253 – شجاعة الصناديد وعصارة أملهم
عندما تحرّك باسل والرمح بنيّة الخروج، حلّق فجأة الباب الذي أتى بباسل إلى هنا وذهب إلى جانبهما وبالضبط إلى جانب قدميْ باسل كما لو أنّه يخبره أن يركب فوقه.
فقط عندما نوى باسل الخروج من هذا المكان ظهرت وسيلة خروجه، وبالطبع كان هذا بفضل امتلاكه لمفتاح هذا العالم.
وضع باسل قدمه على الكلمات العتيقة التي تُقرأ 'أنا السلطان' ثمّ حلّق إلى الأفق، وفجأة أشعّ الضوء بشكل شديد من الباب حتّى اختفت المناظر التي كان باسل يراها، فقط ليتحوّل الضوء بعد ذلك إلى ظلمة غير محدودة.
استمرّت الظلمة في إحاطتهما لوقت غير معلوم حتّى وجدا نفسيهما أمام المدخل الذي دخل منه باسل إلى هنا والذي صار مخرجا لهما الآن.
نزل باسل والرمح فانغلق الباب وراءهما بشكل صعوديّ على عكس الدخول عندما نزل للخلف، والتصق بعد ذلك في مكانه كما لو أنّه لا يمكن فتحه.
نظر باسل بعد ذلك إلى الباب لوقت طويل فلاحظ الرمح ذلك وعلم أنّ تينك العينين هما عينا الفضول والاهتمام الشديد.
بالطبع كان باسل مهتمّا في هذا الباب؛ لم يُلقِ له بالا سابقا لأنّ اهتمامه بالكوخ نفسه والعالم الثانويّ كان أشدّ، ولكن بعدما أشبع فضوله نوعا ما بخصوص ذينك الاثنين، صار اهتمامه موجّها نحو الباب.
قال بعينين جدّيتين: "هذا الباب... هل هو حقّا باب؟"
استغرب الرمح من كلامه: "ما الذي تقصده؟ بالطبع هو باب، ألم ترَ ذلك بنفسك؟"
حدّق باسل إلى الباب بنفس العينين لكنّه لم يستطِع تخمين شيء، فاستسلم للآن كونه يملك شيئا أهمّ ليفعله.
اهتمّ الرمح بالأحرى في شكّ باسل؛ لا يعلم لماذا، لكنّه بدأ يكوّن ثقة غريبة تجاه أحاسيس هذا الغرّ الذي كشفّ طنّا من الأسرار من أبسط التلميحات.
سأل الرمح باسل بعدما جُذِب اهتمامه: "لماذا اعتقدت ذلك؟ ما الذي أثار شكّك؟"
كان باسل ينوي التحرّك لكنّه توقّف ثمّ أجاب: "ذلك... قد يبدو هذا غبيّا في نظرك، لكنّني وجدت قصصا عندما زرت غرفة أحد أعدائي السابقين، ولسبب ما هناك شيء مشابه لما فعله هذا الباب عندما نقلنا في إحدى تلك القصص."
قال الرمح: "أمم... عمَّ تتحدّث هذه القصّة؟ ما اسمها؟"
لم يخبر الرمح باسل أنّ هذا شيء غبيّ وسأله باهتمام على عكس ما توقع باسل، والذي بدوره حكّ وجنته بسبّابته وردّ: "لا أعلم عن اسمها الأصليّ، لكنّني أطلقت عليها اسم 'الفانوس السحري'. تتكلّم عن فتى فقير وجد فانوسا سحريّا فصار غنيّا وقويّا، واكتسب بعض الكنوز أثناء ذلك، وأحد هذه الكنوز سمح بالتنقّل بكلّ سهولة، وذاك هو الكنز الذي ذكّرني بهذا الباب عندما نقلنا."
لم يقل الرمح شيئا فأكمل باسل: "جعلني ذلك أشكّ نوعا ما، لكنّني أيضا أظنّ أنّ القصّة التصقت بذهني بعدما أعجبتني وهذا تأثيرها فقط. لا تهتمّ بذلك."
لم يردّ الرمح فتحرّك باسل للأمام ونزل الأربع عشة درجة بدون مشقّة، فتحرّكت التماثيل فجأة عندما وصل إليها وانحنت له بالضبط مثلما فعلت عند دخوله. ومباشرة بعد ذلك صدى صوت: [الصناديد في انتظار السلطان!]
