الفصل الأول: اللقاء وسط الأنقاض
كانت السماء ملبدة بالغيوم الداكنة، وكأنها تعكس الدمار الذي أحاط بمدينة كانت يومًا تنبض بالحياة. المباني المهدمة تمتد على طول الأفق، والأبراج التي كانت ترفع رأسها في السماء في الماضي أصبحت الآن أشباحًا، متداعية تحت وطأة الزمن والخراب. كان الزجاج المحطم يتناثر في كل زاوية، وصرير الرياح بين الأنقاض يروي قصة الألم الذي اجتاح المكان منذ أن اندلعت الحرب. في قلب هذا الخراب، كانت ملاذ تسير ببطء على ركام الشارع الرئيسي، تحمل حقيبة صغيرة تضم ما تبقى من حياتها السابقة، وكأنها تحمل ذكريات قديمة في حقيبتها المثقوبة.
ملاذ، ذات العشرين عامًا، كانت قد اعتادت على هذا المشهد المظلم الذي أصبح يرافقها يوميًا، لكن رغم مرور الوقت، لم تستطع أبدًا التكيف مع مشهد المدينة المدمرة. فقدت عائلتها في غارة جوية قبل أشهر، ومنذ تلك اللحظة أصبحت وحيدة، تقضي أيامها بين البحث عن الطعام وتأمين مكان آمن للبقاء. كانت تركز فقط على النجاة، وتحاول أن تنسى الملامح الدافئة التي كانت تعرفها.
كل خطوة تخطوها كانت تصدر صوتًا خفيفًا على الحطام المنتشر في كل مكان. كانت الأرض قاسية، مثل قلب العالم الذي لم يعد يهتم بمن يعيشون عليه. كانت تسير بحذر، عيونها تتنقل بين الأنقاض بحثًا عن شيء قد يساعدها على البقاء، وفي قلبها شعور دائم بالخوف.
في الجهة الأخرى من الطريق، كان هيسوكا، شاب في منتصف العشرينيات، جالسًا على درجات بناية شبه مدمرة، ممسكًا بكتاب مهترئ بين يديه. كان الكتاب قديمًا جدًا، صفحاتها بالية وعنوانه بالكاد يمكن قراءته. بدا وكأنه يحاول الهروب من الواقع عبر صفحاته الصفراء التي حملت ذكريات أيامه البعيدة. وجهه كان شاحبًا، وعيناه تحملان ثقلًا كبيرًا، لكن لم يكن يفقد تلك النظرة التي تعكس إصرارًا على البقاء، رغم كل شيء.
كان هيسوكا قد اعتاد على هذا المكان. اختار هذا الركن تحديدًا من أجل الهدوء النادر الذي يتيح له التفكير. كان بعيدًا عن مناطق الهجوم المباشر، لكنه كان يعرف أن وجوده هنا مجرد وهم من الأمان. ومع ذلك، كان يواصل الحياة يوماً بعد يوم، وكأن البقاء في هذا الخراب هو أفضل ما يمكن فعله.
لحظة من الصمت مرّت بين هيسوكا وملاذ، قبل أن تُقطَع هذه اللحظة فجأة. عندما التقت أعينهم للمرة الأولى، كانت نظراتهم متشابكة، كل منهما ينقل ما في قلبه للطرف الآخر دون كلمات. كانت هناك نوع من الفهم الصامت بينهما، ولكن أيضًا هناك تردد. ترددت ملاذ في الاقتراب أكثر، فالمكان الذي تواجد فيه هيسوكا كان غير مألوف بالنسبة لها. المدينة أصبحت خاوية إلا من القليل الذين تحدوا الموت يوميًا، وكل شخص غريب يمكن أن يكون مصدر خطر.
ثم، بعد لحظة من التردد، قررت ملاذ أن تقترب بحذر. كان صوت حذائها على الحطام الخفيف يُسمع بوضوح في هذا الصمت القاتل، جعلها تشعر بالوعي الكامل لوجودها في هذا العالم الذي ليس فيه مكان للأمان. وعندما رفعت عينيها لرؤية هيسوكا عن كثب، لاحظت النظرة الصامتة التي كان يحملها، وكأنها تتساءل: "ماذا يبحث هذا الشاب هنا في وسط هذا الخراب؟"
رفع هيسوكا نظره نحوها، ثم ببطء، قال بصوت منخفض لكنه ثابت: "من أنت؟"
ملاذ ترددت قليلاً قبل أن تجيب، وكانت كلماتها مشوبة بالحذر: "ملاذ... أنا فقط... أبحث عن مكان آمن."
