243 - اكتشاف العالم الثانويّ

243 – اكتشاف العالم الثانويّ

"يجب أن تشعر بالفخر لمدى حياتك لأنّني أسمح لك بحملي الآن يا أيّها العفن. وبمناسبة ذلك، مني لك ثلاث شروط عندما تحتاج لمساعدتي يجب أن تستوفيها. أوّلها هو أن تحني رأسك لي وتقول أرجوك ساعدني يا أيّها السيّد العظيم. ثانيها هو أن..."

جرّه باسل فجأة متجاهلا ما يقول، فصرخ الرمح: "استمع لما أقول يا أيّها الجاحد الوغد. أما زلت تعاملني هكذا بالرغم من أنّك تعلم ما قيمتي؟"

حلّق باسل نحو أحد الكهوف التي تمركزت في أحد الجبال، وكان هذا الكهف مليئا بالطاقة الروحيّة حتّى أنّ باسل شعر ببحر روحه يُعصر ويستجيب لذلك عندما حاول امتصاص بعض منها كونه في مرحلة الصاعد.

"هل فهمت الآن يا غبيّ؟ عليك أن تستوفي هذه الشروط الثلاث قبل أن تجرؤ على طلب مساعدتي." وبهذا كان الرمح قد أنهى كلامه الذي لم يستمع باسل له أصلا.

حدّق باسل إلى الكهف العجيب أمامه وحلّله ليكتشف مصدر طاقته، فعلم في النهاية أنّها قادمة من شبكة ضخمة تحت الأرض كأوردة مصدرها مكان واحد.

انطلق مرّة أخرى نحو كهف آخر بعدما أرشِد إليه من الأوردة، ومن ثمّ إلى بحيرة، وبعد ذلك إلى شجرة، ثمّ إلى مستنقعات بعضها كان برائحة كريهة وقاذورات طبيعيّة عفِنة لا يتحمّلها الأنف ولا القلب، إذ كانت تغلي كفوهة بركان كما لو أنّها قِدر يُطبخ فيه عجب العجائب على يد أسوء طبّاخ في العالم.

أمضى وقتا طويلا يتنقّل من موقع إلى آخر محاولا إيجاد المصدر النهائيّ. مرّت أيّام بالفعل لكنّه لم ينجح في ذلك، فاتّخذ أحد الأشجار الغنيّة بالطاقة الروحيّة وبدأ يتدبّر تحت ظلّها.

لقد كان يحتاج أن يروّض في البداية على الطاقة الروحيّة، ويأخذ ما يلزم منها حتّى يبدأ في تكوين روحه الكاملة، ولكن نظرا إلى أنّ بحر روحه مروّض فعلا بما مرّ به، كان يصقله حتّى يكوِّن أساسا جيّدا.

طرأت فكرة في باله بينما هو على ذلك الحال، فنظر إلى الرمح بيده وقال: "انتظر، معي مخلوق عاش لعصور هنا، ويمكنه فهم هذا العالم أفضل منّي حتّى الآن. كيف لي أنسى أنّ هناك عظيما بجانبي يمكنني الاعتماد عليه؟ ما رأيك؟ ألن يكون إيجاد ذلك المصدر سهلا لو استخدمنا حدسك وحسّك الروحيّ المتعلّق بهذا العالم؟"

نظر إلى الرمح لكنّ هذا الأخير لم يستجب له، فتكلّم باسل: "هوه، تتجاهلني؟ هل حقّا تظنّ أنّه يمكنك فعل هذا؟"

تجاهله الرمح ثانية فوقف باسل ونظر إلى مكان معيّن، ثمّ أعاد نظره إلى الرمح وقال: "هذا آخر تحذير لك، هل ستجيبني أم تكمل تجاهلك لي؟"

لم يشهد ردّا من الرمح، فابتسم: "هو التجاهل إذن. لا بأس، لكلّ داء دواء."

بدأ يتّجه نحو المكان الذي نظر إليه سابقا، بينما يحمل نفس الابتسامة التي جعلت الرمح أكثر من مرّة يهلع. وبالطبع، كان الرمح قد لاحظها لكنّه أصرّ على اتّخاذ موقفه ذاك ولم يشأ أن يتراجع عنه.

