عندما انطلقت السيارة، لم أكن أعرف إلى أين يأخذني هذا الرجل، لكن شيئًا في داخلي أخبرني أنني كنت أسير مباشرة إلى مكان لا يمكنني العودة منه بسهولة.
ولكن، أليس هذا ما كنت أبحث عنه طوال الوقت؟
الإجابات؟
الحقيقة؟
أم كنت فقط أغرق أكثر في عالم لا أستطيع حتى أن أحدد إن كان وهمًا أم حقيقة؟
تحركت السيارة بسلاسة، كأنها تنزلق فوق الهواء بدلاً من العجلات. جلست في مقعدي بصمت، أراقب المدينة التي بدأت تتغير أمام ناظريّ. لم يكن هذا المكان يشبه أي شيء رأيته من قبل.
أضواء النيون كانت تملأ الشوارع، تشكل أنماطًا هندسية على واجهات المباني الشاهقة، تومض كنبضات إلكترونية في جسد المدينة النابض بالحياة. السيارات العائمة كانت تنزلق فوق المسارات المغناطيسية، ترتفع وتنخفض بسلاسة دون أي صوت يُذكر سوى همسات الطاقة المتدفقة حولها. كانت الطرق متشابكة كشبكة عنكبوت ضخمة من الضوء، والمباني ترتفع حتى تكاد تلامس السحاب، كلها تتوهج بألوان تتغير مع الوقت، كأنها كائنات حية تتنفس مع المدينة.
لم أكن أعرف كم من الوقت بقيت أحدق، لكن الشعور بالرهبة لم يتركني.
"لم تتوقعي هذا، أليس كذلك؟" جاء صوت السائق الهادئ، لكنه لم يكن يحمل سخرية، بل مجرد ملاحظة محايدة.
هززت رأسي ببطء. "لم أكن أعلم أن العالم يمكن أن يكون... هكذا."
"إنه ليس العالم." قال وهو يزيد من سرعة المركبة. "إنه عالمه."
قبل أن أتمكن من سؤاله عمن يقصد، شعرت بجسدي ينجذب للخلف قليلاً مع التسارع المفاجئ. نظرت من النافذة واتسعت عيناي…
السيارة لم تعد تسير على الطرقات.
بدأت ترتفع.
كانت تطير.
لم يكن هناك أجنحة، ولا أي صوت يشير إلى آلية معقدة تدفعها للأعلى، ومع ذلك، وجدنا أنفسنا نحلق في الهواء بسلاسة مذهلة. تحتي، تلاشت شوارع المدينة تدريجيًا، والضوء تحول إلى شبكة بعيدة من النبضات الكهربائية. كنت أشعر كما لو أنني أعبر بُعدًا آخر، كما لو أنني أنتمي لعالم قديم تم استبداله دون أن أدرك.
"كيف…؟" تمتمت، غير قادرة على إنهاء السؤال.
"التكنولوجيا هنا ليست كما تعتقدين." قال السائق ببساطة. "كل شيء في هذا العالم تم تصميمه ليتناسب مع قوة صاحبه."
"صاحبه؟"
نظر إليّ عبر المرآة، وعيناه السوداوان تلمعان بانعكاس الأضواء. "سايلوس."
شعرت بقشعريرة تمر عبر عمودي الفقري، كما لو أن مجرد اسمه كان يحمل وزنًا ثقيلًا لا يمكنني فهمه بعد.
ارتفعت السيارة أكثر، وشعرت بضغط خفيف في أذني، كأنني أصعد إلى ارتفاع شاهق. ثم، ببطء، بدأت بالانخفاض مجددًا. لم تكن وجهتنا مجرد مبنى آخر.
كانت قلعة.
---
هبطت السيارة بهدوء أمام مدخل ضخم، والأنوار الخافتة تسلط ظلالًا طويلة على الأرضية المصقولة. عندما فتحت الباب، شعرت بأنفاسي تتباطأ للحظة.
كانت القلعة أمامي تحفة فنية تجمع بين الفخامة والرهبة.
اللون الأسود كان الطاغي، يتخلله الأحمر العميق الذي بدا كدماء مجمدة داخل الأحجار العتيقة. البناء لم يكن حديثًا تمامًا، لكنه لم يكن قديمًا أيضًا—بل مزيج غريب من الإثنين، وكأن القلعة تنتمي إلى حقبة غير موجودة في أي تاريخ معروف.
حديقة واسعة امتدت أمامها، مزينة بتماثيل رخامية مظلمة، وأزهار نادرة ذات ألوان عميقة كأنها جواهر مزروعة في الأرض. النوافير كانت تعمل بهدوء، والمياه تنساب منها بصمت أشبه بالهمس.
الخدم كانوا في كل مكان، يتحركون في صمت، يرتدون زيًا أنيقًا من اللونين الأسود والأحمر، وجوههم محايدة، لا عاطفة فيها. أما الحراس… فقد كانوا كالأشباح، يقفون في زوايا الظلال، يرتدون الأسود بالكامل، عيونهم تراقب كل شيء دون أن ترف.
كان المكان ينبض بالقوة… وبالتهديد الصامت.
"من هنا، سيدتي." قال السائق بعد أن خرج من السيارة، مشيرًا لي أن أتبع خطواته.
لم يكن هناك خيار آخر، فمشيت خلفه، أشعر بعيون غير مرئية تراقبني من كل زاوية.
---
عندما وصلنا أمام باب ضخم، وقف السائق جانبًا وانحنى قليلًا.
"يمكنك الدخول الآن."
لم أتحرك على الفور. نظرت إلى الباب المصنوع من الخشب الداكن، المحفور بنقوش معقدة، كأنها تحكي قصة قديمة لم يُكتب لها أن تُنسى.
ثم، أخذت نفسًا عميقًا، ودخلت.
---
كان المكان… مذهلًا.
الغرفة كانت مكتبة فاخرة، سقفها عالٍ بشكل غير معقول، والجدران مغطاة بأرفف مليئة بالكتب التي تبدو وكأنها تعود لقرون مضت. شمعدانات ذهبية معلقة على الجدران، وأضواء خافتة تلقي ظلالًا طويلة على السجاد الفاخر.
وسط كل هذا، جلس سايلوس.
كان مسترخيًا على أريكة حمراء مخملية، تبدو وكأنها صنعت خصيصًا له.
يرتدي بدلة سوداء بالكامل، مفصلة بدقة على جسده القوي، تعكس الأناقة المطلقة. شعره الفضي كان يلمع تحت الضوء الناعم، كأنه شظايا ضوء القمر تجمعت في خصلاته. أما عيناه… فكانتا مشتعلة بلون أحمر عميق، كجمر خافت خلف زجاج أسود.
في يده، كان يحمل كأسًا من النبيذ الفاخر، يديره ببطء بين أصابعه كما لو كان يستمتع بمراقبة السائل الداكن يدور في زجاجه.
وعندما التقت عيوننا، ارتسمت على شفتيه ابتسامة مغرورة… ممتلئة بالثقة.
"أخيرًا." قال بصوت هادئ، لكنه اخترق الغرفة كلها.
"أهلاً بكِ، تونه.......في منزلي المتواضع"
___
اكتف يدي واسأله بصوت منزعج . "لما تركتني سابقا ان كنت ستجلبني الى هنا بكل من الاحوال .."
لم يبدُ على سايلوس أي تعبير عندما ألقيت سؤالي في الهواء، لكن شيئًا في وقفته تغيّر. كانت ملامحه لا تزال تحمل تلك الثقة المتغطرسة، لكن عينيه… عينيه بدا فيهما شيء مختلف، كأنما كنت قد لمست شيئًا لم يكن يودّ أن أقترب منه.
