لم يكن مجرد قرار لحظي، بل لحظة فاصلة بين ما كنتُ عليه وما سأصبحه. لم يكن الأمر يتعلق فقط بمن يمكنني الوثوق به، بل بمن يمكنني مواجهة الحقيقة معه.
كايلب كان أمامي، يحاول حمايتي حتى عندما لم يكن متأكدًا مما يحميني منه. وسايلوس، الذي لم يمدّ يده لكنه انتظر مني أن أخطو نحوه، يحمل في عينيه وعودًا لم أفهمها بعد.
قلبي كان يخفق بجنون، وكأنني أقف على حافة هاوية، ورياح مجهولة تدفعني من كل اتجاه.
ثم… تحركتُ.
ببطء، خطوة واحدة فقط.
لكنها كانت كافية.
رأيتُ كيف شدّ كايلب فكه، كيف اشتدت قبضته للحظة قبل أن يرخِيها. لم يحاول منعي، لم ينطق بكلمة. فقط نظر إليّ… نظرة لم أفهمها تمامًا، لكنها حملت شيئًا يشبه الخسارة.
أما سايلوس، فقد اكتفى برفع حاجبه قليلًا، وكأن اختياري لم يكن مفاجئًا له. لم يبتسم، لكنه لم يُظهر أي استغراب أيضًا. فقط استدار وقال بصوت هادئ لكنه يحمل ثقلًا خفيًا:
"فلنذهب."
لم يعطني وقتًا للتردد أكثر. تحركتُ خلفه، خطواتي كانت أبطأ مما ينبغي، كأن قدميّ كانتا تقاومان القرار الذي اتخذته. لم ألتفت إلى كايلب، رغم أنني شعرتُ بنظراته تخترق ظهري، محملة بكل الأشياء التي لم يقلها.
لم أسأل إلى أين نحن ذاهبون. لم أكن متأكدة إن كنتُ أريد معرفة الإجابة.
لكن كلما تقدمنا أكثر، شعرتُ بتغير غريب في الهواء. كان الجو مشحونًا، كأن العالم نفسه يتغير حولي. كأنني أعبر من واقع إلى آخر دون أن أدرك ذلك.
ثم، فجأة، توقف سايلوس.
نظرتُ حولي. كنا في زقاق ضيق، الأضواء الخافتة تلقي ظلالًا طويلة على الجدران. لم يكن المكان مميزًا… لكنه لم يكن عاديًا أيضًا. كان هناك شيء خاطئ بطريقة لا أستطيع وصفها.
استدار نحوي، وعيناه تلمعان تحت الضوء الخافت. "هل ما زلتِ واثقة من قرارك؟"
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي. لم يكن سؤاله بسيطًا. لم يكن اختبارًا، بل تحذيرًا.
لكنني لم أعد أملك رفاهية التراجع.. اومئت له بهدوء
—
سايلوس لم يتحدث مره اخرى ، ولم ينظر إليّ حتى. كان يسير أمامي بثقة، كما لو أن هذا كله كان متوقعًا منذ البداية.
كان الليل قد بلغ ذروته، والهواء البارد يلسع بشرتي. المدينة من حولي بدت أكثر هدوءًا مما ينبغي، وكأنها تحبس أنفاسها لما سيأتي.
توقف سايلوس بجوار سيارة سوداء فاخرة، فتح الباب الخلفي، ثم ألقى نظرة نحوي. لم يقل شيئًا، لكنه لم يكن بحاجة إلى ذلك—النظرة وحدها كانت أمرًا غير مباشر بأن أركب.
زفرتُ ببطء، ثم جلستُ في المقعد الخلفي، وعيناي لا تزالان تبحثان عن أي علامة توضح أنني أتخذ القرار الصحيح. لكن لم يكن هناك شيء. فقط الصمت.
عندما تحركت السيارة، لم أكن متأكدة مما إذا كنتُ أذهب نحو الحقيقة… أم أهرب منها.
—
لم أكن أدرك كم كنتُ بحاجة إلى هذا المكان حتى عدتُ إليه.