"عندما مررتُ بها سابقا، كدت أتقيّا من رائحتها الفظيعة. فبالرغم من أنّها غنيّة بالطاقة الروحيّة النقيّة أكثر من المناطق الأخرى، إلّا أنّ تلك القاذورات الطبيعيّة لا تتحمّلها النفس. أتساءل ما الذي سيحدث لعظام التنانين وقلوب العنقاوات لو رميت هناك؟"

لاحظ باسل أنّ الرمح قد تململ للحظة وحاول إخفاء ذلك، فاستمرّ بينما يهمهم: "هل ستحافظ على هيبتها يا ترى؟ أم أنّ هالتها ورائحتها ستغدو مقزّزة أيضا؟ فضولي يجلب لي الحكّة."

حكّ ذراعه التي تحمل الرمح وقال بينما ينظر إليه بوضوح: "آه، أريد أن أعرف. حقّا أريد أن أعرف."

تزعزع الرمح قليلا وكلّما اقترب باسل من المكان الذي كان يتكلّم عنه، كانت تصرّفات الرمح تصير أوضح بما أنّ صبره كان ينفذ.

تصنّع باسل وجها متفاجئا وضرب على جبهته ثمّ نظر إلى الرمح بعدما رفعه إلى الأعلى: "أوه، أوَ ليس هناك ما أريد في يدي بالضبط؟ لطالما تساءلت عن سموّ التنانين والعنقاوات، فلِمَ لا نختبر ذلك بهذا؟ هوهو، سيكون الأمر ممتعا كثيرا."

صخِب الرمح فجأة: "تـ-توقّف يا لعين! إلى أين تتّجه؟ ما الذي تنوي فعله؟"

تعجّب باسل وتظاهر بالفرح: "أوه، لقد استيقظت؟ ظننت أنّك في سبات يا هذا. لا قلق، لقد طرأت على بالي فكرة عبقرّية لا أظنّ أنّ هناك من فكّر فيها من قبل. كما تعلم، يقال أنّ التنانين لها عظام أقسى من صلب العالم، وقلوب العنقاوات لها جمال ملتهب لا ينطفئ، فأردت فقط أن أكتشف مدى صحّة ذلك."

هرع الرمح في كلامه: "انتظر، فقط انتظر. إنّك لا تحتاج لفعل ذلك حقّا؛ يمكنني أن أؤكّد لك صحّة ذلك بنفسي."

"أمم... غير كافٍ." حكّ باسل ذراعه ثمّ قال: "انظر كيف يقشعّر جسدي من شدّة حماسي لاختبار الأمر."

تكلّم الرمح مجيبا بسرعة: "كفّ عن هذا يا أيّها القذر. أتفعل هذا فقط لأنّني تجاهلتك قليلا؟"

همهم باسل لحنًا وتحرّك في خطوات متباعدة بينما يستدير كما لو أنّه يرقص على الإيقاع الذي يصنعه، غير مكترث لما يقول الرمح.

"يا أيّها الوسخ، توقّف الآن. هل حقّا تريد أن تغطسني بجلالي في ذلك المستنقع؟"

لو كان للرمح وجها، فبكلّ تأكيد كان سيكون شاحبا ومشمئزّا من المستنقع الذي اختلط لونه الأخضر بلونه البنفسجيّ وتفرقع سائله في عدة نواحٍ بينما يفرز رائحة تعمي العينين وتخنق الأنف، فقط من شدّة فظاعتها.

حمى باسل نفسه من كلّ هذه الأضرار بدرع سحريّ حول جسده، لكنّه في نفس الوقت أوقف وسائل الرمح الدفاعيّة وثبّطه بحيث لا يقدر على مقاومة تلك الروائح الفظيعة.

عبس باسل ووضع يده على فكّه بينما يفكّر بجدّيّة: "أمم... يبدو أنّ فضلات المخلوقات مختلطة لا يمكن أن تصل لهذه الفظاعة."

صرخ الرمح: "يا أيّها الوضيع، إنّك لن تجرؤ. إنّك تعلم أنّه لا يحقّ لأحد أن يعاملني هكذا. تعلم أنّني سامٍ ولا أستحقّ معاملة كهذه."

وصل باسل إلى حافّة المستنقع وحرّك يده التي تحمل الرمح تجاه السطح.

"أنت، توقّف، توقّف، ستندم على هذا. فعلا سأجعلك تدفع ثمـ..."

توقّف الرمح عن الكلام، ولكن ليس لأنّ باسل توقّف، بل لأنّه رأى تلك الابتسامة التي صار يكرهها بشدّة، فصرخ: "حسنا، حسنا، سأخبرك يا أيّها العاهر، تبّا لك. سأخبرك، لذا توقّف."

