240 – اللقاء المنتظر

"أيّ سلطان يا أيّها العبيد؟ ما الذي فعلته يا أيّها الشقيّ؟ أنا الوحيد الذي يمكنه التحكّم في هؤلاء المحاربين، أنا السلطان لا أنت، كيف لهم أن يرضخوا لك هكذا؟"

حدّق باسل إلى نهاية الممرّ ثمّ قال: "فعلا، ما أنا بسلطان، ولكن ذلك ينطبق عليك أيضا. ما أنت إلّا أداة استخدمها السارق الخسيس من أجل ضمان عودته بسلام، لكن حتّى هو لم يتخيّل وجود شخص يمكنه التضحيّة بوجوده من أجل أحد آخر. شخص مثل السارق الخسيس لن يستطيع التفكير في وجود شخص مثل معلّمي."

"ما الذي تقصده يا شقيّ؟"

تمشّى باسل بالممرّ متّجها نحو نهايته والصناديد حانيِين رؤوسهم له، فبدا كسلطان يستطيع أمر العالم بأجمعه وقلبه رأسا على عقب فقط بكلمة منه.

"لا تتسرّع، ها أنا ذا قادم لا محالة، وستعلم عمّا أتحدّث، ستعلم عن سبب وجودك هنا، وكيف حدث كلّ شيء، كيف حَبَك السارق الخسيس خطّته طوال هذه العصور، وكيف بدأتُ أدمّرها بالفعل."

"ابتعد، انصرف، لا تقترب أكثر. يا أيّها اللعين النغل، أيّ شعوذة شرّيرة طبّقت؟ من المستحيل على أيّ شخص في العوالم كلّها الولوج إلى هذا العالم، وإلّا كان السلاطين قد فعلوها قبل عصور عندما لم تكن هذه المصفوفة بهذه القوّة."

"صحيح أنّ هذه المصفوفة تغدو أقوى بمرور الوقت، ولن ينجح حتّى سلطان أصليّ في الدخول إليها، لكنّني لا أستخدم القوّة هنا ولا الشعوذة الشرّيرة بالتأكيد."

صرخت النيّة أكثر، كما لو أنّ كلّ خطوة يقترب فيها باسل منها تجعلها تهلع: "إذن ما الذي فعلته يا أيّها اللعين؟"

تحرّك باسل ببطء كما لو أنّه يغيظ النيّة، إلّا أنّه كان يقدّر هذه اللحظات التي تُعدّ أوّل خطوة له في محاربة السارق الخسّيس. أجاب بهدوء: "لقد أجبتك عن ذلك مسبقا."

"أجبتني؟ ما الذي..." توقّفت النيّة عن الكلام كما لو صُدِمت وبدت كأنّها تسترجع الأحداث أثناء سكوتها، فنطقت أخيرا بصوت متقطّع مكذِّبة لما تحاول أن تقول: "هل... لا تقل لي... هل حقّا لديك المفتاح؟"

"يقينًا، أجل لديّ المفتاح، فلولا ذلك ما كنت لأستطيع الدخول إلى هنا."

قطع باسل نصف الطريق، وكما لو أنّه يرى نهاية الممرّ المخفيّة، تابع سيره بنفس الوتيرة بينما ينظر إلى كلّ تمثال على حدة. كانت عيناه شاخصتيْن تجاه هؤلاء المحاربين، إذ قدّرهم بشكل كبير؛ احترمهم ولم يسعه سوى أن يتطلّع إليهم عندما تذكّر بعض المشاهد من الذكريات التي لم تكن بذكرياته.

"من أين لك...؟"

لم تستطع النيّة تصديق باسل. لقد شكّت في وجود مفتاح بهذا العالم كباقي العوالم الثانويّة، لكنّها كانت متفاجئة بما أنّ الذي امتلكه هو شقيّ كهذا.

تجاهلها باسل وتقدّم بينما يسترجع بعض الأحداث المنسيّة في التاريخ ولكن راسخة في عقله، إذ استطاع أن يطلّ عليها في عقل السارق الخسّيس لفترة من الزمن عندما كان في البيضة المشعّة. آنذاك، اكتشف العديد من الأمور إلى جانب ما تعلّمه من الحكمة السياديّة التي مرّر عبرها إدريس الحكيم كلّ خبراته في مساره الروحيّ.

في تلك الأحداث، رأى جزرا عائمة في الجوّ تندثر وتصبح غبارا، وبحارا تتبخّر لتصير صحارى أموات، وجبالا عديدة حقيقتها هي جثث لا تُحصى، الملايير والملايير منها، بعضها متراكم فوق بعض. انهدمت قارّات وبرزت قارّات، وعمّت الفوضى في العوالم بأسرها.

تذكّر تلك اللحظات عندما أحاط عدد لا نهائيّ من المحاربين بقيادة مائة بطل من مختلف الشعوب والأعراق بشخص واحد فقط.

عندما استطاع هذا الشخص لوحده أن يبيد معظمهم ويستعبد خيّرتهم الذين تبقّوا منهم.