رفعتُ ذقني، انتظرتُ جوابه. لكنه، وكعادته، لم يكن مستعجلًا للرد.
"لما تركتني سابقًا إن كنت ستجلبني إلى هنا في كل الأحوال؟" كررتُ، بصوت أكثر ثباتًا.
أخيرًا، أمال رأسه قليلًا، وعادت تلك الابتسامة البطيئة إلى شفتيه.
"لأنني أردتُ أن أرى إن كنتِ ستعودين إليّ من تلقاء نفسك."
ضاقت عيناي. "هذا ليس جوابًا."
رفع كتفيه بلا مبالاة، وكأنه يخبرني ضمنيًا أنني لن أحصل على شيء آخر.
"ظننتُ أنكِ تكرهين أن يتم التحكم بكِ، تونه. فلماذا يزعجكِ أنني تركتُ لكِ بعض الحرية؟"
شعرتُ بشيء ساخن يتجمع في صدري، مزيج من الغضب والإحباط. "حرية؟ أنت من أرسل ذلك الرجل ليجلبني إليك، سايلوس. لم يكن لديّ خيار آخر!"
اقترب، خطواته هادئة، لكنها حملت معها شعورًا غريبًا جعلني أتراجع لا إراديًا. "لكنّكِ صعدتِ إلى السيارة بإرادتك، أليس كذلك؟"
لم أجب. لم أرغب في منحه ذلك الانتصار.
رأيته يراقبني بصمت، كأنه يحاول قراءة كل شيء كنت أفكر فيه. ثم، بهدوء، مال إلى الوراء وأمسك بكأس النبيذ الفاخر، وأداره قليلًا بين أصابعه قبل أن يرتشف منه رشفة صغيرة.
"لديكِ أسئلة كثيرة، تونه." قالها بصوت منخفض، لكنه حمل وزناً أكبر من مجرد كلمات عابرة.
"بالطبع لدي أسئلة!" انفجرتُ أخيرًا، لم أعد أستطيع تحمل هذا الغموض الذي يحيطني من كل جهة. "أنت تأخذني من مكان إلى آخر، دون أن تفسر لي شيئًا. جعلتني أعيش بين حقيقة مشوهة وكوابيس لا أفهمها. كيف تتوقع مني ألا يكون لديّ أسئلة؟"
لم يتحرك، فقط نظر إليّ للحظة طويلة، قبل أن يضع كأسه جانبًا ويقترب مني أكثر.
"إذن، اسألي،" همس. "لكن كوني مستعدة لسماع الإجابات."
جسدُي تجمّد. كانت كلماته تحمل شيئًا لم أكن متأكدة من استعدادي له. لكنني كنت قد وصلت إلى هذه المرحلة، لم يكن هناك مجال للتراجع.
تنفستُ بعمق، ثم قلتها: "من أنا، حقًا؟"
لم يبدُ سايلوس متفاجئًا. على العكس، كأنه كان ينتظر مني أن أنطق بهذا السؤال.
ثم، بابتسامة غامضة، أشار إلى الكرسي أمامه. "اجلسي، تونه… لدينا الكثير لنتحدث عنه."
ترددتُ.
كل جزء مني كان يخبرني بألا أجلس، بألا أمنحه هذا الشعور بأنني مستعدة للاستماع إليه بشروطه. لكن الحقيقة؟ الحقيقة أنني كنت بحاجة إلى الإجابات أكثر من حاجتي لأي شيء آخر.
سرتُ عبر الغرفة، عيناي لا تفارقان عينيه، وجلستُ على الكرسي المقابل له.
سايلوس، كما لو أنه راضٍ عن قراري، ارتشف رشفة أخرى من نبيذه قبل أن يضع الكأس جانبًا وينحني قليلاً نحوي، مرفقيه يستندان على مساند الأريكة الحمراء، كأنه على وشك كشف سرٍ خطير.
"سأخبركِ، تونه."
"لكن أولاً… قولي لي، ماذا تذكرين بالضبط؟"
شعرتُ بتوتر يجتاحني، كأنما سؤاله سحبني فجأة إلى تلك اللحظات التي لم أعد واثقة من كونها حقيقية أم مجرد أوهام. مضيتُ لحظة أفكر… بماذا أجيب؟
"أرى أشياء…" بدأتُ ببطء، عيناي تركزان على التفاصيل من حولي حتى لا أضطر لمواجهته مباشرة. "ومضات… أماكن غريبة… وجوه لا أتذكرها، لكنني أشعر أنها مألوفة." رفعتُ نظري إليه، إلى تلك العيون الحمراء التي تراقبني بصبر. "وأنت."
رفع حاجبه قليلاً، كأنه لم يتوقع أن أذكره بهذه السرعة.
"أنا؟"
"أنت دائماً هناك." ابتلعتُ ريقي. "لكنني لا أعرف كيف ولماذا."
ظل صامتًا للحظات. ثم قال بصوت هادئ، لكنه محمّل بثقل شيء أعمق: "لأنكِ كنتِ دائمًا معي، تونه."
شعرتُ بشيء يتجمد داخلي.
"هذا لا معنى له."
"بل له كل المعنى،" قال، متكئًا على الأريكة وكأنه يراقب تأثير كلماته عليّ. "أنتِ فقط لم تتذكري بعد."
"تذكرت ماذا؟" همست، قلبي ينبض بقوة.
ابتسم، لكن لم يكن في ابتسامته أي مرح. كان فيها شيء مظلم، شيء يشبه السر الذي يخشى الإفصاح عنه.
"تذكرتِ من تكونين حقًا."
"ومن أكون؟"
"كنتِ جزءًا من هذا العالم أكثر مما تتخيلين، تونه." قالها ببطء، كأنه يزن كل كلمة. "ليس كزائرة، وليس كضائعة تبحث عن مكانها. بل كعنصر أساسي فيه."
عقلي لم يستطع استيعاب كلامه بالكامل.
"لا… لا أفهم."
"بل ستفهمين." قال بثقة. "وأعدكِ، عندما يحين الوقت، ستتذكرين كل شيء."
شعرتُ بأن الأرض تنزلق تحت قدميّ. هذا ليس ما أردت سماعه. أردت الحقيقة، واضحة، مباشرة، وليس لغزًا آخر يضاف إلى الفوضى التي في رأسي.
"لماذا لا يمكنك إخباري الآن؟"
نظر إليّ نظرة طويلة، ثم قال بصوت منخفض:
"لأن بعض الحقائق، يا تونه، قد تدمر أصحابها إن عرفوها قبل الأوان."
جسدي كله تجمّد.
كانت كلماته تحمل شيئًا مخيفًا، شيئًا جعلني أتساءل… هل أنا مستعدة فعلًا لما سيأتي؟
"كفى، سايلوس!"
نهضتُ من مكاني، مشاعري تنفجر دفعة واحدة كبركان ظلَّ خامدًا طويلًا. لم أعد أحتمل المزيد من الألغاز، المزيد من أنصاف الحقائق، المزيد من تلك النظرات التي توحي بأنه يعرف شيئًا لا يريد أن يخبرني به.
"مرة تخبرني أنني كنت مجرد سلاح بيد والدي وكايلب!" قلتُ، صوتي يزداد حدة مع كل كلمة. "والآن تقول إنني مركز العالم؟! أو ربما أنني أنتقل بين العوالم وكأنني في فيلم سينمائي؟!"
لوهلة، لم يقل شيئًا.
فقط جلس هناك، يراقبني بنفس الهدوء المستفز، كأنه لم يفاجأ بانفجاري. كأنما كان يتوقعه.
هذا زاد من غضبي.