بدا كما لو أنّه يستغيث باسل لينقذ حياته، ولحسن حظّه توقّف باسل وتراجع عمّا كان يفعله. حكّ أذنه وقال ضاحكا: "هوهوهو، يبدو أنّني سمعت شيئا مرضيا للتوّ جعل فضولي يختفي بسرعة. هل يمكن أنّك تسحر الناس بالكلمات يا أبله؟ هوهو، هذا مبهر. إنّك فعلا فريد ولا نظير لك."

بدا الرمح كما لو أنّه تنفّس الصعداء في تلك الأثناء، فاستجمع شتاته وقال: "تشه، لحسن حظّك أنّك توقّفت، كنتَ لـ..."

لم يكمل كلامه حتّى كان باسل يحرّك يده معيدا إيّاها تجاه سطح المستنقع، فصرخ الرمح: "فهمت، حسنا يا أيّها اللعين، دعني أوضح موقفي أوّلا."

تنهّد باسل وقال: "هيّا، كن سريعا."

انزعج الرمح مرّة أخرى دون أن يشعر: "ما بال نبرتك في الكلام، هل تتأمّر عليّ الآن؟ ما الذي تعتقـ..."

توقّف عن الكلام بسرعة بعدما لاحظ باسل يقرّبه من سطح المستنقع وغيّر نبرة تحدّثه: "انتظر، كن صبورا، كن صبورا."

قال باسل بنظرة ملولة: "ألا تتعلّم الدرس؟ كرّرها مرّة أخرى ولن أتوقّف مهما فعلت."

"اخرس يا أيّها اللعين!" صرخ الرمح فلاحظ عندئذ باسل يرمقه بتلك النظرات وتلك الابتسامة، لكنّه لم يتراجع هذه المرّة واستمرّ: "لقد كنتَ البادئ أصلا. لم أكن لأتجاهلك لولا تصرّفك الحقير تجاهي. إنّني سيّد عظيم كان يلقي كلماته المنيرة على عقلك الضئيل، لكنّك تجاهلت كلامي كلّه، وليس فقط مرّة أو مرّتين، بل لأيّام يا أيّها الجاحد الوغد. هل تعلم كم هذا مخزٍ؟ هذا مذلّ لدرجة الموت!"

"آه، هذا؟" بدا باسل يتذكّر شيئا ما قبل أن يقول: "كلّ ما سمعت هو مدحك لنفسك، فكيف لي أن أنصت لشيء كذاك؟"

"هاه؟" تفاجأ الرمح فقال: "وماذا عن الشروط التي أخبرتك عنها؟"

"أيّ شروط؟" استغرب باسل.

"انسَ الأمر!" التزم الرمح الصمت بعد ذلك.

انتظره باسل حتّى يتكلّم، لكنّه لم يفعل، فوجّهه نحو سطح المستنقع من جديد.

صرخ الرمح فجأة: "اللعنة، هل كلّما أردتني أن أتحدّث توجّهني نحو هذه القذارة؟ كن متفهّما يا وضيع."

عبس باسل: "تكلّم."

"لا أعلم."

سمع باسل الرمحَ يقولها، فعبس وقرّبه من سطح المستنقع ثانية، فصرخ الرمح: "إنّني حقّا لا أعلم يا أيّها الوغد. إنّك تعلم أنّ شخصا بعظمتي لا يحتاج للكذب على أمثالك. هيّا، أبعدني عن هنا."

وقف باسل ونظر إلى الرمح متفاجئا: "ماذا؟ هل حقّا لا تعلم؟"

"هذا ما قلته لك أكثر من مرّة. هل أصبت بالصمم؟"

سأل باسل بنفس تعبيره المستغرب: "كيف ذلك؟ أو لست تملك تحكّما شبه كلّي على هذا العالم الواهن؟"

"صدقت في ذلك." أجاب الرمح بافتخار: "عظمتي تسمح لي بفعل ما أشاء في هذا العالم الثانويّ، فروحي جزء من روح مالكه الأصليّ، ولكن حتّى أنا لا أستطيع إيجاد مصدر طاقته. لقد بحثت في ذلك لتمضيّة الوقت من قبل، وأمضيت وقتا طويلا للغاية محاولا، لكن مللت ولم أشأ أن أجده بعد الآن."

