205 – ولادة جديدة (2)

رنّ الصوت في عقل أوبنهايمر فرانكنشتاين من جديد بنفس اللهجة: "انتظر هنا حتّى أخرج، فهناك ما أريدك أن تقوم به."

كان ذلك الصوت متسلّطا، ولم يعطِ اعتبارا للطرف الآخر، كما لو كان واثقا لدرجة لا يمكن زحزحة معتقداته ومبادئه تلك التي تبني قانونه السامي. كان شيئا طبيعيّا بالنسبة له أن يتكلّم مع الآخرين بتلك الطريقة، ولم يكن على المرء في الواقع أن يعتبره تكبّرا، لأنّه لن يكون تكبّرا إن كان هو نفسه كبيرا كفاية ليكون أهلا لكلامه ذاك.

عبس أوبنهايمر فرانكنشتاين ثم فكّر في بعض الأسباب التي جعلت باسل قادرا على التحدّث معه عبر نيّته فقط بالرغم من أنّه في تلك الحالة، ووجد أنّ الاتفاق بينهما هو الوسيط الوحيد الذي يمكن أن يخوّل له الإمكانيّة لفعل ذلك.

ولكن مع ذلك، لم يكن الاتفاق أصلا مع باسل، فكيف له أن يكون قادرا على القيام بشيء لا يقدر عليه سوى خبراء حقيقيّين؟ فهو لم يسمح له بأن يتكلّم معه عبر عقله لذا يجب أن يكون في مستوى مرتفع أو يملك شيئا خاصّا يسمح له بذلك. كان متعجّبا من ذلك الأمر لوقت طويل.

حدّق إلى البيضة المشعّة بنظرات عبوسة: "سأنتظر عندما أريد، وليس عندما تأمرني بذلك."

رنّ الصوت في عقله من جديد: "سوف تنتظر كما أخبرتك، لأنّه أصلا مهما ابتعدت فسأجدك بكلّ سهولة. لا تصعّب الأمور على نفسك لأنّها في كلّ الحالات سهلة عليّ."

قطب أوبنهايمر فرانكنشتاين مرّة أخرى وبدأ يخمّن في ما قاله باسل. كان يشكّ في ما إذا كان ذلك الاتّفاق هو ما سيسمح له بإيجاده بتلك السهولة.

سرح بأفكاره لقليل من الوقت ثم تنهّد وتمتم: "حقا يا من له إزعاج!" ندم على قدومه إلى هنا أصلا، وندم أكثر على عادته السيّئة التي تجعله يتبع اهتماماته بدون تفكير دائما.

ردّ بعد تفكيره أخيرا: "حسنا سأنتظر لكن لأنّني أريد ذلك وليس لأنّك أخبرتني بذلك، لذا أخبرني عن السبب، وشيء آخر، لا تنادني بالعالم المجنون."

عمّ الصمت قليلا بعد طلب أوبنهايمر فرانكنشتاين الأخير قبل أن يرنّ في عقله الصوت: "أنا أريدك من أجل أختهما، أظنّه حان الوقت لجعلها تستيقظ أخيرا، فحتّى لو كانت في حالة توازن حاليا لا يجب تركها على ذلك الحال."

قطب أوبنهايمر فرانكنشتاين، والسبب كان تجاهل باسل لطلبه، لكنّه هدّأ نفسه ثم قال: "ألا يجب أن تكون قادرا على التكفّل بذلك بنفسك؟ لم الحاجة إليّ؟ لقد فقدت اهتمامي فيها بالفعل، أنا لا أريد."

"لا..." تكلّم باسل حالا: "لا تحاول ملاعبتي فأنت ما زال لديك اهتمام بها، وسأقول لك شيئا، لربّما أخبرك معلّمي ببعض الأشياء لكنّه ترك أشياء مخفية عنك، ما الذي تظنّه تلك الفتاة ستصير يوما؟"

تشوّش أوبنهايمر فرانكنشتاين قليلا وعبّر عن رأيه بصراحة وبثقة كونه كان خبيرا في هذا المجال: "إن نجحت حقّا في إنقاذها، فلربّما تصير مثلي عندها."

"هوهوهو..." ضحك باسل ضحكة لم يكن يضحك مثلها قبلا، وقال ساخرا: "يا أيها العالم المجنون، لربّما أنت عبقريّ بين العباقرة، وبصراحة، لم أكن لأجاريك في هذا المجال قطّ سابقا، لكنّ العديد من الأمور تغيّرتْ. على كلّ، عندما ننقذ تلك الفتاة وتولد من جديد، فستكون مخلوقا أسمى من الذي أنت عليه حاليا."

"كوكوكو..." ضحك الشاب ساخرا هو الآخر قبل أن يكمل سخريته كلاما: "تغيّرت؟ أتساءل ما الذي تغيّر بك؟ لربّما إن أخبرتني فـلك مساعدتي عندئذ، وشيء ثانٍ، لا تنادني بالعالم المجنون."

