241 – الرمح الطاغيّة

ابتسم باسل كردّة فعل على ما قال الشيء أمامه، ثمّ قال ساخرا: "ما الذي تفعله بإلقائك لكلّ هذه الأضواء حولك؟ أتحاول أن تبدو رائعا وغامضا؟ هوهوهو، هيّا أظهر هيئتك ولا تكن خجولا."

انزعج ذلك الشيءّ: "أنت...! أنا لا أحاول التصرّف بغموض، إنّني فقط مبارك ومقدّس حتّى أن نوري يمكنه إنارة العوالم والعقول على حدّ سواء، وإن لم ينجح هذا الأمر معك فما أنت إلّا مجرّد حشرة حقّا، حشرة مُقدَّر لها أن تظلّ في الظلمة جاهلةً للأبد. هل سمعتني يا ابن العاهرة؟ هيّا، بجّلني، لربّما عندئذ أرحمك حتّى لو كنتُ أكره الحشرات."

اتّسعت ابتسامة باسل أكثر وبدا مستمتعا بطريقة حديث ذلك الشيء معه، فقد علم تماما ما الذي جعله يصبح متكبّرا لهذه الدرجة، وبدون شكّ، لم يكن تكبّره من فراغ.

"هكذا إذن، لربّما عليّ أن أستخدم بعضا من العنف هنا."

عندما سمع الشيء ما قال باسل، تفاجأ واتّضح ذلك في نبرته: "ا-انـ-انتظر، هيّا، لا تكن متسرّعا، يمكنك التنعّم بهيبتي ومحاولة إيجاد إلهام يساعدك في مسارك الروحيّ، فكما تعلم، أنا عظيم كفاية لأجعلك فقط بحضوري ترى خبايا وأسرار القوانين العالميّة."

تجاهله باسل واقترب أكثر ورفع يده، وبدا كما لو أنّه سيبدأ عقابه.

لاحظ الشيء ذلك فهرع في كلامه ثانية بعدما بدا كما لو أنّه بصق: "تشه، حقّا الحشرات لا تعرف قيمة ما حولها، فحتّى لو حضرتُ أمامها لا تعرف كيف تبجّلني وتحمد ربّها على الفرصة التي واتتها. اسمع يا أيّها العاهر..."

اقترب باسل محافظا على تلك الابتسامة التي بدأت تبدو شيطانيّة ويدِه المرفوعة التي تبدو كسيف سوف يطبّق حكمه القاسي، فتوقّف الشيء عن الكلام بسرعة وغيّر نبرته في الكلام بلمح البصر: "حسنا، حسنا."

همس لنفسه بالرغم من أنّ باسل سمعه، أو ربّما تعمّد إسماعه ذلك: "اللعنة، سأحرص على جعل حياتك جحيما بشتّى الطرق."

انتهى من كلامه بتنهّد، وسحب الضوء الذي بعثه حتّى ظهر شكله الحقيقيّ أخيرا.

قال باسل بعدما وضع يده على ذقنه: "رؤية الشيء الحقيقيّ لأمر مختلف. هذا هو السلاح الذي استخدمه السارق الخسّيس كسلاحه الروحيّ إذن، السلاح الذي استطاع اختراق الزمكان وقتل الأعداء بتمام الطغيان. هذا هو 'الرمح الطاغيّة'."

"فافافا!" ضحك الرمح العجيب بالرغم من عدم امتلاكه لفم، وقال بفخر: "يبدو أنّه حتّى حشرة مثلك يمكنها ملاحظة عظمتي، هيّا، فلتبجّـ--"

أومأ باسل رأسه ثمّ قال بوجه خال من المشاعر، مقاطعا كلام الرمح العجيب: "نعم، إنك بسيط. لا شيء فريد."

كان حقيقة ذلك الشيء هي رمح بلغ طوله حوالي الثلاث أمتار، وامتلك مقبضا على شكل ضفيرتين بعضهما ملتفّ على بعض، لكنّهما لم يكونا من الشعر بالطبع، ولكن بدتا كما لو أنّهما مشكّلتان من العظام.

كان رأس الرمح فضّيّا لكنّ ذلك الخطّ المتوهّج في داخله نبض كقلب حيّ، وأضفى عليه حياة ملتهبة.

كانت المنطقة التي تربط الرأس بالمقبض على شكل دائرة لكنّها كانت فارغة، فبدت ناقصة وتحتاج إلى شيء يكملها.