نظر إليه باسل باستخفاف: "هل حقّا يجب أن تتكلّم بهذه الطريقة المتعالية دوما؟ أليس لم تستطع إيجاده واستسلمت فقط؟"

"همف،" استنكر الرمح ما قال باسل: "ليس وكأنّ حشرة مثلك ستفهم عظمتي على أيّ حال. لا فائدة، لا فائدة."

تنهّد باسل وقال: "صدقت في قولك يا أبله؛ لا فائدة منك ترجى."

"هاه؟" صرخ الرمح: "أيقول هذا الشخص الذي لم يستطع أن يفهم شيئا بالرغم من أنّه يدّعي السيطرة على مالك هذا العالم؟"

ردّ باسل: "لستُ أسيطر عليه، وإنّما أقمعه."

استغرب الرمح: "همم؟ وكيف تحصّلت على المفتاح إذن؟ لم تكن لتنجح لولا سيطرتك عليه تماما."

ابتسم باسل: "لو كان لديّ المفتاح من البداية لكنت قد دخلت من البداية. لمَ قد أزعج نفسي بالمرور باختبارك السخيف؟"

تجاهل الرمح جزء السخيف كما لو أنّه بدأ يعتاد على هذا الوضع بينه وبين باسل، وقال: "ما الذي فعلته إذن؟ هل هذا له علاقة بالكيفيّة التي كنت تعود فيها من الغرق والتعرّض للامتصاص من المصفوفة في آخر اللحظات؟"

ارتفعت حافّة فم باسل قليلا: "ذلك صحيح. ليس لديّ السيطرة عليه، ولكن يمكنني اختلاس النظر على بعض الأشياء. لقد استخدمت الحكمة السياديّة لتحليل المصفوفة والتحكّم في السارق الخسّيس بتزامن."

"ما ظهر لك كاقتراب امتصاص المصفوفة لي لفعلا حقيقة، ولكن لولا ذلك لما كنت لأستطيع فهم بعض أسرارها ولو بالحكمة السياديّة. وعندما كنت أستطيع إنقاذ نفسي، فقد كنت أربط ما تعلّمته من أسرار من ما سلبته من السارق الخسّيس، وبذلك كنت أجد الحلّ في كلّ مرّة حتّى استطعت في النهاية فكّ لغزها كلّيّا واكتشاف المفتاح."

"همف،" استنكر باسل: "حتّى أنّه جعل الترتيل عند الفتح يمدح نفسه بتعالٍ. يمكنني أن أعلم قليلا كيف أصبحتَ بهذا الغرور يا أبله. ولكن لا تقلق، سوف تستقيم في مساري الروحيّ جيّدا."

"أستقيم؟" ردّ الرمح بغرور: "إنّني دوما في قمّة استقامتي ومستعدّ لاختراق مؤخّرتك في أيّ وقت."

تنهّد باسل على حال الرمح وكلماته السيّئة التي لا تنتهي.

"على كلٍّ،" أكمل الرمح: "ألا يمكنك فقط أن تفعل ما فعلته عند دخولك إلى هنا من أجل إيجاد المصدر؟"

هز باسل رأسه: "لقد أخبرتك أنّني أخاطر بكلّ شيء. في أيّ وقت أختلس فيه النظر على السارق الخسّيس، يضعف الختم الذي عليه. لو حاولت استخدامك كسلاح روحيّ، نفس الشيء سيحدث بما أنّك تُعدُّ جزءا من روحه، ولو استخدمت هذا العالم لصالحي أكثر من اللازم ولو فقط استخلاص الطاقة الروحيّة منه، فسيضعف الختم. فما بالك إذا اعتمدت عليه من أجل إيجاد المصدر؟ قد يستغلّ هذه الفرصة ليُكسر الختم نهائيّا عبر ارتباطه بالمصدر بسببي."

صمت الرمح لمدّة لا بأس بها قبل أن يقول: "وأنا الذي ظننتك مجنونا منتحرا."

ابتسم باسل: "أنا فقط أعلم متى أتوقّف."

قال الرمح ساخرا: "فافافا، ألم تقل سابقا أنّه لا حدود لآفاقك؟"

نظر إليه باسل بعبوس ثمّ وجّهه نحو سطح المستنقع مرّة أخرى.

صرخ الرمح كما كان يصرخ منذ أن التقى هذا الشقيّ: "لا تعبث معي يا أيّها اللعين!"

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائيّة أو نحويّة.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/11/19 · 810 مشاهدة · 1770 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024