"هل هذا كله لعبة بالنسبة لك؟!" تقدمتُ نحوه، قبضتا يديّ مشدودتان عند جانبيّ. "هل تستمتع برؤيتي أضيع بين ما هو حقيقي وما هو كذب؟ هل يعجبك أن تراني أفقد عقلي؟!"
تلاشت ابتسامته المتعجرفة أخيرًا، وحلَّت محلها نظرة خطيرة، نظرة جعلت الهواء في الغرفة يثقل فجأة.
ثم، ببطء، نهض من مكانه.
كان أطول مني، أضخم، وحضوره طغى على كل شيء في الغرفة.
لكنه لم يحاول إخافتي.
لم يتحرك حتى.
فقط نظر إليّ، وعيناه الحمراء العميقة كانت تحمل شيئًا لم أفهمه تمامًا.
"أنتِ لستِ في فيلم، تونه." قال بصوت منخفض، لكنه محمّل بثقل شيء لا يمكن إنكاره. "ولستِ مجرد شخص عادي وُجد هنا بالصدفة. أنتِ أكثر من ذلك بكثير."
شعرتُ ببرودة تجتاحني، لكنني لم أكن مستعدة للتراجع.
"وما الذي يجعلني أكثر؟!" تحديته، أنفاسي متسارعة. "لماذا لا يمكنك أن تقولها بوضوح؟ لماذا تجعلني أركض وراء الظلال بدلاً من أن تخبرني بالحقيقة؟!"
للحظة، ظننتُ أنه لن يجيب.
لكن بعد صمت ثقيل، قال بصوت هادئ، لكنه كان يحمل شيئًا قاتمًا في أعماقه:
"لأن الحقيقة، تونه، ليست مجرد كلمات تُقال."
اقترب خطوة، حتى أصبح الفاصل بيننا مجرد أنفاس.
"الحقيقة… تُشعر."
ارتجفت.
لم أكن واثقة مما قصده، لكنني شعرتُ بوزن كلماته يتردد في داخلي، كأنها لمسة خفيفة على شيء داخل عقلي لم أكن أريد الاقتراب منه.
"وإن لم أكن مستعدة لها؟" همستُ، بالكاد أسمع صوتي.
أمال رأسه قليلًا، كأنه يراقبني، يدرسني.
ثم قال ببساطة، "حينها، ستدمّرك."
____
تصلبتُ في مكاني، كلماته تتردد في رأسي كصدى بعيد. "حينها، ستدمّرك."
أردتُ أن أرفض ما قاله، أن أخبره أنه كان يبالغ، لكنه لم يكن يمزح. كانت عيناه الجامدتان، الحمراء كالدم، تقولان لي إنني إذا لم أكن مستعدة لمواجهة الحقيقة… فإنها ستلتهمني.
لكن كيف أستعد لشيء لا أفهمه؟ كيف أواجه ما لا أستطيع حتى تصوره؟
بلعتُ ريقي، أدركتُ فجأة مدى جفاف حلقي. لم أرِد أن أبدو ضعيفة، لكنني كنت غارقة في دوامة من الغموض الذي يحيط بكل شيء حولي.
"إذن، متى ستتوقف عن اللف والدوران، سايلوس؟" قلت، هذه المرة بصوت أكثر هدوءًا لكنه لم يخلُ من الحدة. "متى ستخبرني بما يجري حقًا؟"
مرر يده على حافة كأس النبيذ الذي لا يزال في يده، ثم رفعه إلى شفتيه واحتسى منه جرعة صغيرة، وكأن لديه كل الوقت في العالم.
"عندما تكونين مستعدة."
شعرتُ بانقباض في صدري.
"ومتى سأكون مستعدة؟"
وضع كأسه جانبًا، ثم نظر إليّ وكأن جوابه كان واضحًا تمامًا.
"عندما تتوقفي عن البحث عن الحقيقة كأنها شيء خارج عنك، وتبدأي في رؤيتها فيما هو داخلك."
شعرتُ بصداع ينبض في رأسي. ماذا كان يقصد بذلك؟ هل كان يقول إنني أعرف الإجابة بالفعل؟ كيف يمكن ذلك وأنا بالكاد أفهم من أنا؟!
وضعتُ يدي على جبيني، محاولة جمع أفكاري.
"أنت تستمتع بهذا، أليس كذلك؟" قلت أخيرًا، ناظرة إليه بنظرة مليئة بالاتهام. "تجعلني أركض في دوائر، تضعني وسط فوضى ثم تراقبني وأنا أحاول الخروج منها."
ابتسم ابتسامة خفيفة، لكنها لم تكن خالية من السخرية.
"لستُ أنا من وضعكِ في هذه الفوضى، تونه. أنتِ كنتِ فيها منذ البداية."
كان هناك شيء في نبرته جعلني أتوقف.
هل كنتُ في هذه الفوضى دائمًا؟
أخذتُ نفسًا عميقًا، أدركتُ أنني لن أحصل على إجابات واضحة الليلة. لكنني أيضًا أدركتُ شيئًا آخر…
مهما حاولتُ الهروب من الحقيقة، فستظل تلاحقني.
نظرتُ إلى سايلوس، إلى ذلك الرجل الذي يبدو وكأنه يحمل كل الأسرار في عينيه. ربما لم أكن مستعدة بعد، لكنني لن أظل ضائعة إلى الأبد.
"حسنًا." قلت، وأنا أشدّ قامتي. "سأكتشفها بطريقتي الخاصة."
رفع حاجبًا، وكأنه لم يكن يتوقع هذا الرد.
ثم، وللمرة الأولى منذ أن رأيته الليلة، ضحك.
"إذن، لن يكون الأمر مملًا على الأقل."
ساد الصمت للحظة بيني وبين سايلوس. كان ينظر إليّ بتركيز، كما لو كان يحاول قراءة ما يدور في عقلي، لكنني لم أمنحه الفرصة هذه المرة.
"سألتقي به غدًا، سايلوس." قلت بصوت ثابت، دون تردد. "بكل الأحوال."
لم تتغير ملامحه، لكنه لم يتحرك أيضًا. وكأن كلماتي جعلت الزمن يتوقف للحظة.
وضعتُ يدي على الطاولة الخشبية الفاخرة، أكدتُ على كلماتي مرة أخرى: "يجب أن أسمع منه، يجب أن أعرف كل شيء. لا يمكنك منعي."
لم يقل شيئًا. فقط رفع كأس النبيذ ببطء واحتسى رشفة أخرى، قبل أن يميل إلى الخلف مسترخيًا على الأريكة الحمراء، مظهره لم يتغير، لكن الهواء حوله أصبح ثقيلًا بشكل غريب.
"وهل تتوقعين مني أن أمنعك؟" سأل أخيرًا، بصوت هادئ لكنه يحمل شيئًا خفيًا، كأنما كان يتحداني.
نظرتُ إليه بحدة. "أتوقع منك أن تكون صريحًا معي، بدلًا من أن تتركني أتخبط وسط الألغاز."
لمعت عيناه للحظة، كأنني لمسته في موضع لم يكن يتوقعه.
"أتساءل فقط، تونه..." قال ببطء، وهو يضع كأسه جانبًا، ثم يقف ببطء. مشى باتجاهي، بخطوات ثابتة، حتى وقف أمامي تمامًا. كانت المسافة بيننا ضئيلة، لكنني لم أتحرك.
خفض رأسه قليلًا، وعيناه الحمراء تلتقي بعينيّ مباشرة. "هل أنتِ متأكدة أنكِ تريدين سماع الحقيقة؟"
لم أتراجع. "أنا أبحث عنها منذ البداية، سايلوس."
تأملني للحظة، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة، لكن لم يكن فيها سخرية هذه المرة.