كان الرمح متفاجئا من هذا المنظر وتذكّر ما حدث عندما انحنت له التماثيل عند دخوله أيضا. لقد صُعِق في ذلك الوقت تماما عند حدوث ذلك، لكنّه نسي السؤال بشأن ذلك بعدما تفاجأ بأشياء أخرى صعقته أكثر، مجازيّا وحرفيّا.
لم يستطِع منه نفسه من طرح السؤال: "لماذا ينحنون لك؟ لماذا ينادونك بالسلطان؟ لا أظنّ أنهّم سينحنون لك هكذا حتّى لو امتلكت المفتاح. كيف فعلتها؟ كيف جعلت هؤلاء الصناديد العبيد ينحنون لشخص آخر غير سيّدهم؟"
نظر باسل إلى الرمح لبعض من الوقت ثمّ ردّ: "الصناديد العبيد قلتَ... لا أحبّذ سماع هذا. من الآن فصاعدا، نادهم 'الصناديد' فقط."
ردّ الرمح بسرعة: "من يهتمّ بهذا الشيء التافه! هيّا فلتجبني على سؤالي فقط."
كان باسل يبدو يحترم أولئك الملقّبين بالصناديد العبيد، ولم يرد سماعهم ينادون بهذه الطريقة أبدا.
لقد علم عنهم بسبب النظرة التي اختلسها على السارق الخسّيس عندما نقل له معلّمه الحكمة السياديّة. لقد كانوا كلّهم أبطالا جدراء ولم يحقّ لأحد مناداتهم بالعبيد في نظره.
أجاب باسل: "إنّي لم أجعلهم ينحنون لي كما قلت. إنّهم يفعلون هذا من تلقاء أنفسهم."
صرخ الرمح: "لا تمزح معـ..."
قاطعه باسل بإكمال كلامه السابق: "أنا فقط... تحدّثت معهم. كلّ ما فعلته هو تبادل حوارات صريحة معهم."
تفاجأ الرمح كما لو أنّه لم يتفاجأ بسبب باسل من قبل؛ فهذا الشقيّ أمامه حقّا كان يفعل في كلّ مرّة شيئا استثنائيّا.
قال بسرعة: "تحدثتَ معهم؟ هل تخبرني أنّهم يفعلون كلّ هذا فقط لأنّك تحدّثت معهم؟"
تنهّد باسل وأجاب: "إنّك تعلم أنّ مصفوفة هذا العالم الثانوي تقوم على هذه التماثيل، على هؤلاء الصناديد. الأمر هو، عندما كنت أحاول إيجاد المفتاح بشقّ الأنفس باستخدام الحكمة السياديّة وما اكتشفته من السارق الخسّيس، عندما كنت أحاول فكّ هذه المصفوفة، استطعت لوهلة الشعور بإرادات عديدة تلتمس العون منّي."
"كانت تنادي 'يا من كان الأوّل في بلوغ هذا المدى، حرّرْنا، وأعدْ لنا فخرنا.' وبصراحة، شككت أنّه ربّما يكون فخّا من المصفوفة لذا تردّدت لوقت طويل قبل أن تصبح الأصوات أقوى فأقوى حتّى رأيت فجأة بعضا من الذكريات العتيقة. ذكريات مُحِقت فيها قبائل وشعوب بينما قاتل هؤلاء الصناديد بكلّ فخر، ولكن في نفس الوقت امتلأت هذه الذكريات بحسرة وحزن شديديْن جعلاني أختبر مآسي تحطّم الروح لا القلب فقط."
"فعلا كنت شاكّا، لكنّني وثقت بتلك الحسرة وذلك الحزن. تلك المآسي لم تكن شيئا يُستخدَم لإغوائي؛ لقد كانت شيئا حقيقيّا؛ شيئا كان لا بدّ لي من الاقتناع به؛ هكذا جعلني هؤلاء الصناديد أقبل نداءهم. لو كان أحدهم مضطرّا لإغوائك بنوايا سيّئة بأسرع وقت ممكن، فلن يستخدم هذا، بل سيحاول بكلّ جهده تحفيز جشعك وطمعك بشتّى الطرق."
تنهّد باسل مرّة أخرى وأكمل: "لقد علمتُ عنهم بسبب السارق الخسّيس فيما قبل، ولكن عندما رأيت تلك الذكريات عبر إراداتهم فهمت ما شعروا به أخيرا. ولا أعلم عن السبب بالضبط لكنّنني أظنّ أنّه بسبب تفهّمي لهم... هم، أو إراداتهم، بدأت تخاطبني."