كان هذا الرمح هو صاحب تلك النيّة المكلّفة بالإشراف على هذا العالم الواهن.

"أنا، أنا الرمح الطاغيّة الذي أرعب العوالم غير المحدودة بسيط؟ لستُ فريدا؟" فقد الرمح صوابه وبدأ يلعن ويسبّ بدون توقّف: "يا أيّها العاهر المغفّل الكريه، يا أيّها المقرف القذر، يا أيّها النغل اللقيط، أتريدني أن أخصيك وأذلّك أمام كلّ ساقطة تعرفها؟ يا ابن الفاسدة، لست سوى كتلة لحم متعفّنة وتتجرّأ على التقليل من شأني، من جلالي وعظمتي؟"

هزّ باسل رأسه يمينا وشمالا فقط بينما ينصت لكلام الرمح الفاحش؛ من كان ليظنّ أنّ هناك رمحا يتكلّم، وفوق ذلك لديه عادة سيّئة في الكلام هكذا. فقط ما الذي مرّ به حتّى صار يملك فما كهذا؟ بالرغم من أنّه لا يملك فما أصلا.

أكمل الرمح غاضبا: "اجلب لي التنانين الساميّة وستراها تذعن لي، بجّل العنقاوات الرامدة وستراني أشويها من أجل غذائي، ادخلني إلى الأراضي المباركة وستجدني بحضوري أغطّي هالتها، شاهدني في الأراضي المحرّمة وستعلم عن هيبتي عندما أخضع مخلوقاتها الشريرة."

"أنا الرمح الطاغيّة، أقوى وأعظم سلاح ظهر في العوالم التي لا تُحصى، أنا الذي شُكِّلت عظامه من عظام التنانين، أنا الذي استحمّ في رماد العنقاوات وتغذّى على قلوبها، أنا الذي يتسيّد الأراضي المباركة ويستعبد الأراضي المحرّمة."

لم يغيّر باسل نظراته وظلّ يحدّق إليه كأيّ سلاح عادي، فاستشاط الرمح غضبا أكثر، مزلزلا بذلك الجزر المائة وما تجلّى من العالم المجهول: "يا لعين، حتّى الحشرة ستراها هامدةً منقادةً بحلول الآن، فما بالك تقف هناك ونظرات خيبة الأمل تعلو وجهك؟ لمَ أشعر أنّك تنظر إليّ كما لو أنّني جزرة متعفّنة يا أيّها الوغد؟ توقّف عن فعل ذلك."

كانت نظرات خيبة الأمل على وجه باسل تسوء بمرور الوقت، حتّى تنهّد في النهاية وقال: "لربّما لم يكن عليّ توقّع الكثير."

انفجر الدخّان من الرمح فجأة كما لو أنّ رأسه سخن أكثر ممّا يلزم، وكاد يجنّ حتّى أنّ كلماته صارت لا تكوّن جملا، ومع مرور الوقت اختفى حسّ الكلمات بعشوائيّة الحروف، وصارت مجرّد أصوات صراخ لا تتحمّل الأذن سماعها.

انفجر الدخّان مرارا وتكرارا والرمح على ذلك الحال، بينما ينظر إليه باسل بنفس النظرات كما لو كان يحاول استفزازه، وكلّما رأى الرمح تلك النظرات زاد غضبه شدّةً فقط، حتّى جعل المنطقة المحيطة مغمورة بدخّان أسود بدا كغيمة مظلمة ممتلئة بصواعق تتكهرب كما لو كانت تعبّر عن مشاعر الرمح المشحونة.

لقد أراد فعلا أن يشوي هذا الشابّ الذي لا يعرف حدوده، لكن لم يكن هناك ما بوسعه فعله. كلّ شيء فعله لم يلقَ نجاحا لسبب ما ضدّ هذا الشقيّ الغريب. كانت هذه هي المرّة الأولى التي ينزعج فيها لهذه الدرجة.

لربّما فقد ذكرياته عن الشخص الذي حمله، أو حتّى عن الأحداث المهمّة التي تربطه بذلك الشخص، لكنّ عزّته بنفسه كانت قائمة طوال تلك العصور، ومشاعره أخبرته مرارا وتكرارا بالسموّ الذي بلغه في وقت ما.