"إذن، استعدي لما سيأتي بعدها."
ثم استدار بعيدًا، تاركًا إيّاي مع إحساس غريب… وكأنني على وشك دخول شيء لا رجعة فيه.
راقبتُه وهو يبتعد عني، خطواته بطيئة لكنها تحمل ثقلًا غريبًا، كأنه كان يمنحني الفرصة الأخيرة للتراجع. لكنه كان يجب أن يعرفني أفضل من ذلك. أنا لم أكن شخصًا يتراجع.
"لست بحاجة للتحذيرات، سايلوس." قلت بصوت هادئ لكن حازم، كنت أعلم أنه يسمعني رغم أنه لم ينظر إليّ. "سأذهب إلى كايلب، وسأستمع إليه. سواء أعجبك ذلك أم لا."
توقف في مكانه للحظة، ثم أدار رأسه قليلًا ليمنحني نظرة جانبية، عينيه الحمراء بدت أعمق في الظلام الخافت.
"هل تعتقدين أنه سيمنحك الحقيقة؟"
لم أجب على الفور، لأنني لم أكن أعرف الجواب فعلًا.
"سأقرر ذلك بنفسي."
استدار نحوي بالكامل، يديه في جيبيه، رأسه مائل قليلًا، تلك الابتسامة البطيئة التي تحمل مزيجًا من التسلية والغموض ظهرت على وجهه مجددًا.
"كما تشائين، تونه."
لم أكن أعلم لماذا جعلني طريقته في قول اسمي أشعر بالقشعريرة، وكأنني سقطت في لعبة لم أكن أعرف قواعدها.
تنهدتُ بصمت، ثم نظرتُ حولي إلى الغرفة الفاخرة، إلى الزخارف الذهبية على الجدران، إلى الأثاث الذي بدا كأنه ينتمي إلى عصر مختلف تمامًا. رغم كل شيء، لم أشعر يومًا أنني أنتمي إلى مكان مثلما شعرت هنا.
"أين سأبقى الليلة؟" سألت أخيرًا، كسرًا للصمت الذي بدأ يزداد ثقله بيننا.
مرر يده في جيب سترته وأخرج مفتاحًا صغيرًا، ثم ألقاه باتجاهي. أمسكتُه تلقائيًا قبل أن أرفع حاجبًا باستغراب.
"غرفتك في الطابق العلوي، الجناح الشرقي." قال ببساطة، قبل أن يضيف بصوت أكثر هدوءًا: "لا تتجولي كثيرًا، تونه. بعض الأبواب يجب أن تبقى مغلقة."
شعرتُ بقلبـي ينبض أسرع لسبب لم أفهمه، لكنني لم أعلّق. فقط أومأت برأسي واتجهت نحو الباب.
"تونه." نادى باسمي فجأة قبل أن أخرج.
التفتتُ إليه، وجدته يحدّق بي بصمت، نظراته هذه المرة لم تكن ساخرة ولا مستفزة. كانت… مختلفة.
"احلمي أحلامًا هادئة الليلة." قال بصوت خافت.
لكنني لم أصدق أنه كان يتمنى لي ذلك حقًا..
_____
في اليوم التالي ...
وقفتُ أمام المطعم، أراقب انعكاسي الباهت في الواجهة الزجاجية اللامعة. كنت أعرف أن هذه اللحظة قادمة، لكن الآن، وأنا على وشك مواجهتها، شعرت بقلق لم أتمكن من تفسيره.
المطعم كان فاخرًا، يقع في قلب المدينة المتطورة، حيث كل شيء حولي يصرخ بالرقي والحداثة. النوافذ الشاهقة تعكس أضواء النيون، والطاولات مرتبة بعناية، مع زهور بيضاء توحي بالكمال المصطنع. كان اختيار سايلوس لهذا المكان متعمدًا—مكان فخم، لكنه ليس محايدًا تمامًا. نوع من السيطرة الخفية التي يحب فرضها.
"لن أجادله في ذلك." تمتمتُ لنفسي، قبل أن أسحب نفسًا عميقًا وأدخل.
بمجرد أن خطوتُ إلى الداخل، انتبهتُ إليه على الفور.
كايلب.
كان يجلس عند إحدى الطاولات المخصصة لكبار الشخصيات، بعيدًا عن الصخب، حيث لا يمكن لأحد الاقتراب دون دعوة. بدا مختلفًا—أو ربما كنت أنا من أصبحت مختلفة. ارتدى بذلة كحلية أنيقة، لونها يبرز زرقة عينيه العميقة، وشعره الأسود مُصفف بدقة، كما لو أنه لم يترك أي تفصيلة للصدفة.
رآني فورًا، وابتسم ابتسامتة الهادئه. لم تكن سخرية، لم تكن تهكمًا، بل كانت ببساطة… ترحيبًا.
تحركتُ نحوه، خطواتي كانت أبطأ مما توقعت. كنت أعرف أنني أقف الآن على الخط الفاصل بين الحقيقة والكذب، بين الماضي والحاضر، بين كل شيء كنت أظنه حقيقيًا وكل شيء قد ينقلب في لحظة.
عندما وصلتُ إلى الطاولة، وقف كايلب احترامًا، ثم أشار لي بالجلوس.
"لم أتوقع أن تأتي فعلًا." قال بنبرة دافئة، لكنه كان يراقبني بتمعن، كما لو أنه كان يبحث عن شيء ما في ملامحي.
جلستُ، محاوِلةً أن أبقى متماسكة. "كنت سأفعل ذلك منذ البداية، بغض النظر عما يريده سايلوس."
"سايلوس… دائمًا لديه رأي في كل شيء، أليس كذلك؟" ضحك بخفة وهو يجلس مجددًا، لكنني شعرت بأن هناك معنى أعمق خلف كلماته.
أخذتُ القائمة أمامي فقط لأشغل نفسي للحظة، لكنني بالكاد كنت أرى الكلمات المكتوبة عليها. كنت أشعر بعينيه تراقبانني، وكان هذا كافيًا لإبقائي متوترة.
"لماذا طلبت مقابلتي، كايلب؟" سألت أخيرًا، أضع القائمة جانبًا وأواجهه مباشرة.
أمال رأسه قليلًا، كأنه يزن كلماته بعناية. "لأنك تستحقين أن تعرفي الحقيقة. الحقيقة التي أخفاها عنك سايلوس."
شعرتُ بقبضة باردة تعتصر داخلي. لم أكن أريد أن أبدأ بهذه الطريقة، لكن لا مجال للهرب الآن.
"وأي حقيقة هذه؟"
كايلب استرخى في مقعده، نظرته لم تفارقني. "كل شيء، تونه. عنك، عن والدك، عن الدور الذي كنتِ تلعبينه طوال هذا الوقت دون أن تدركي ذلك."
"سايلوس قال إنني كنتُ مجرد سلاح في يد والدي." قلت بهدوء، محاولةً أن أختبر رد فعله.
لكنه لم يظهر أي صدمة، فقط ابتسم ابتسامة صغيرة جدًا. "بالطبع قال ذلك."
انتظرتُ منه توضيحًا، لكنه لم يكن ينوي تقديمه بسهولة.
"إذن، هل كان يكذب؟"
كايلب لم يرد فورًا، بل أخذ رشفة من كأس الماء أمامه قبل أن يتكلم. "الأمر ليس بهذه البساطة، تونه. هناك أجزاء من الحقيقة كان يجب أن تُقال لك، لكن سايلوس اختار أن يخفيها."
"مثل ماذا؟"
هذه المرة، نظر مباشرة في عينيّ، وعندما تحدث، كانت كلماته مثل شفرة حادة تخترق الهواء.