لم يكن هناك الكثير من الأمان في هذا العالم، لكن هيسوكا فهم في تلك اللحظة ما تعنيه كلماتها. أومأ برأسه، ثم أشار بيده نحو الداخل، حيث كانت الغرفة الصغيرة التي اتخذها مأوى له وسط الأنقاض. "ليس لدي الكثير، لكن يمكنك البقاء هنا الليلة. المكان آمن نسبيًا."
تقدمت ملاذ ببطء، مترددة في قبول دعوة شخص لا تعرفه، لكنها كانت تدرك أن البقاء وحدها في الشوارع يعني أن تتعرض لمخاطر أكبر. عندما دخلت الغرفة، لاحظت أنها مرتبة بشكل غير متوقع وسط كل هذا الفوضى. كانت زاوية صغيرة تضم فراشًا مصنوعًا من البطانيات القديمة، وعلبة صغيرة تحتوي على بعض المعلبات التي لا تكفي إلا ليوم واحد. ولكن ما لفت نظرها أكثر هو تلك العيون التي كانت تراقبها بهدوء.
"أعيش هنا منذ فترة،" قال هيسوكا وهو يجلس بجانب النافذة المحطمة التي تغطيها الأتربة. "لا شيء يبقيني، لكن لا شيء يدفعني للرحيل أيضًا." كانت كلماته تحمل نوعًا من الاستسلام، وكأن هذا المكان قد أصبح جزءًا من حياته، حتى وإن كان مليئًا بالحطام.
جلست ملاذ على الأرض بهدوء، تحتضن حقيبتها كما لو كانت تخشى أن تُسلب منها. شعرت بشيء غريب، نوع من الراحة بسبب وجود شخص آخر هنا، ولكنها كانت تدرك تمامًا أن هذه الراحة قد تكون مؤقتة.
"لا أحد لديه سبب للبقاء،" همست وكأنها تحدث نفسها أكثر من حديثها إلى هيسوكا. كانت كلماتها تعكس شعورًا باليأس العميق، لكن أيضًا كانت هناك قوة كامنة في كلماتها.
صمت طويل خيم على المكان، لم يكن من النوع المحرج، بل كان يشبه الصمت الذي يحدث بين من يعيشان في عالم لا مكان فيه للكلمات الفارغة. كانت المدينة التي حولتهما إلى غرباء هي ذاتها التي جمعتهما.
ثم، بعد فترة طويلة من الصمت، سأل هيسوكا بهدوء، "كيف نجوت؟"
رفعت ملاذ عينيها نحوه، تتردد للحظة قبل أن تجيب. "كنت مع عائلتي عندما وقعت الغارة. كنا نحتمي في قبو صغير، وعندما خرجنا... لم يبقَ أحد." ثم صمتت، وكأن الكلمات تعجز عن وصف الألم الذي عاشته. "ومنذ ذلك الوقت، أنا وحدي."
هيسوكا أشاح بنظره إلى الخارج، وكان واضحًا أنه قد استعاد ذكريات مؤلمة خاصة به. "أنا أيضًا فقدت كل شيء. كنا خمسة إخوة. الآن... أنا فقط." كانت كلماته بمثابة مفتاح لذكريات مؤلمة بالنسبة له، تلك الذكريات التي يحاول جاهداً دفنها في أعماق قلبه.
لكن رغم كل شيء، ورغم أن الكلمات لم تكن كافية لاحتواء الحزن الذي كان يحيط بهما، إلا أن وجودهما معًا جعل كل منهما يشعر بشيء غير قابل للتفسير. كانا معًا في هذا العالم المدمر، وكان هذا بحد ذاته بداية لفهم عميق ومعاناة مشتركة.
وفي تلك الليلة، نامت ملاذ لأول مرة منذ أشهر دون أن تخشى الموت الذي يترصد في كل زاوية. كان النوم هادئًا بالنسبة لها، لكن قلبها كان مليئًا بشعور غريب. أما هيسوكا، فقد شعر لوهلة أن وحدته التي كانت تقتله ببطء قد بدأت تتلاشى، ربما لأنها بدأت تصبح مشتركة مع شخص آخر...