***
قالوا: "يا أيّها الشجاع الذي بلغ هذا الحدّ، كما فهمت مشاعرنا استطعنا بلوغ مشاعرك، وإنّما فعلا نتشارك الهدف. حيواتنا الفخورة ما هي إلّا أرواح مستعبدة الآن، لكنّنا بكلّ جهدنا، وبعصارة أملنا، انتظرنا أن يظهر شخص مثلك."
أكملوا: "بالرغم من أرواحنا المستعبدة إلّا أنّنا استطعنا الإبقاء على جزء بسيط من وعينا وإراداتنا كملاذنا الأخير، معلّقين آمالنا على ظهور شخص شجاع وقادر على بلوغ هذا الحدّ. واليوم، فعلا قد ظهر المنتظر، وفعلا قد تحقّقنا من مشاركتك لنا نفس الهدف."
ردّ باسل عليهم بينما ما يزال مندهشا: "هل تخبرونني أنّكم حتّى في هذا الموقف ما زلتم لم تفقدوا الأمل؟! حتّى وأنتم على هذا الحال ما زلتم تقاتلون؟!"
فقط ما قدر الشجاعة والصبر والأمل الذي يجب أن يتحلّى به الشخص حتّى ينتظر عصورا فقط من أجل لحظة كهذه، بينما روحه مستعبدة؟ حتّى باسل كان مصعوقا بهذه الحقيقة، وازداد احترامه لهؤلاء الصناديد أكثر فأكثر.
قالوا: "لقد فشلنا وليس يئسنا. لربّما تظلم الشمس في جهتنا، لكنّها تشرق في جهة أخرى."
بلع باسل ريقه وصعدت معه القشعريرة؛ فقط إلى أيّ مدى سيستمرّ هؤلاء في القتال من أجل العوالم؟
غُمِر باسل بتلك المشاعر الجيّاشة ولم يستطِع أن يقف هناك متفرّجا.
ضرب بيده على صدره وصرّح: "لطالما احترمت الشجاع، ولكنّ شجاعتكم فريدة. لطالما تشبثت بالأمل، لكنّكم أعطيتم الأمل مفهوما جديدا. ولهذا، أنا، باسل بن جاسر ولطيفة، والابن الروحيّ لإدريس الحكيم وخليفته، أعدكم أن أردّ لكم حقّكم وفخركم وأحرّر أرواحكم. سأربط نفسي بشجاعتكم وأغطيها بأملكم حتّى يحين اليوم الموعود."
بدت الأصوات متفاجئة إذ قالوا: "هل تخبرنا أنّك ستحملنا على عاتقك طوال الطريق؟ هذا المسار الروحيّ لم يقدر عليه أّيٌّ منّا حتّى؛ حِمْلُ كلُّ واحد منّا كان كافيا لسحق صاحبه، وأنت ها هنا تريد حَمل كلّ أحمالنا وإكمال المسار الروحيّ؟"
وقف باسل شاخصا وقال: "ذاك مساري الروحيّ."
صمتت الأصوات لفترة قبل أن تنبثق مرّة أخرى: "سمعنا واكتفينا. وكما قررّت أن تحرّرنا، وتعيد لنا فخرنا، فقسما لك ولاءنا."
شعر باسل بالشرف والفخر بسبب تلك الكلمات التي تلّقاها وأقسم بدوره: "وأنا بدوري، يا أيّها الصناديد، ستكون هذه الخطوة الأولى نحو القمّة، نحو السيادة العظمى. بصفتي حامل أعبائكم في مساري الروحيّ، أعدكم أن أحرّركم من لعنتكم الأبديّة. لأقطعنّ لسان من يلقّبكم بالعبيد مرّة أخرى، ولأخلدنّ أسماءكم كالأبطال الذين قاوموا وقاتلوا من أجل العوالم."
كان هذا هو ما كرّر باسل قوله عندما كان يعبر الطريق الذي صنعه الصناديد عند دخوله.
***
كان الرمح يستمع بهدوء فقال فجأة: "ماذا إذن؟ هل ستقطع لساني؟ فافافا! للأسف، أنا لا أملك لسانا."
حدّق باسل إليه بعينين ملولتين وقال: "على كلّ، بسبب حدوث ذلك استطعت النجاح بشكل أسهل عبر مساعدتهم المستميتة في حل المصفوفة. يوما ما يا أبله، عندما تصير هاته الأرواح من جديد أولئك 'الصناديد الأحرار'، لن تجرؤ على مناداتهم بذلك الاستحقار."