"مثل حقيقة أنكِ لستِ مجرد سلاح… بل كنتِ المفتاح."
شعرتُ بأن العالم كله توقف للحظة. "المفتاح؟ مفتاح ماذا؟"
كايلب لم يشيح بنظره عني، وكأن كلماته وحدها كانت كافية لتغيير مجرى كل شيء.
"مفتاح التوازن بين العوالم، تونه."
كانت تلك اللحظة التي شعرتُ فيها أنني قد لا أكون مستعدة لسماع كل شيء...
_____
ظللتُ أحدق في كايلب، أنتظر أن يوضح كلماته الغامضة. مفتاح؟ توازن العوالم؟ ما الذي يعنيه هذا بحق الجحيم؟
وضعتُ يدي على الطاولة، وكأنني بحاجة إلى تثبيت نفسي في هذا الواقع الجديد الذي يحاول كايلب فرضه عليّ. "أريد تفسيرًا، كايلب. لا ألغاز، لا غموض. فقط الحقيقة."
تنهد كايلب، ثم مال نحوي قليلًا، كما لو أن ما سيقوله لا يجب أن يسمعه أحد غيري. "تونه، العالم الذي نشأتِ فيه لم يكن سوى واحد من عدة عوالم. هناك أكوان موازية، كل منها يختلف قليلاً عن الآخر، لكنها متصلة بطريقة أو بأخرى. وهذه العوالم ليست مستقرة دائمًا."
شعرتُ بقلبي ينبض بقوة، لكنني لم أقاطعه.
"هناك نقطة توازن تربط هذه العوالم ببعضها، وهذه النقطة ليست مكانًا، بل شخص." رفع نظره إليّ مباشرة. "أنتِ."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي، لكنني لم أظهرها.
"هذا جنون." تمتمتُ، محاوِلةً استيعاب كلماته.
"أعلم أن الأمر يبدو كذلك، لكنه ليس كذلك." ردّ بهدوء. "لم يكن والدك، ولا حتى سايلوس، من خلق هذا الدور لكِ. لقد وُلِدتِ بهذه القدرة، بقدرة نادرة لا يمتلكها سوى شخص واحد في كل عصر."
ضغطتُ على أصابعي فوق الطاولة. "وأي قدرة هذه؟"
"قدرتكِ على عبور الأحلام… ليست مجرد ظاهرة غريبة، بل هي الصلة التي تربط بين العوالم. أنتِ قادرة على رؤية ما وراء هذا الواقع، قادرة على الشعور بالأشياء التي لا يدركها الآخرون."
هززتُ رأسي، غير قادرة على تصديق ما يقوله. "ولكن… كيف؟ لماذا أنا؟"
كايلب ابتسم بخفة، لكن عينيه لم تفارقا وجهي. "لأنكِ كنتِ مقدّرة لهذا الدور منذ البداية. لأنكِ لستِ مجرد إنسانة عادية، تونه. لقد كنتِ دائمًا مختلفة، حتى لو لم تدركي ذلك بعد."
حاولتُ استيعاب كلماته، لكن كل ما شعرتُ به هو دوامة من الارتباك. هل كان هذا سبب كل شيء؟ سبب الكوابيس، والرؤى، وكل تلك اللحظات التي شعرتُ فيها أنني لا أنتمي لهذا العالم؟
ولكن إذا كنتُ حقًا "مفتاحًا"، كما يقول… فما الذي يعنيه ذلك لي؟
رغم كل شيء، كان هناك سؤال واحد لا يمكنني تجاهله.
"وأين يقع سايلوس في كل هذا؟"
كايلب لم يبدُ متفاجئًا من سؤالي. أمال رأسه قليلًا، كأنه كان يتوقعه.
"سايلوس… لم يكن دائمًا كما هو الآن. في وقتٍ ما، كان مثلكِ تمامًا—يبحث عن إجابات، يشكك في كل شيء."
لم أكن واثقة من أنني أفهم. "ما الذي تغير؟"
"اكتشف الحقيقة… لكنه اختار أن يتحكم بها بدلًا من أن يكون مجرد بيدق فيها."
كانت هناك نبرة تحذير خفية في صوته، لكنني لم أستطع فهم ما إذا كان يحاول جعلي أكره سايلوس… أم أنه يحاول فقط تحذيري منه.
"وأنتَ؟" سألتُ، مترددة. "ما الذي تريده مني يا كايلب؟"
نظر إليّ للحظة طويلة، ثم قال بهدوء: "أريدكِ أن تختاري بنفسك، بعيدًا عن تأثيره."
كان هناك صدق في صوته، لكنني لم أستطع الجزم ما إذا كان ذلك كافيًا لأثق به.
شعرتُ بأن هذا اللقاء لم يكن سوى بداية شيء أكبر بكثير مما كنتُ مستعدة له.
تسللت لحظة صمت بيني وبين كايلب، لكنها لم تكن هادئة. كانت مشحونة، مليئة بكل الأسئلة التي لم أجد لها إجابة بعد. شعرتُ وكأنني أقف على حافة هاوية، وخياري التالي قد يحدد مصيري بالكامل.
"ماذا لو لم أختر؟" نطقتُ بالكلمات أخيرًا، وأنا أنظر إليه بعينين غارقتين في الشك.
أمال رأسه قليلًا، كما لو أن سؤالي فاجأه، ثم قال بنبرة هادئة لكنها قاطعة: "عدم الاختيار… هو اختيار بحد ذاته. لكنه لن يحميكِ مما هو قادم."
ابتلعتُ ريقي، محاولة أن أتمسك بشيء منطقي وسط هذه الفوضى. "وأنت؟ لماذا تهتم لأمري؟"
لم يبتسم هذه المرة. بدلًا من ذلك، وضع كوعيه على الطاولة، متكئًا إلى الأمام كما لو أنه يريد أن يجعل كلماته واضحة تمامًا. "لأنكِ أكثر من مجرد قطعة في هذه اللعبة، تونه. وأرفض أن أسمح لسايلوس أن يقرر مصيركِ بمفرده."
ذكره لاسم سايلوس جعلني أشعر بتيار كهربائي يمر عبر جسدي. كايلب يعتقد أن سايلوس يتحكم بي؟ أنني مجرد بيدق آخر في خطته؟ لكن… هل هذا صحيح؟
سايلوس يعتقد هذا ايضا .. ان كايلب يريدني من اجل السلطه فقط .
لقد اختار سايلوس دائمًا ما يخفيه عني، لكنه كان دائمًا هناك عندما كنتُ بحاجة إليه. لم أكن أعرف تمامًا ما إذا كان ذلك يعني أنه كان يحاول حمايتي… أم السيطرة عليّ.
كايلب، من ناحية أخرى، كان يفتح لي بابًا آخر. لكنه لم يكن يقدم لي إجابات، بل مجرد أسئلة جديدة.
تنفستُ بعمق، محاوِلة أن أستعيد هدوئي.
"إذا كنتَ تريدني أن أقرر بنفسي،" قلتُ وأنا أرفع عيني إليه بثبات، "فعليك أن تخبرني بكل شيء. من البداية."
لم يبدُ عليه أنه تفاجأ، لكنه استغرق لحظة قبل أن يتحدث.
"العالم الذي ترينه حولكِ الآن ليس كما يبدو، تونه. هو جزء من شيء أكبر. هناك أكوان متعددة، متصلة ببعضها البعض، لكنها تحتاج إلى نقطة توازن—شخص قادر على التنقل بينها دون أن ينهار النظام بأكمله."
"وأنا هذه النقطة؟"
"بالضبط."
حاولتُ ألا أُظهر ارتباكي، لكن الأمر كان أقرب إلى خيال علمي من أن يكون واقعًا.