ومع ذلك، ها هو ذا يجد نفسه بعد عصور من الوحدة القاسية والسلطة المتفرّدة مجرّد سلاح عادي لا حول ولا قوّة له أمام فتى كهذا؛ فقط كم كان ذلك محبطا ومخزيا له؟

اختفى الدخّان لكنّ ابتسامة باسل لم تتبدّد، فاستسلم الرمح وبدا كما لو أنّه تنهّد وقال: "فقط من أنت يا أيّها الشقيّ؟"

ضحك باسل: "هوهوهو،" وأكمل مستمتعا: "لقد أخبرتك ألّا تزعجني أكثر من مرّة، لكنّك استمررت في فعلك ذاك ولم تتراجع، لذا يمكنك القول عنّا متعادليْن الآن نظرا لحالتك، هوهوهو."

"أيّها...!" كاد الرمح يسبّه فتوقّف كما لو عاد إلى رشده قبل أن يفقد صوابه: "لقد طرحت سؤالا يا فتى، هيّا أجبني بسرعة."

ضحك باسل وقال: "هوه، ألن تهدّدني هذه المرّة أو تسبّني؟ ظننت أنّ ذا الطغيان يغتصب حتّى الشجعان، ولا يرضخ لأيٍّ كان، فما هذا الذي أراه؟ أو ماذا؟ هل يمكن أنّ ذلك المتعالي قد صار في خبر كان؟"

ردّ الرمح بصوت مرتفع: "إنّك خبيث يا أيّها الشقيّ، أحقّا أزعجك تصرّفي لهذه الدرجة؟ وأنا الذي ظننتك ذو صدر رحب وواسع، فما بالي أراك ضيّق الأفق هكذا؟"

استمتع باسل بكلام الرمح كالعادة وقال: "ألن تتركني أردّ لك ما أدينك إيّاه حتّى؟"

انزعج الرمح وردّ: "همف، ألست حانقا فقط لأنّك خسرت أمامي في الكلام يا أيّها الشقيّ؟"

ضحك باسل ثانية: "لربّما معك حقّ، فهل هناك مشكل؟ أنا فقط لا أحبّ الخسارة أو التعرض للضرب من دون الرد، فهذا ليس من شيمي."

"فافافا،" يا لها من مصادفة يا أيّها الوغد: "فأنا أحبّ تدمير أمثالك حبّا جمّا. لربّما لك اليد العليا الآن، لكن حتّى أنت لا يمكنك فعل شيء لي. انتظر فقط حتّى تطاوعني الفرصة، وعندئذ ستراني أخزيك بشتّى الطرق."

"هوهوهو، لا يمكنني فعل شيء لك؟" ابتسم باسل وقال: "أتساءل بشأن هذا يا ترى."

كان الرمح واثقا فلم تتزعزع ثقته بكلام باسل: "فافافا، جرّب حظّك، هيّا استخدم روحك الوضيعة وحاول إجباري على طاعتك. أنا الرمح الطاغيّة، هل تظنّني مثل باقي الأسلحة؟ اجلب سلطانا أصليّا حتّى وسيجد نفسه في جحيم لا يطاق."

أومأ باسل رأسه متّفقا: "لا شكّ في ذلك، وبالطبع لستُ بسلطان أصليّ أو حتّى بساحر روحيّ."

"همف، إذن ما بال ثقتك تلك؟ من أين تنبع حتّى تبلغ هذه الدرجة من الغرور في حضرتي أنا سيّد الغرور؟"

ابتسم باسل وأشار إلى الرمح بسبّابته، ثمّ قال بروية: "أوَ لم تقلها بنفسك عند لقائنا؟ أنّك لُعِنت بلقائي. لست بسلطان ولكن لعين، وخضوعك لي حقّ ويقين."

لم يعلم الرمح ما يتحدّث باسل عنه، لكنّه سخر منه ولم يصدّقه، فقال بتعالٍ: "هيّا، هلمّ إليّ وحاول، قد أمدحك على الأقلّ لو استطعت فقط أن تلمسني دون أن تصبح غبارا."

قال باسل: "ها أنت واثق من ذلك؟ لقد رأيت مقاومتك ومعارضتك لي سابقا لا تجدي نفعا، بل حتّى أنّه يمكنني التحكّم في هجماتك، هل حقّا تظنّني غير قادرٍ على السيطرة عليك؟"

لم يجبه الرمح فاقترب باسل من الرمح ومدّ يده اليسرى ليضعها عليه، فإذا بالفضاء ينشقّ حولهما فجأة، لكنّه أغلق تماما بسرعة فائقة.