"همف..." استنكر الرمح كلام باسل وقال: "ذلك لا يهم، كلّ ما عليّ هو اختراق مؤخّراتهم وستراهم خاضعين لي."
تنهّد باسل بسبب تفكير الرمح وبسبب أنّه لم يفهم الفكرة الرئيسيّة.
لم يعنِ باسل أنّهم سيحاولون فرض سيطرتهم وطغيانهم، لكنّه لمّح إلى شجاعتهم التي شهدها والتي تجعل القلب يرفرف.
تحرّك باسل للأمام فقال الرمح: "إذن أنت تقول لي أنّهم ما يزالون يملكون القدرة على فعل شيء كهذا لشخص غير سيّدهم؟ فتلك كانت مجرّد شظايا من إراداتهم ما زالت سليمة، فكيف لهم أن يستطيعوا أن يفعلوا هذا بها فقط؟"
فكّر باسل في ذلك وسرح بأفكاره بعيدا. بالفعل سؤال الرمح كان في محلّه، لكنّ الرمح لم يعلم شيئا عن شجاعة هؤلاء ولا عن الأمل الذي يتحلّون به؛ لذا حتّى لو كانت مجرّد شظايا، كانت إراداتهم قويّة لدرجة لا توصف حتّى أنّهم استطاعوا القيام بذلك شرط أن يكون الشخص الذي ينحنون له ويقرّون به يملك المفتاح على الأقلّ.
لم يجب باسل الرمح وبدل ذلك قال: "إن لم تفهم كلامي السابق فلن تفهم ما سأجيبك به. هيّا بنا، هناك مسألة هامّة في انتظارنا."
انزعج الرمح: "ها؟! لا تغترّ بنفسك يا أيّها الشقيّ، أنا الرمح الطاغيّة..."
بدأ الرمح يروي سيرته الذاتيّة كعادته واستمرّ في ذلك طوال الطريق حتّى خرج باسل من العالم الثانوي ووجد نفسه بالمجال الذي يحيطه.
كان هذا المجال يعزل هذا المكان عن العالم الواهن بالرغم من أنّه جزء منه في الأصل، وبسبب ذلك لا تعمل خواتم التخاطر حتّى الآن. فعندما سقط باسل في غيبوبة بعد قتال الأقدم الكبير فالتشر، لم تستطِع أنمار الاتّصال بمعلّمها إلّا بعدما خرج من هذا المجال.
وبالطبع باسل حاول الخروج من هذا المجال، إلّا أنّه في طريقه لاحظ وجود كائن يتربّص به.
كان هذا الكائن يستطيع إخفاء حضوره في الواقع وحتّى أنّه لم يسمح لنيّة قتله بالتسرّب منه. كان متخفّيا بشكل مثاليّ، إلّا أنّ باسل كان لديه إحساس كلّيّ بهذا المجال في هاته اللحظات بما أنّه شخص يملك مفتاح العالم الذي وُضِع هذا المجال من أجله.
ارتفعت حافّة فمه ثمّ التفت إلى الجهة التي يختبئ فيها ذلك الكائن وقال: "نعم، ليس هناك وحش آخر قد يكون اخترق إلى المستويات الروحيّة قبلك في هذا العالم. وبالطبع، بالرغم من أنّك كنت واثقا في قوّتك الحاليّة التي جعلتك تأتي إليّ وحدك إلّا أنّك ما زلت حذرا كما كنت."
"أو ربّما أتيتَ لوحدك وتركت الآخرين بعيدا حتّى لا أستطيع كشف حضورهم نظرا إلى كونهم لا يستطيعون الهروب من استشعاري الروحيّ الآن. نعم، هذا يبدو أقرب للحدوث. اعتقدتَ أنّك لن تُكشف أبدا إن كنت لوحدك بمستواك الحالي."
لم يستقبل باسل إشارة من الجهة التي يتحدّث إليها، فرفع يده وقال ساخرا: "حقّا... إنّك حذر للغاية. لا تقلق، إنّني لا أعتقد أنّك هناك وأجرّب الأمر، بل إنّني متأكّد أنّك هناك وأنتظر ظهورك؛ فأنا على الأقلّ أريد إلقاء نظرة عميقة عليك قبل أن أبدأ القتال معك."
انتظر باسل للحظات بعد أن قال ذلك، فبدأ ظلّ ذلك الكائن يتحرّك كما لو أنّه وجد كلام باسل يخلو من الكذب واقترب ببطء حتّى ظهرت صورته الكاملة.
"إذن هذا هو شكلك."
***
من تأليف Yukio HTM
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائيّة أو نحويّة.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.