"وهذا يعني أنني كنتُ أتنقل بين العوالم طوال حياتي دون أن أدرك ذلك؟"
أومأ برأسه. "جزئيًا. لكن الأمر ليس بهذه البساطة. هناك من يريدون استخدامكِ لهذا الغرض، وهناك من يريدون إبقاءكِ بعيدة عن ذلك."
"وسايلوس؟ أي جانب هو فيه؟"
صمتَ للحظة، كما لو كان يختار كلماته بعناية.
"سايلوس يؤمن بأنه يستطيع السيطرة على هذه القوة، أن يجعلكِ جزءًا من نظامه الخاص. لكن السؤال الحقيقي هو… هل هذا ما تريدينه أنتِ؟"
كانت نبرته صادقة، لكنني لم أكن قادرة على الوثوق به تمامًا. ليس بعد.
شعرتُ بشيء ثقيل يجثم على صدري، كأنني على وشك اتخاذ قرار لا رجعة فيه.
لكن الحقيقة التي لا مفر منها كانت واضحة:
لم يعد هناك طريق للعودة.
لم أكن أعلم ما الذي كنتُ أبحث عنه بالضبط، لكنني شعرتُ بأنني لن أتمكن من اتخاذ أي قرار قبل أن أفهم كل شيء. هناك قطع من الماضي كانت مبعثرة، ووالدي كان إحدى تلك القطع التي لم أستطع تحديد شكلها بعد.
تنفستُ بعمق، محاوِلة أن أتماسك وسط هذا الطوفان من المعلومات، ثم نظرتُ إلى كايلب مباشرة وسألته: "أبي… أي جانب كان فيه؟"
رأيتُ كيف تصلبت ملامحه للحظة، وكأنه لم يكن يتوقع مني أن أطرح هذا السؤال تحديدًا. ثم، وبهدوء متزن، قال: "هذا يعتمد على ما تسألين."
ضيّقتُ عينيّ بشك. "ماذا تقصد؟"
أراح ظهره على الكرسي، وبدا وكأنه يفكر في الطريقة التي سيشرح بها الأمر. "سايلوس قدم لكِ جانبًا واحدًا فقط من القصة، أليس كذلك؟ أخبركِ أن والدكِ كان قاسيًا، ظالمًا، وأنه لم يكن يراكِ سوى أداة."
أومأتُ ببطء.
"وهل صدقته؟"
كان هذا هو السؤال الذي لم أكن أملك له إجابة. لم أكن أعرف والدي حقًا، ليس كما ينبغي على الابنة أن تعرف والدها. كنتُ صغيرة عندما كنتُ بجانبه، وعندما بدأتُ أستعيد بعض الذكريات، لم تكن واضحة بما يكفي للحكم عليه.
"أريد أن أعرف الحقيقة، لا أن أصدق قصة شخص واحد فقط."
ابتسم كايلب ابتسامة صغيرة، لكنها لم تكن ساخرة، بل كانت وكأنه يعترف لي بشيء ما.
"حسنًا إذن، سأخبركِ ما أعرفه."
مال للأمام قليلاً، صوته أصبح أكثر خفوتًا لكنه لم يكن أقل قوة. "والدكِ كان زعيمًا قوياً، نعم، لكنه لم يكن مجرد رجل عطش للسلطة. كان يحاول الحفاظ على التوازن بين العوالم، بين القوى المختلفة التي كانت تحاول استغلالكِ حتى قبل أن تدركي من أنتِ. هل كان صارمًا؟ بالتأكيد. هل كان يستخدمكِ كأداة؟ ربما في بعض الأحيان، لكنه كان يفعل ذلك لأنه لم يكن يملك خيارًا آخر."
شعرتُ بشيء ثقيل في صدري، مزيج من الارتياح والارتباك.
"إذن لماذا قال سايلوس كل تلك الأمور عنه؟ لماذا يكرهه لهذه الدرجة؟"
نظر إليّ بجدية، وكأنه كان يستعد لإخباري بشيء مهم جدًا.
"لأن سايلوس لم يكن مجرد شخص عادي في حياة والدكِ، تونه. لقد كان جزءًا من كل هذا منذ البداية."
اتسعت عيناي. "ماذا تعني؟"
أخذ كايلب رشفة من كأس الماء أمامه قبل أن يجيب: "سايلوس لم يكن دائمًا كما هو الآن. كان يومًا ما أقرب شخص إلى والدكِ."
تجمدتُ في مكاني.
"مستحيل…"
هزّ رأسه ببطء. "ليس مستحيلًا. كانا شريكين، أخوين في السلاح إن صح التعبير. لكن الأمور تغيرت. لم يكن سايلوس يوافق على طريقة والدكِ في إدارة الأمور، وكان يعتقد أن هناك طريقًا آخر، طريقًا أكثر فاعلية، حتى لو كان أكثر قسوة."
شعرتُ بأن رأسي يدور. إذا كان هذا صحيحًا، فهذا يعني أن كل شيء كنتُ أظنه عن ماضيّ كان مشوهًا بطريقة أو بأخرى.
لكن قبل أن أتمكن من استيعاب كل هذا، أكمل كايلب: "وما حدث بينهما في النهاية… هو ما أدى إلى كل هذا."
كانت هناك نبرة خفية في صوته، وكأنه يعرف أكثر مما يقول.
"ماذا حدث بينهما؟" سألتُ بحدة، لكن قبل أن يجيب، شعرتُ بشيء ما… إحساس جعل قلبي يتوقف لثانية واحدة.
لم أكن وحدي أنا وكايلب في هذا المكان.
لقد كنا مراقبين.
شعرتُ بوخزة باردة في ظهري، إحساس غريب جعل كل خلية في جسدي تتنبه. لم أدرِ إن كان هذا بسبب التوتر الذي حملته كلمات كايلب أم أن هناك خطرًا حقيقيًا يحيط بي. لكنني لم أكن مستعدة لأخذ أي فرص.
نظرتُ إلى كايلب، وكنتُ على وشك سؤاله إن كان قد شعر بشيء مماثل، لكنه سبقني وقال بصوت منخفض بالكاد سمعته:
"نحن لسنا وحدنا."
لم تتحرك ملامحه، لم يظهر أي توتر على وجهه، لكنه كان متيقظًا، وكأن هذا الوضع مألوف جدًا بالنسبة له.
وضعتُ يدي على الطاولة، أصابعي تقبض على حافتها، بينما بدأتُ أتفحص المكان بعينيّ دون أن أبدو كمن تبحث عن شيء معين. المطعم كان أنيقًا، مضاءً بإضاءة ناعمة، ومليئًا بشخصيات تبدو راقية. لكنني الآن أدركت أن هناك أكثر من مجرد زبائن عاديين هنا.
بعضهم لم يكن يأكل. بعضهم لم يكن يتحدث. كانوا فقط… يجلسون هناك، وكأنهم ينتظرون شيئًا.
أدركتُ عندها أن سايلوس لم يكن يبالغ عندما أصرّ على اختيار هذا المكان بنفسه.
أخفض كايلب رأسه قليلًا، وكأنه ينظر إلى كأسه، لكنه قال بصوت لا يكاد يُسمع: "لدينا ثلاث خيارات، تونه. إما أن نتصرف وكأننا لم نلاحظ شيئًا، أو ننسحب بهدوء، أو…" توقف للحظة، ثم نظر إليّ بعينين تلمعان بتحدٍّ. "نواجه الأمر مباشرة."
لم أكن بحاجة إلى التفكير كثيرًا. كنتُ مرهقة من كل هذا اللعب في الظلال، من الحقائق المشوهة، ومن كوني مجرد ورقة في يد الجميع.