القلعة كانت تمامًا كما تركتها—ضخمة، مظلمة، جميله تحمل في جدرانها أسرارًا أكثر مما يمكن لعقل أن يستوعب. لكن بطريقة غريبة، لم أشعر بالخوف. على العكس، كان هناك شيء مريح في هذا المكان، وكأنني عدتُ إلى جزء مني لم أكن أعلم أنه مفقود.
وقف سايلوس بجواري عند المدخل، يراقبني بصمت، قبل أن يقول بصوت منخفض: "أنتِ تتذكرين، أليس كذلك؟"
لم أنظر إليه، لكنني لم أنكر أيضًا. "لا أعرف… لكن هناك شيء ما هنا. شيء مألوف."
لم يُجب، فقط فتح الباب أمامي. "ادخلي."
تقدمتُ إلى الداخل، لأجد نفسي وسط ممرات القلعة الواسعة. شموع خافتة كانت تضيء الجدران الحجرية، والهواء كان مشبعًا برائحة الكتب القديمة والجلود الفاخرة.
لم يكن هناك أحد في الاستقبال، لكنني لم أشعر أنني بحاجة إلى من يرشدني. خطواتي قادتني تلقائيًا نحو الصالة الرئيسية، حيث وقف سايلوس على بعد خطوات مني، يراقبني كما لو كان ينتظر شيئًا.
استدرتُ نحوه، وأخيرًا سألتُ السؤال الذي ظل يلاحقني طوال الطريق: "ما الذي حدث بينك وبين والدي؟"
أظلمت عيناه للحظة، لكن ملامحه ظلت جامدة. "أشياء كثيرة."
"أريد الحقيقة، سايلوس."
نظر إليّ طويلًا، ثم قال: "ستعرفينها غدًا."
ارتبكتُ. "ماذا تقصد؟"
"أنتِ ستقابلينه، أليس كذلك؟" نبرته لم تكن غاضبة، لكنها كانت تحمل شيئًا يشبه التحذير.
تراجعتُ خطوة. "كيف…؟"
"أنا أعرفكِ، تونه." مشى باتجاهي ببطء، حتى أصبح أمامي مباشرة. "أعرف أنكِ لا تستطيعين العيش وسط الأسئلة بدون إجابات. لذلك، بالطبع، ستذهبين إليه."
ابتلعتُ ريقي. لم أكن أتوقع أن يكتشف أمري بهذه السرعة، لكنني لم أكن خائفة.
"أجل." قلتها بثبات، متوقعة مقاومته.
لكن سايلوس لم يظهر أي اعتراض. فقط أمال رأسه قليلًا، وكأن شيئًا ما راقه في إصراري.
"لن تذهبي وحدك."
"لماذا؟"
نظر إليّ نظرة طويلة، قبل أن يقول بصوت هادئ لكنه حاسم: "لأنني لن أسمح له بأخذك مني....... مره اخرى..."
—
القلعة كانت هادئة بشكل غريب، كأنها تحتضننا داخل أسرارها، تبعدنا عن العالم الخارجي ولو مؤقتًا.
كنتُ أسير بجوار سايلوس في الممرات الطويلة، خطواتنا تتردد بصوت خافت فوق الأرضية الرخامية، والهواء مشبع برائحة الطلاء القديم والكتب المغلقة منذ سنوات.
"هل كنتُ أعيش هنا حقًا؟" سألتُ بصوت منخفض، كأنني أخشى أن يكسر صوتي هذا السكون.
"نعم." أجاب دون تردد. "وهذا المكان كان أكثر من مجرد منزل بالنسبة لكِ."
التفتُّ إليه، عيناي تبحثان عن تفسير في ملامحه. "ماذا تعني؟"
توقف للحظة، ثم أدار رأسه لينظر إلى اللوحات المعلقة على الجدران. "هنا… كنا نجلس لساعات، نتحدث عن كل شيء وأي شيء. كنتِ تحبين الاستلقاء أمام الموقد في الشتاء، تراقبين اللهب وكأنكِ ترين فيه أسرار العالم."
شعرتُ بقشعريرة باردة تسري في جسدي، لكنني لم أكن متأكدة إن كانت بسبب الجو… أم بسبب كلماته.
تحرك، وأشار بيده إلى نهاية الممر. "تعالي، هناك شيء أريدكِ أن تريه."