"هوهوهو..." بادله باسل نفس أسلوب الضحك قبل أن يردّ: "لا تفرغ مياهك الثمينة في سطل رمل، فلن ينبت شيء ولا أنت بحاصد. لربّما يوما ما، إذا كنت بالمزاج المناسب، سأجعل جهودك تثمر، لكنّ ذلك سيحدث فقط إن بدأت بالاستماع إليّ."

"دعنا نركّز على المهمّ، أتريد أن تعلم ما الذي ستصير عليه تلك الفتاة أم لا؟"

حافظ أوبنهايمر فرانكنشتاين على نظراته العبوسة كونه لم يحبّ طريقة باسل في التكلّم معه، لكنّ اهتمامه بتلك الفتاة كان دائما، والآن بعد كلام باسل قد زاد اهتمامه بها أكثر. تنهّد ثمّ أجاب: "كوكوكو، لا تقلق، عملي هو جعل الرمل ينبت، فلم يسبق لجهد منّي أن ضاعَ، ولا شيء في يدي ساعَ."

كان أخوا وأنمار في تلك اللحظات الطويلة مستغربين من تصّرفات الشابّ أمامهم، فبعدما كان مغادرا غيّر رأيه وظلّ هناك جامدا بينما تتغّير تعبيراته في كلّ مرّة. كان ذلك نوعا ما مريبا وحقّا قرّر ذانك الأخوان ألّا يتعاملا معه من حينئذ فصاعدا، أمّا أنمار فكانت تفكّر في آخر كلمة قالها، المزعج. لقد كانت تعلم تماما ما الي قصده بها، لذا كانت مترقّبة ما يحدث.

لوّح أوبنهايمر فرانكنشتاين يده وقال: "سأنتظر هنا، لكنّ ذلك فقط لأنّه انتظاري لك سيستحقّ."

لم يجبه باسل بعد ذلك وترك الأمر كما هو عليه. كلّ ما أراد ان يسمعه هو جواب فقط لذا لم يتكلّم بعد ذلك، فبالتفكير بالأمر، كيف يمكن أن يكون مزاج باسل الحالي بعد فقدانه لمعلّمه الذي ضحّى من أجله؟

حدّقت أنمار إلى الشابّ أمامها واقتربت منه بعد وقت قليل ثم أشارت إلى البيضة المشعّة ونطقت أخيرا: "ما الذي أخبرك به؟"

تعجّب أخوا القطع من سؤالها وفكّرا في ما تقصده. لقد حدثت بعض الأشياء الغريبة للتوّ وخصوصا مع الشاب العجيب أمامهما، لكنّهما لم يفهما سببها مهما خمّنا.

نظر أوبنهايمر فرانكنشتاين إلى الفتاة الهادئة أمامه، وتفاجأ نوعا ما من فهمها للأمور بسرعة دون الحاجة إلى شرح شيء، فاستدار مغادرا بينما يقول: "طلب منّي انتظاره فقط."

أحسّت أنمار بالراحة لدرجة كبيرة فجأة كما لو أن جبلا قد أزيح عن صدرها، وبرقت عيناها ثم التفت إلى أخوي القطع وقالت بابتسامة هنيئة: "هل يمكن لأحدكما أن يأتي بطعام إليّ، وأرجوا أن يكون بالجزر."

ابتسم أخوا القطع وفرحا كثيرا لرؤية ذلك الوجه المشرق أخيرا بعد مدّة طويلة؛ لقد فهما ما الذي قصدته مباشرة بعدما ريا ذلك التعبير الذي اعتلى وجهها. انحنيا قليلا بعد ذلك وأجابا في نفس الوقت: "سمعا وطاعة يا سيّدتي الصغيرة."

لقد كانت تلك لحظة مفرحة، ولم يريدا أن يحتكراها وحدهما فنشرا الخبر بين القريبين إلى أنمار وباسل، فعمّ الفرح والسرور بسماع ذلك الخبر وعاد الأمل ليسطع بشدة في قلوبهم التي كادت تظلم وتستسلم تماما.

شاركت لطيفة وسميرة أنمار الفرحة بعدما سمعتا هذا الخبر، وصارتا أكثر تفاؤلا عمّا كانتا عليه من قبل وخصوصا بعد مشاركة أنمار الطعام معهما من جديد كما عهدتا.

مرّت بعض الأياّم حتّى مضى شهر آخر، وعندها حدث تغيّر في البيضة المشعّة أخيرا جعل قادة التشكيل وكلّ أتباع باسل القريبين إضافة إلى الأباطرة الثلاثة وكلّ رئيس عائلة مرموقة يحضرون.

استقّرت كلّ تلك الأشعّة التي كانت تنبعث منها، وبدأ صوت ما بداخلها يدقّ كما لو كان ضربات قلب، وبعدما ركّز المحيطون سمعهم جيّدا، وجدوا أنّها كانت صوتا لدقاّت قلب حقّا، إلّا أنّها كانت قوّية للغاية حتّى جعلتهم يشكّون في صحّة ذلك.