"سنواجههم." قلتها بثبات، حتى قبل أن أدرك تمامًا ماذا يعني ذلك.
رفع كايلب حاجبًا، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة. "كنتُ آمل أن تقولي ذلك."
وفي اللحظة التالية، بدأ الجحيم.
---
لم أفهم تمامًا ما حدث أولًا. كان الأمر سريعًا جدًا، لكنه كان واضحًا—شخص ما تحرك بالقرب من المدخل، وآخر وقف من مقعده بالقرب من النافذة، بينما أحد الرجال على الطاولة المجاورة مدّ يده إلى شيء تحت سترته.
لكن كايلب كان أسرع.
بمجرد أن لمح حركتهم، دفع الكرسي للخلف بسرعة، وقفز واقفًا بحركة سلسة. في الوقت ذاته، شعرتُ بشيء يحيط بمعصمي، وبحركة واحدة، كان قد سحبني من مقعدي وقادني إلى الخلف، مبتعدًا عن الطاولات.
"ابقِ رأسكِ منخفضًا."
لم أفهم كلماته إلا عندما سمعتُ صوت طلقة كاتمة للصوت.
تحطم زجاج النافذة بجانبنا، وصرخ بعض الزبائن، بينما عمّت الفوضى المكان. أدركتُ حينها أننا كنا هدفًا واضحًا.
"من هؤلاء؟!" صرختُ بينما كنتُ أركض بجانبه، نحاول الابتعاد عن المكان المفتوح.
"من تعتقدين؟" قال بصوت جاف، بينما أخرج سلاحًا صغيرًا من سترته وأطلق طلقتين نحو أحد الرجال الذين اقتربوا منا بسرعة. "يبدو أن سايلوس لم يكن الوحيد الذي يهتم بلقائنا."
لكنني لم أكن مهتمة بالقتال بقدر ما كنتُ مهتمة بشيء آخر.
أردتُ إجابات.
وإذا كان هناك شيء واحد تعلمته من هذا العالم، فهو أنني لن أحصل على أي إجابات إن كنتُ ميتة.
لذلك، فعلتُ الشيء الوحيد الذي كان منطقيًا في تلك اللحظة.
هربتُ!!
____
لم يكن لدي وقت للتفكير، فقط تحركتُ. جسدي استجاب قبل عقلي، وغريزتي أخبرتني بشيء واحد فقط—عليّ الخروج من هنا.
تحركتُ بسرعة بين الطاولات المقلوبة، محاولًة التوجه نحو المخرج الخلفي. أصوات الطلقات المكتومة كانت تتردد في أذني، وصراخ الأشخاص الذين لم يكونوا جزءًا من هذه اللعبة بدا وكأنه صدى بعيد، غير حقيقي.
"تونه!" سمعتُ صوت كايلب المتفاجئ خلفي، لكنني لم أتوقف. لم أكن أعرف إن كان يتبعني أم لا، لكنني لم أجرؤ على الالتفات.
اندفعتُ نحو الممر الضيق المؤدي إلى المطبخ. دفعتُ الباب بقوة، ووجدت نفسي وسط طهاة مذعورين، بعضهم تجمد مكانه، وبعضهم ركض خارجًا دون أن ينظر خلفه. لم ألتفت إليهم، فقط واصلتُ الركض حتى رأيتُ باب الطوارئ في نهايته.
لكن قبل أن أصل إليه، شعرتُ بشيء غريب—كأن الهواء من حولي تغيّر، أصبح أثقل، مشبعًا بشيء غير مرئي.
ثم، تمامًا كما لو كنتُ قد اصطدمتُ بحائط غير مرئي، توقفتُ فجأة، جسدي تجمّد في مكانه.
"إلى متى ستستمرين بالهرب؟"
تردد الصوت في رأسي قبل أن أراه.
لم يكن سايلوس.
وقف رجل أمامي، وكأنه خرج من العدم. لم يكن هناك قبل لحظة، لكن الآن… كان يقف بهدوء، ينظر إليّ بعينين ارجوانيه تتوهجان بشكل غير طبيعي وسط الظلام. شعره البنفسجي كان ينسدل على كتفيه، وبشرته الشاحبة بدت شبه شفافه تحت الأضواء الخافتة. لم يكن هناك شك في ذلك—هذا ليس إنسانًا عاديًا.
رفعتُ رأسي لأراه بوضوح. ملامحه كانت منحوتة، لكنها تحمل برودًا لا إنسانيًا. لا مشاعر، لا غضب، لا رحمة. فقط… يقين بارد.
"من أنت؟" سألتُ، رغم أن جزءًا مني لم يكن متأكدًا إن كنتُ أريد الإجابة حقًا.
ابتسم نصف ابتسامة، لكنها لم تصل إلى عينيه. "أنتِ تعلمين من أكون، تونه."
شعرتُ بدمائي تبرد. لا، أنا لا أعلم.
"لماذا تفعل هذا؟" سألتُ، صوتي كان مزيجًا من الغضب والارتباك.
"لأنكِ كنتِ ستهربين، وهذا لم يكن مسموحًا به."
"مسموحًا؟ من أنت لتقرر ذلك؟"
اقترب خطوة واحدة، وخطوته وحدها كانت كفيلة بجعل الهواء من حولي يثقل أكثر.
"لستُ أنا من قرر، تونه. بل أنتِ."
بدأتُ أشعر بشيء غريب، كأن رأسي ينبض، كأنني كنتُ على وشك التذكر… شيء ما كان هناك، خلف الضباب في ذاكرتي.
لكن قبل أن أتمكن من استيعاب ذلك، شعرتُ بيد تمسك بذراعي، قوية ولكنها ليست قاسية.
كايلب.
"اتركها، رافاييل" قال بصوت منخفض لكنه حاد.
الرجل—أو الشيء الذي أمامي—لم ينظر إليه حتى. فقط أبقى عينيه عليّ، وكأنه كان ينتظر مني شيئًا.
ثم، فجأة، تلاشى الضغط من حولي، وكأنني كنتُ غارقة في الماء وتم سحبي إلى السطح.
استنشقتُ الهواء بقوة، وشعرتُ برجليّ ترتجفان.
"هل أنتَ حتى بشري؟" سألتُ، بالكاد أصدق ما رأيته للتو.
ضحك، ضحكة منخفضة لم تكن مرحة تمامًا.
"أوه، تونه…" اقترب أكثر، حتى أصبح على بعد بوصات مني، ثم همس بصوت بالكاد سمعته.
"لقد كنتِ دائمًا جزءًا من هذا العالم. أنتِ فقط من نسيتِ."
لم أتحرك. لم أتنفس حتى.
كلماته علقت في رأسي، ترنّ وكأنها صدى لحقيقة لم أكن مستعدة لمواجهتها.
"لقد كنتِ دائمًا جزءًا من هذا العالم. أنتِ فقط من نسيتِ."
كيف يمكن أن يكون ذلك ممكنًا؟ كيف يمكن أن أكون جزءًا من شيء لا أذكره؟
رفعتُ بصري إلى وجهه، إلى تلك العينين الارجوانيه اللتين لم تتغيرا، وكأنهما كانتا تنتظرانني لأدرك الحقيقة بنفسي. لكنني لم أكن قادرة على ذلك.
"أنت تكذب." كان صوتي أكثر هدوءًا مما توقعت، لكنني شعرتُ بالضعف الذي تسلل إليه.
رافاييل لم يُظهر أي انزعاج من اتهامي، فقط أمال رأسه قليلًا، كما لو كان يراقب رد فعلي بفضول علمي.
"أكذب؟ ربما. لكن هل أنتِ متأكدة من ذلك؟"
لم أكن متأكدة من أي شيء بعد الآن.