—
وصلنا إلى باب خشبي قديم، فتحه سايلوس ببطء، وانسابت أمامي رائحة الزهور والأعشاب الطازجة.
الحديقة.
لم تكن مجرد مساحة خضراء، بل كانت عالمًا آخر مخفيًا داخل جدران القلعة. ضوء القمر كان ينسكب على الأشجار العالية، وعلى الأزهار التي تناثرت بين الممرات الحجرية. النافورة القديمة في المنتصف كانت لا تزال تعمل، مياهها تعكس السماء المظلمة كمرآة.
"اعتدتِ أن تأتي إلى هنا كل ليلة تقريبًا." قال سايلوس بصوت هادئ، بينما وقف بجواري.
"لماذا؟"
"لأنكِ كنتِ تحبين الصمت." نظر إليّ نظرة طويلة، وكأنها محملة بأكثر مما يقوله. "وكنتِ تقولين إن هذا المكان هو الوحيد الذي تشعرين فيه أنكِ تنتمين إليه."
شعرتُ بشيء في داخلي يستجيب لكلماته، كأن ذكرى بعيدة تحاول الصعود إلى السطح، لكنها لا تزال محجوبة عني.
"وهل كنتَ تأتي معي؟"
ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنها لم تكن ساخرة هذه المرة.
"دائمًا."
وقفنا هناك، تحت الأشجار المتشابكة، حيث كان العالم يبدو بعيدًا وغير حقيقي. كان هناك شيء حميمي في هذا الهدوء، في الطريقة التي كان ينظر بها إليّ، كأنه يرى شيئًا بداخلي لم أعد قادرة على رؤيته بنفسي.
ثم، فجأة، مدّ يده ولمست أصابعه خصلة من شعري المتطاير مع النسيم. كانت لمسته خفيفة، لكن أثرها كان أعمق مما توقعت.
"لا زلتِ أنتِ." قالها بصوت بالكاد كان مسموعًا، لكنها اخترقتني كما لو كانت حقيقة كنتُ أبحث عنها طوال هذا الوقت.
لم أستطع الرد. لم أكن متأكدة مما أشعر به، لكنني لم أرد الهروب. ليس هذه المرة.
—
بقينا في الحديقة حتى وقت متأخر، نتحدث عن ذكريات لم أكن أتذكرها، لكنه كان يرويها كما لو كانت حدثت بالأمس.
عندما عدنا إلى الداخل، شعرتُ وكأنني اقتربتُ أكثر من شيء كنتُ أبحث عنه دون أن أدرك.
لكن الغد… الغد سيكون مختلفًا.
الغد سأواجه الحقيقة.
وسايلوس سيكون هناك معي.
—
في اليوم التالي
كانت السيارة تتحرك بسلاسة فوق الطريق، صوت المحرك الهادئ بالكاد يُسمع، لكنه يحمل ثقلًا واضحًا—تمامًا مثل صاحبه.
سايلوس، بجانبي، بدا كعادته… واثقًا، متحكمًا، وكأن العالم بأكمله يدور حوله. كان يرتدي بدلة سوداء بالكامل، مصممة بإتقان يُبرز فخامته المعتادة. نظرة خاطفة إليه كانت كافية لتأكيد ما كنت أعرفه دائمًا—هذا الرجل لا يفعل شيئًا عاديًا، حتى في طريقة جلوسه خلف المقود، كانت هناك هيمنة لا يمكن إنكارها.
أما أنا، فقد اخترتُ فستانًا أسود قصيرًا، أنيقًا لكنه بسيط. لم أكن أفكر كثيرًا في تأثيره، لكن عندما رآني سايلوس، لاحظتُ تلك النظرة السريعة التي مرّت في عينيه، نظرة لم يكن بحاجة لأن يعلق عليها.
"متوترة؟" سأل بصوت هادئ وهو ينعطف نحو الطريق المؤدي إلى المنظمة.
نظرتُ من النافذة إلى المباني التي تتراجع خلفنا، ثم أعدتُ بصري إليه. "لا أعلم… ربما."
ابتسم، تلك الابتسامة التي تحمل أكثر مما تقول. "هذا جيد. التوتر يعني أنكِ تدركين خطورة ما نحن مقدمون عليه."
لم أجب، لكنني شعرتُ بانقباض خفيف في معدتي.