عندما حكم العوالم بأسرها بطغيان ولم يجرؤ على معارضته أحد غير خيّرة الشجعان.

كانت تلك مشاهد أسطوريّة وحملت معها مشاعر مختلطة، فتلك فعلا كانت ذكريات السارق الخسّيس، ولم يسع باسل سوى أن يسرح بخياله لوقت طويل بينما يفكّر في طبيعته، في طبيعة الذي بلغ ما لم يبلغه بشر من قبله.

تنهّد وتمتم: "لربّما حقّقتَ أشياء عظيمة، لكنّك تهت واخترت الطريق الخطأ، وبسببك يوجد بعض الأشخاص يريدون اتّباع نفس الطريق الذي سلكته معتقدين أنّهم يمكنهم الوصول إلى مكان أبعد من الذي وصلت له وتحقيق السيادة العظمى بذلك."

تقدّم بينما يتمتم لنفسه من شدّة العزم: "لقد عزمت وحسمت أمري مرارا وتكرارا، لكنّني لم أكن من قبل أكثر إصرارا. فإذا لم يسبق للعوالم الأربعة عشر أن شهدت ما يقبع وراء تلك القمّة، فأنا سأكون المثال، أنا سأمهّد الطريق لمن بعدي، وعندئذ لن يكون هناك ضياع أو توْه عندما أرسم وأخطّط المسار نحو الأصل بيدي."

لم تجرؤ النيّة على تخريب هذا الجوّ الرفيع، وفقط راقبت باسل يقترب من نهاية الممرّ. لربّما كانت مندهشة، أم غاضبة لدرجة السكوت، أو فقط احترمت المشهد أمامها.

كان المارّ عبر هذا الطريق يستطيع الجزم بوجود نهاية له، ولكن كما لو كان تحت تأثير وهم ما، لم يكن يقدر على تحديدها. كما لو أنّ نهاية الممرّ هي نهاية العالم إذ لا يوجد شيء، فقط العدم.

ولكن، إذا اتّخذ الشخص الخطوات المناسبة في الوقت المناسب، واتّبع مسارا محدّدا، وامتلك المفتاح، فعندئذ يمكنه أن يرى منزلا يشعّ نورا.

كان المنزل بسيط الشكل إذ لم يختلف عن باقي المنازل، لكنّ مظهره بدا راقيا كما لو أنّه صُنِع من الذهب والجواهر. ومضت حوافّه المتألّقة بأحجار روحيّة من يعلم ما كانت قيمتها، وتمتّع بحيطان بدت كجذوع شجر بعضها متراصّ فوق بعض، إلّا أنّها كانت تبرق كألماس متكهرب.

اقترب باسل أكثر، فقطع ثمانين في المئة من الطريق، وبدأ يتّضح شكل المنزل له أكثر فأكثر، إذ كان أقرب للكوخ وصْفا.

توهّج الكوخ في نهاية الممرّ، لكن لم يسع المرء رؤية شيء خلفه، ففي اللحظة التي يدخل فيها أيّ احد إلى الطريق الذي تصنعه، يكون قد دخل إلى عالم آخر بالفعل. وفي هذا العالم، لم يكن هناك شيء غير هذا الطريق وذلك الكوخ.

في هاته اللحظات، بدا الكوخ البارق كقصر ينتظر وصول سلطانه عبر الطريق أمامه.

شعر باسل بالضغط عندما قطع تسعين في المئة من الطريق، وحتّى بالمفتاح الذي يقبع في أعماق روحه وعقله، واجه وقتا عصيبا في التقدّم. فعلا، كان هذا ضغطا يمكنه سحق السلاطين حتّى إذا لم يملكوا رخصة الدخول.

قال باسل بينما تغمره مشاعر الحماس والفضول الشديديْن: "إذن هذا هو ما رأيته آنذاك، هذا هو الحصن الذي هوجم من أعداء لا تُحصى لكنّه صمد أمام مختلف الهجمات من أضعفها إلى أعظمها دمارا. "

كان الكوخ يملك بابا ونافذتين وكلاهما كانا مغلقيْن، ولكن حتّى هذا الباب والنافذتين بدوَا غير قابلين للكسر مثلما كان كلّ حرف من الكوخ.

قطع باسل الطريق كلّه أخيرا فوجد نفسه أمام الكوخ، وبالضبط أمام دَرجِه، والذي تكوّن من أربعة عشر درجة.

وضع باسل قدمه على الدرجة الأولى بينما ينظر إلى الأعلى، وأحسّ كما لو أنّه يقطع مسارا روحيّا من صنع شخص آخر.

صعد دون وجود أيّ مشكلة غير اشتداد الضغط عليه، لكنّه امتلك المفتاح لذا استطاع الصعود بروية.

وفقط عندما وصل إلى الدرجة الرابعة عشر لاحظ هيبة الكوخ الحقيقيّة أخيرا. شعر أنّ أيّ شيء يقترب من هذا الكوخ ولو حبّة غبار تُرسل إلى العدم مباشرة.