هزّت تلك الدقّات البيضة المشعّة في كل مرّة تدقّ بها، وتسارعت مع الوقت فاهتزّت البيضة المضيئة أكثر أيضا، حتّى أصبحت الدقّات طنينا متواصلا وجعلت البيضة تهتزّ بشكل متواصل، وفي الأخير أطلقت صوت صفير جعلهم كلّهم يسدّون آذانهم لقوّته.

*صفيـــــر*

*تكسّر*

تكسّرت البيضة المضيئة فجأة وتهشّمت إلى شظايا ضئيلة، وكلّ شظيّة بعد ذلك اختفت في الهواء كالرماد.

وبالطبع، لم تكن أنظار الحاضرين مركّزة على مثل هذه الأشياء، بل على الشخص الذي كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر لكلّ تلك المدّة، والذي فعلا ظهر من تلك البيضة كما أُخبِروا.

كانت نظرات الجميع متعجّبة ومستغربة، وأحسّوا جميعا بنفس الشعور الذي تملّك قلوبهم فجعلهم كلّهم يفكّرون في نفس الشيء: "أهذا بشر؟"

كان الشعور الذي تملّكهم مختلطا بمشاعر مختلفة، إذ أحسوّا بالاحترام والتقدير الفطريّ تجاه الشخص الذي ظهر أمامهم، وشعروا بالسكينة نوعا ما عندما تحسّسوا هالته التي كانت تنبعث منه، والرغبة في الخضوع له عندما حدّقوا إلى عينيه اللتين كانتا تريان عبرهم بسهولة.

عادوا إلى رشدهم بعد قليل من الوقت، ففكروا مرّة أخرى: "ماذا كان هذا قبل قليل؟"

لقد شعروا بإحساس غريب ولكنّه اختفى بعد مدّة لحظات جاعلا إيّاهم يظنّون أنّهم كانوا يتوهّمون لا غير، إلّا أنّ ذلك الشعور ظلّ محفورا في أعماق أرواحهم جاعلا إيّاهم لا ينسون ذلك الإحساس.

تطلّعوا إلى باسل الذي ظهر أمامهم، فوجدوا شعره الأحمر قد طال حتّى بلغ كتفيه، وطوله زاد فبلغ ستّة أقدام، وكانت عضلاته مصقولة بالرغم من أنّها لم تكن ضخمة إلّا أنّها كانت تبدو قاسية كالفولاذ إذْ برزت عبر ثيابه التي كانت ضيّقة عليه لصغرها.

كان نموّه ذاك سريعا نوعا ما مقارنة بالوقت الذي مضى، وتركهم ذلك مندهشين لقليل من الوقت، حتّى كُسِر الهدوء أخيرا بخطوة صنعتها أنمار ولا أحد آخر عندما تقدّمت إلى باسل.

نظر باسل إليها ثم رقّ قلبه فجأة، فشعر الجميع أخيرا بأنّ عينيه لم تعودا تريان من خلالهم. رمت انمار بنفسها عليها فعانقها هو الآخر قبل أن ينطق أخيرا: "لقد عدت."

سقطت دمعتان من عينيْ أنمار وأجابت: "عودة حميدة!"

"وااااه"

صاح الحاضرون من الفرحة وتقدّم واحد بعد الآخر ثمّ أحاطوا بالاثنين عن قرب. رحّب كلّ واحد منهم بعودته على طريقته ودمعت أعين أمّه وعمّته سميرة إضافة إلى أعين توابعه القريبين منه، واكتملت فرحتهم أخيرا.

ابتسم باسل في وجوههم ثم قال: "يبدو أنّني أقلقتكم."

ظهرت جدّته من بين الحشد وعانقته كما فعلت أمّه وعمّته سميرة بالفعل ثم قلن: "لقد ظننّا أنّ اللعنة قد تمكّنت منك."

بادلهنّ باسل العناق وأجاب: "اللعنة؟ شيء كهذا لن يتمكّن منّي أبدا فلا داعٍ للقلق."

لقد كانت تلك هي اللحظة التي طال انتظارها، فسعد الكبير والصغير بمجيئها، وبسرعة أقيمت وليمة للاحتفال بعودة باسل السليمة من المجهول. لم يعلم أحد عن الذي حدث معه، ولا أحد لاحظ أيّ تغيّر به سوى نموّه الجسديّ، لذا كانوا مسرورين كثيرا لأنّهم لاقوه من جديد.

فقط، كان هناك شخص واحد ظلّ يحدّق إليه من بعيد بعينين عبوستين. كان ذلك أوبنهايمر فرانكنشتاين الذي تنهّد وتمتم: "لأجعلنّ الرمل ينبت يا أيّها المزعج."

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/01/29 · 1,086 مشاهدة · 1481 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024