وصرّح: "لا تجعلني أكرّر كلامي، فأنا أكره الأغبياء بقدر ما أكره البشر أنفسهم."

استغرب الأخوان وفكّرا في معنى كلامه، حتّى أدركا شيئا ما أخيرا عندما تذكّرا كلامه سابقا: " أنا فقط لا أعدّ نفسي بشريّا!" صدت تلك الجملة في عقليهما وزعزعتهما فارتعبا. هل كان يقصد ذلك حرفيّا؟ يجب أن يكون الأمر صحيحا لأنّ لا بشر لديه تلك القدرة الشفائيّة المذهلة.

أنزل ذراعه التي رفعها سابقا وتنهّد: "حقّا هؤلاء البشر، لماذا ليس هناك ولو شخص واحد ذكيّ بينهم؟" كان الشابّ يتذمّر بوجهه الطفوليّ. من كان ليعلم أنّ السبب الحقيقيّ وراء كرهه للبشر هو غباؤهم الذي يراه في كلّ واحد منهم؟

"انتظر!" رنّت الكلمة في عقله فجعلته يتوقّف عن تذمّره فجأة وتحوّل تعبيره المنزعج إلى تعبير بارد بعث معه نيّة قاتلة كوحش التهم مئات آلاف الوحوش حتّى كوّن تلك الهالة الشرسة التي انطلقت من جسده دون أن يحتاج إلى استخدام أيّ طاقة سحريّة أو أيّ شيء مشابه.

سقط غايرو وكاي على الأرض والتصق جسداهما معها من شدّة الضغط وكادا لا يصدّقان أنّ ساحران في المستوى التاسع مثلهما قد حدث لهما مثل هذا الشيء هكذا. لقد كانا ساحرين بمستوى مرتفع بالنسبة للعالم الواهن، إلّا أنّهما كانا مجرّد فرخين صغيرين أمام ذلك الوحش المرعب.

"لقد عفوت عنك في الوهلة الأولى لمعرفتنا بالرغم من أنّك جعلت من انتظاري دون فائدة، لكنّك تجرّأت وحاولت فعل نفس الشيء لمرّة ثانية."

"مـ-ما الذي تتحدّث عنه يا هذا؟ نحن لم نفعل شيئا كذاك!" تكلّم غايرو بصعوبة بالغة بينما يحاول النهوض لكن بلا فائدة.

"همم؟" استغرب أوبنهايمر فرانكنشتاين ثمّ تذكّر أخيرا ذلك الشعور الذي أحسّ به؛ ففي الواقع، لم يكن ذلك كلاما موجّها له وإنّما كانت نيّة مباشرة رنّت في عقله.

توقّف مباشرة عند ذلك وحدّق إلى البيضة المشعّة أمامه وفكّه السفليّ مفترق عن العلويّ بفارق كبير، غير مصدّق لما حدث للتوّ. فكرّ مستغربا: "هل يمكن أنّني تخيّلت ذلك فقط؟"

انتظر أوبنهايمر فرانكنشتاين دون أن يشعر لمدّة لا بأس بها قبل أن يستدير مرّة أخرى محاولا المغادرة من جديد.

"لا تجعلني أكرّر كلامي أيّها العالم المجنون، فإيّاي انتظرنّ!"

أدار أوبنهايمر فرانكنشتاين رأسه بسرعة فائقة وحملق إلى بيضة الضوء تلك. فبالرغم من أنّ اللهجة التي استُخدِمت في مناداته كانت مستبدّة، إلّا أنّه تأكّدا أخيرا عندما سمع 'العالم المجنون'. لم يكن هناك سوى شخص واحد في هذا الوجود يناديه بذلك اللقب.

"المزعج..."

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/01/24 · 1,105 مشاهدة · 1881 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024