وقف أمام عتبة الباب الذي لم يملك مقبضا ولا قفلا، حاله حال النافذتين، فكان من الواضح أنّ وسيلة فتح هذا الباب ليست مادّيّة، وإنّما روحيّة.

حدّق باسل إلى الباب بتركيز شديد كما لو أنّه يحاول اكتشاف غموض ما، فانطلق ضوء مشعّ من جبهته والتصق بالباب، ليتحرّك في أنماط مختلفة حتّى كوّن في النهاية شكلا بدا ككتابة عريقة.

استنشق باسل وزفر ببطء ثمّ صرّح بعدئذ برزانة: [أنا السلطان.]

توهّجت الكتابة على الباب مستجيبة لكلامه فسقط الباب للخلف بدل أن يُفتح كأيّ باب عادي.

كان الكوخ فارغا من الداخل، أو بالأحرى كان هناك ظلام دامس غير محدود كما لو أن الشخص لا ينظر إلى ما بداخل الكوخ، بل إلى كون فسيح.

تحرّك باسل ووقف على الباب، وبالتحديد على الكتابة التي قرأها كـ'أنا السلطان'، فعام الباب في الهواء فجأة وحلق به وسط الكون الفسيح الذي يخلو من الحياة.

لم يستطع باسل تحديد المدّة الزمنيّة التي مرّت بالضبط، فبين الحين والآخر، شعر أنّها إما طويلة أو قصيرة. بدا الأمر كما لو أنّه ليس هناك نهاية لسفر الباب، ولكن فجأة كما لو أنّ الظلام أنير برمته، أو أنّ الفضاء نفسه تغيّر، أو أنّ الباب اخترق الزمكان وظهر بمكان آخر، رأى باسل مائة جزيرة اختلفت أجواؤها تطفو في السماء، محاطةً بجريان بدا كالمياه لكنّه كان أقرب لطاقة أحجار أصل روحية مركّزة تجمع الجزر المئة وتوحّدها مكوّنةً مجالا لا يسع أيّ مخلوق الاقتراب منه.

امتدّت السماء كسماء أي عالم، واتّسعت الأرض أسفلها بسهولها الشاسعة وجبالها الجبّارة وأنهارها التي لا يسبر غورها.

في هذا العالم، لم يكن هناك الطاقة السحريّة فقط، بل حتّى الطاقة الروحيّة التي تمركزت في بعض المواقع، منها كهوف بدت قد شهدت عصورا لا تحصى، ووديانا أطلقت رياحا عاتيّة بدت كصرخات معانية.

ففي أيّ عالم روحيّ، لم تكن الطاقة الروحيّة في أيّ مكان، بل تمركزت فقط في بعض المناطق العتيقة والمناطق المحظورة باختلاف كمّيّاتها وجوداتها.

بحث باسل في الأرجاء لأيّام لكنّه لم يجد أيّ مخلوق عاقل أو حيوان أو وحش. فعاد إلى نقطة البداية وحدّق إلى الجزر المائة العائمة، والتي تشابهت في أشكالها لكنّها اختلفت في مناخها وطاقاتها، فكان هناك جزر جليديّة وثلجيّة وبركانيّة وخضراويّة، كانت هناك جزر صُبّت شلّالاتها من حوافّها، وأخرى مُغلَقة بأشجار عظيمة التقت قممها في السماء لتجعل الجزر تبدو كالقبب. لكن لم تكن هذه الجزر بالذات ما أثار اهتمامه، بل الشيء الذي وقع في مركز الدائرة التي كوّنتها الجزر.

هناك، قبع شيء اتصل بجريان الطاقة الروحية المركَّزة عبر كلّ جزيرة. حلّق باسل تجاه مركز دائرة الجزر، تجاه ذلك الشيء الذي ألقى بعض الصواعق وحطم الفضاء محاولا القضاء على الشاب الذي يستهدفه، لكن كلّ صاعقة التفّت عائدة من حيث أتت، وكلّ شرخ في الفضاء سُخِّر من أجل الشاب ليعبر بأمان.

بدا الأمر كما لو أنّ هذا العالم نفسه يساعد باسل ويتحرّك طبقا لأمره. استمرت المحاولات من الشيء الذي في المركز، كما تكرّرت خيبات أمله عندما فشل، حتّى وجد الشابّ أمامه، واقفا هناك بابتسامة متعالية.

سمع بعدئذ ما لم يأمل سماعه: "ها نحن ذا نلتقي مباشرة يا أبله."

كان النور يغطّي ذلك الشيء بسبب الطاقة الهائلة التي تربطه بالجزر المئة، لكن باسل كان يعلم أنّ صاحب تلك النيّة كان هذا الشيء أمامه.

صدر صوت من ناحية ذلك الشيء: "تشه، لُعِنت بلقائك يا بغيض."

كان هذا هو لقاء باسل بأحد أكثر الكيانات غموضا وتعقيدا في العوالم الرئيسيّة.

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/11/06 · 677 مشاهدة · 1567 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024