"مـ-ما الذي يحدث؟ كيف يمكن هذا؟ لربّما لديك مفتاح هذا العالم لكن لا يمكن أن تملك سلطة عليّ أيضا."

قال باسل بجدّيّة: "أخبرتك مرارا وتكرارا، ولكن انتظر، ألم تكن ستمدحني إن استطعت لمسك على الأقلّ؟"

تفاجأ الرمح وحاول الهروب من يد باسل، لكنّ تلك اليد كانت كقيد يربطه دون مجال للهرب، فقال مضطرّا: "حسنا، حسنا، فهمت، أنا الرمح الطاغيّة أمنحك مدحي، هيّا، أفلتني الآن."

أخرج باسل جزرة وعضّها بينما يحدّق إلى الرمح: "انتظر، لا تكن متسّرعا، هذه عادتك السيّئة. إنّك تحتاج أن تملك صبرا كافيا."

صرخ الرمح: "أيّ صبر! أفلتني وإلّا همدت جثّتك الليلة في قبر!"

أحكم باسل شدّه على الرمح الذي يحاول الإفلات منه، ثمّ قال بعدما عضّ جزرته: "انتظر، فعلا قد لمستك ومدحتني، ولكنّني لم أكن أنوي التوقّف عند لمسك فقط. لقد أخبرتك، ستخضع لي. والآن، لو كان لمسك يجعلك تمدحني، ما الذي سيجعلك خضوعك لي تفعله يا ترى؟ إنّني شخص مليء بالفضول الذي لا يهدأ إلّا إذا علمت الأمر واختبرته، ولا يسعني سوى الاشتعال حماسا بالتفكير في ما ستفعله من أجلي عندما تخضع لي."

"يا ابن العاهرة، أفلتني وإلّا اغتصبت عائلتك، إنّك لا تعلم كم ثقبا صنعت واخترقت، ولا أعلم أيضا ما الذي قد يحدث للمقرّبين منك إذا حدث وفقدت رشدي."

"هوه، عدت لعادتك السيّئة في الكلام بهذه السرعة، حسنا، لنبدأ بتعلّم الطريقة المناسبة في التحدّث معي أوّلا."

صاح الرمح: "أيّ طريقة مناسبة يا أيّها القذر! أبعد عنّي مؤخّرتك العفنة وإلّا أضفت لها ثقوبا أخرى! هل تريدني أن أفعلها؟ إنّ الشجعان أنفسهم رضخوا لي عندما عذبتهم هكذا."

توهّجت جبهة باسل فانطلق قانون عالميّ منه والتصق بقلب الرمح في مركز رأسه، فأحسّ الرمح بصعق فجأة وصرخ كما لو كان يتألّم: "توقّف يا لعين، فقط ما الذي تفعله؟ كيف تفعل هذا؟ تبّا، فقط لمَ يجب أن يحدث شيء كهذا لعظيم مثلي؟ أنا، أنا الرمح الطاغيّة! أنا السلاح الذي قهـ-... جيــااه!"

صرخ الرمح من الألم كما لو أنّ جوهر روحه يتعذّب، فابتسم باسل بلطف لكنّ الرمح ظهرت له كابتسامة شيطانيّة، قبل أن يسمع الشقيّ يقول: "لقد أخبرتك، إنّني لعين، ولكن سواء نعمة كانت أم نقمة، فلأجعلّنها تعود بالفائدة عليّ في النهاية."

صرخ الرمح: "لعين؟ أتمزح معي يا أيّها الوغد؟ أيّ لعنة يسعها منحك السلطة عليّ؟ لو كان هناك شيء كهذا فسيكون نعمة."

"لا، إنّها لعنة، لعنة أحلّها عليّ السارق الخسيس من أجل عودته المنتظرة، لكنّني لن أترك تضحيّة معلّمي تذهب هباء منثورا؛ فكما فعل ما بوسعه ليجعل هذه اللعنة مقموعة، يجب أن أسعى إلى التحكّم فيها. لو كان السارق الخسيس يريد سرقتي، فسأريه كيف تتمّ سرقة السارق."

دوى صوت الرمح في الأنحاء: "اللعنة عليك يا أيّها اللعين!"

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائيّة أو نحويّة.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/11/12 · 693 مشاهدة · 1741 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024