—
عندما وصلت السيارة إلى أمام مبنى منظمة الأمن الفضائي، لم أستطع إخفاء انبهاري.
كان المبنى الرئيسي الذي يوجد به مكتب .و..والدي.. ضخمًا، شامخًا في وسط المنظمه. التي تبدو كأنها مدينه كامله كبيره ، واجه المبنى الزجاجية العاكسة تعكس أشعة الشمس بشكل يوحي بالقوة والحداثة. كان كل شيء فيه منظمًا بدقة، كل تفصيلة تحمل طابعًا رسميًا لا يمكن تجاهله.
عند دخولنا، شعرتُ بتغيير واضح في الأجواء. الجميع كانوا يعملون بتركيز، لا أحد يتحدث بلا سبب، ولا توجد حركات عشوائية. كان المكان ينبض بالانضباط والجدية.
لكن رغم ذلك، كان هناك شيء واحد واضح…
كل العيون كانت علينا.
أو بالأحرى… عليه.
شعرتُ بنظرات الحذر والتوتر التي وُجهت نحوه من كل اتجاه، بعضهم وقف للحظات وكأنهم لم يصدقوا ما يرونه، والبعض الآخر بدا كأنه يجهز نفسه لأي حركة غير متوقعة.
فبعد كل شيء… كان هذا سايلوس. عدو المنظمة اللدود.
لكن أكثر ما أثار دهشتي هو أنه لم يبدُ متفاجئًا… أو مهتمًا.
بخطوات هادئة وواثقة، سار بجانبي وكأنه في منزله، وكأن كل هذا لم يكن يعنيه إطلاقًا. لم ينظر إلى أحد، لم يلتفت لأي همسة، فقط تقدم كما لو كان هذا المكان مجرد محطة أخرى في طريقه.
كنتُ أعلم أن هذا كان جزءًا منه—هذه الثقة المطلقة، هذا الشعور بالسيطرة، كأنه لا يعترف بأي سلطة سوى سلطته الخاصة.
ولكن هذا فقط جعلهم أكثر حذرًا.
—
ثم رأيته.
كايلب.
كان يقف عند نهاية الممر، بملامحه الجادة المعتادة، لكنني استطعتُ رؤية شيء آخر في عينيه.
خيبة أمل.
لم يكن بحاجة لأن يقول أي شيء، لم يكن بحاجة لأن يعبّر عن استيائه، فقد كان واضحًا في وقفته، في الطريقة التي نظر بها إليّ للحظة قبل أن يحول بصره إلى سايلوس.
أما الأخير؟
فقط ابتسم ابتسامة بطيئة، كأن هذا اللقاء كان ممتعًا بالنسبة له أكثر مما ينبغي.
كايلب لم يتحرك، لكنه كان ينتظرنا، وكأنه يختبر مدى ثقتي في قراري.
أما أنا؟
فقد أدركتُ أن هذه المواجهة… لن تكون سهلة.
—
كان المصعد صامتًا، صمتًا ثقيلًا يزداد وطأة مع كل طابق يرتفع بنا.
وقفتُ بين سايلوس وكايلب، أشعر بأنفاسي تصبح أثقل، وكأن الهواء في هذا الصندوق الزجاجي يضيق عليّ.
عينيّ كانتا تحدقان من خلال الجدران الشفافة… وما رأيته هناك جعلني أشعر وكأنني أمام عالم آخر تمامًا.
منظمة الأمن الفضائي لم تكن مجرد مبنى إداري، لم تكن حتى مجرد قاعدة عمليات. كانت مدينة.
الطوابق المتشابكة، الأنفاق الممتدة، الشاشات العملاقة التي تبث بيانات معقدة على مدار الساعة، الفرق العسكرية المدججة بالسلاح، العلماء الذين يتحركون كأنهم في سباق مع الزمن… كان كل شيء يبدو وكأنه نظام متكامل، أقرب إلى كيان حي يتنفس ويتحرك، حيث لا مجال للخطأ أو العبث.
راقبتُ ذلك بصمت، محاولةً أن أجد أي إحساس بالانتماء لهذا المكان… لكنه لم يكن موجودًا.
كنتُ هنا، لكنني لم أشعر أنني جزء منه.