كايلب شدّ قبضته حول ذراعي وكأنه يحاول إعادتي إلى الواقع، إلى شيء ملموس يمكنني التمسك به.
"دعها وشأنها،" قال بصوت منخفض، لكنني شعرتُ بالتوتر الذي يخفيه خلف نبرته.
رافاييل لم يتحرك، لكنه نظر إلى كايلب أخيرًا. تلك النظرة وحدها كانت كافية لتجعل الهواء من حولنا يبرد.
"إنها ليست ملكك، كايلب."
شعرتُ بجسدي يتصلب.
كايلب لم يرد فورًا. لكنني شعرتُ بالطريقة التي شدّ بها أصابعه قليلًا، وكأنه كان يحاول ضبط نفسه.
ثم، بعد لحظة صمت طويلة، قال: "ولا هي ملكك."
رافاييل ابتسم، لكن تلك الابتسامة لم تكن مريحة.
"لم أقل إنها كذلك."
شعرتُ وكأنني محاصرة بين نارين، وكلاهما يحملان إجابات لا أريد سماعها.
لكنني لم أعد أستطيع التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، بأنني أستطيع الهروب من هذا.
ببطء، أبعدتُ يدي عن قبضة كايلب، وخطوتُ خطوة للأمام، مواجهًة رافاييل مباشرة.
"إذا كنتَ تعرف شيئًا عني، فأخبرني." لم أكن متأكدة إن كنتُ أطلب الحقيقة… أم أتحدى الكذبة.
رافاييل لم يرمش حتى. "ليس بعد."
"لماذا؟"
"لأنكِ لستِ مستعدة."
غضبتُ. "وكيف تعرف ذلك؟"
"لأنني رأيتُ ما يحدث عندما تتذكرين أكثر مما يجب، وبسرعة أكبر مما ينبغي."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي، رغم أنني لم أفهم تمامًا ما يعنيه.
لكنني كنتُ أعرف شيئًا واحدًا—هذا لم يكن لقاءً عاديًا، ولم يكن هذا الرجل شخصًا عابرًا في قصتي.
رافاييل كان جزءًا من شيء أكبر، شيء كنتُ متشابكة فيه أكثر مما أدركت.
"سنلتقي مجددًا، تونه." قالها وكأنه وعد… أو تهديد.
ثم، دون أي تحذير، تلاشى.
ليس كما يفعل شخص عادي عندما يمشي بعيدًا.
لقد اختفى.
كما لو أنه لم يكن هناك أبدًا.
كايلب زفر بصوت منخفض بجانبي، وكأنه كان يحاول استيعاب ما حدث.
أما أنا؟
فقد بقيتُ واقفة هناك، أحدّق في الفراغ حيث كان يقف، وأتساءل…
كم عدد الأكاذيب التي بنيتُ عليها حياتي؟
وكم من الحقيقة ما زالت تنتظرني في الظلام؟
لم أتحرك من مكاني. لم أستطع.
بقيتُ أحدّق في الفراغ الذي كان يقف فيه رافاييل قبل لحظات، محاولًة استيعاب ما حدث للتو. لكن عقلي كان أشبه بمرآة محطمة—كلما حاولتُ جمع القطع، كلما ازداد التشوش.
كايلب وضع يده على كتفي برفق، "تونه، هل أنتِ بخير؟"
لم أعرف بماذا أجيب. هل كنتُ بخير؟ لا أعتقد ذلك. لم يكن أي شيء بخير.
قبل أن أتمكن من قول أي شيء، شعرتُ بشيء آخر—ذلك الشعور الغريب، ذلك الثقل غير المرئي في الهواء، لكنه كان مختلفًا هذه المرة.
لم يكن بارداً كما كان مع رافاييل. كان… حارقًا. كأنه نار خافتة تتراقص في الهواء.
ثم سمعتُ صوته.
"أكره أن أفوّت حدثًا كهذا."
التفتُ فورًا، وقبل أن أراه، كنتُ أعرف من هو.
سايلوس.
كان يقف عند المدخل، مستندًا إلى إطار الباب وكأنه لم يكن مهتمًا بما يحدث، لكنه كان هناك… دائمًا هناك، بطريقة أو بأخرى.
نظر إليّ أولًا، عيناه الحمراوان تحملان شيئًا لم أفهمه تمامًا، ثم نقل بصره إلى كايلب.
"يبدو أنك لم تفعل عملًا جيدًا في حمايتها، أليس كذلك؟"
كايلب لم يرد، لكنني رأيت كيف اشتدت ملامحه، كيف قبض يده قليلًا وكأنه يمنع نفسه من الرد.
أما سايلوس؟ فقط ابتسم تلك الابتسامة البطيئة التي تحمل مزيجًا من السخرية والغموض. ثم نظر إليّ مجددًا.
"أنتِ تثيرين المتاعب، كما هو متوقع."
شعرتُ بالغضب يتصاعد بداخلي. "هل كنت تراقبني طوال هذا الوقت؟"
رفع حاجبه وكأنه تفاجأ بسؤالي. "أليس هذا واضحًا؟"
ضغطتُ أسناني. "ولمَ لم تتدخل إذًا؟"
"لأنني أردتُ أن أرى ما ستفعلينه." أمال رأسه قليلًا، كأنه يدرس تعابيري، ثم أضاف: "وما الذي سيفعله هو."
أدركتُ أنه يقصد رافاييل.
"تبدو وكأنك تعرفه."
سايلوس لم يُجب على الفور، لكنه ابتسم ابتسامة صغيرة، شيء أشبه بشبح ابتسامة، قبل أن يقول بصوت منخفض: "ربما أكثر مما تعرفين أنتِ."
كايلب، الذي كان صامتًا طوال الوقت، قال بصوت هادئ لكنه محمل بالتحذير: "لا وقت للألعاب، سايلوس."
سايلوس ضحك، ضحكة خافتة لكنها لم تكن مرحة بالكامل. "الألعاب هي كل ما نملكه، أليس كذلك؟"
ثم، فجأة، توقفت ابتسامته. عادت ملامحه إلى الجدية، إلى ذلك الجمود الذي كان يخفي أكثر مما يُظهر.
"تعالي معي، تونه."
تراجعتُ خطوة إلى الخلف. "إلى أين؟"
"إلى المكان الذي كان يجب أن تكوني فيه منذ البداية."
قلبي خفق بقوة. لم يعجبني هذا. لم يعجبني كيف قالها، كيف نظر إليّ وكأنه يعرف شيئًا عني أكثر مما أعرفه بنفسي.
كايلب تحرك على الفور، يقف بيني وبينه. "لن تذهب إلى أي مكان معها."
سايلوس لم يتحرك، لكنه نظر إلى كايلب بنظرة باردة، نظرة جعلت الهواء في الغرفة يثقل أكثر.
"وهل ستوقفني، كايلب؟"
مرت لحظة صمت، لحظة توتر ثقيلة كادت تخنقني.
ثم، فجأة، زفر كايلب وقال بصوت منخفض: "هذا ليس قراري."
تجمدتُ.
أدركتُ ما يعنيه.
إنه قراري.
أنا من يجب أن تختار.
نظرتُ إلى كايلب، إلى الطريقة التي كان يحاول بها حمايتي، حتى عندما لم يكن متأكدًا مما يحميّني منه.
ثم نظرتُ إلى سايلوس، إلى عينيه اللتين تحملان وعودًا لم أفهمها بعد، إلى اليد التي لم يمدّها لكنه كان ينتظر مني أن أخطو نحوه.
لم أعرف من كان يقول الحقيقة. لم أعرف من يجب أن أثق به..........