ثم، وكأن جسدي أدرك ذلك قبلي، شعرتُ بالغثيان يزحف إلى معدتي، مزيجًا من القلق والتوتر والرهبة.
لم يكن لديّ خيار آخر.
يجب أن أواجهه.
يجب أن أواجه الرجل الذي كان يفترض أن يكون والدي… الرجل الذي تركني لأعيش كذبة طوال خمس سنوات.
لكن كيف سأفعل ذلك؟ ما الذي سأقوله له؟ هل سأصرخ في وجهه؟ هل سأطالبه بالحقيقة التي أنكرها الجميع؟
لا أعلم.
لكنني كنتُ واثقة من شيء واحد—لن يعترف بسهولة.
بل إنه قد لا يعترف أبدًا.
—
نظرتُ إلى سايلوس دون وعي، أبحث عن أي شيء في ملامحه يوحي بأنه يشعر بهذا التوتر معي… لكنه كان كعادته.
هادئ، صامت، مسترخٍ بشكل مستفز، كأن المصعد لا يحمله إلى مواجهة محتملة مع أحد أكثر الرجال قوةً في هذا العالم، بل إلى اجتماع عمل عادي.
لكنني لم أنخدع بهذا الهدوء.
رغم مظهره المتماسك، كنتُ أعرف أن وجوده هنا لم يكن مجرد دعم لي. كان شخصيًا.
هو ووالدي لم يكونا مجرد خصمين، بل كانا عدويْن، بينهما تاريخ ممتد من الصراع، وكلانا نعرف أن هذا اللقاء لن يكون هادئًا.
لا أعلم أي نوع من المشاجرات ستحدث بينهما، لكنني كنتُ متأكدة من شيء واحد—لا شيء سينتهي ببساطة.
—
رنّ صوت المصعد معلنًا وصولنا إلى القمة.
ارتجف قلبي للحظة.
الباب انفتح ببطء.
والآن… حان وقت مواجهة الحقيقة.
____
الباب كان أمامي.
بدا ضخمًا أكثر مما هو عليه، كأنه ليس مجرد حاجز ، بل بوابة إلى شيء كنتُ أهرب منه طوال حياتي.
كايلب تقدم أولًا، طرق الباب ثلاث مرات، ثم التفت إلينا، نظراته كانت تحذرني من شيء لم يقله بصوت عالٍ.
أما سايلوس؟
فقط وقف بجواري، يده في جيب سترته السوداء، مظهره الواثق لم يتزعزع أبدًا، لكنني كنتُ أعرف أن داخله ليس بنفس الهدوء الذي يظهره.
ثم…
فُتح الباب.
وعندها، رأيته.
الرجل الذي يُفترض أن يكون والدي.
—
رأيته أخيرًا.
الرجل الذي كان اسمه يلاحقني في كل مكان، لكن وجهه كان مجرد صورة ضبابية في ذاكرتي. الرجل الذي كان جزءًا من حياتي، ثم… اختفى، تاركًا إياي أعيش في عالم لم يكن حقيقيًا.
وقف هناك، خلف مكتبه الضخم، ملامحه متجمدة، غير مقروءة.
كان طويلًا، ذا بنية قوية، شعره الأسود مخطط بخيوط فضية عند الصدغين، وعيناه… عيناي. كانتا تحملان اللون الاخضر نفسه، لكنه لم يكن لونًا دافئًا كما توقعته. بل كان باردًا، قاسيًا، كأنهما تنظران إلى شخص غريب، لا إلى ابنته التي فقدها منذ خمس سنوات.
لم يتحرك. لم ينطق.
وكذلك أنا.
شعرتُ بقلبي ينبض بجنون، لكن شفتي ظلتا مغلقتين، كما لو أن الكلمات قد علقت في حنجرتي، رافضة الخروج.
ثم، أخيرًا، تحدث.
"لقد كبرتِ."
كانت كلماته جافة، لا دفء فيها. مجرد ملاحظة باردة، كأنه يتحدث عن شيء عادي وليس عن ابنته التي عادت إليه بعد سنوات من الغياب.
شعرتُ بشيء يغلي بداخلي. هل هذا كل ما لديه ليقوله؟ لا "اشتقت إليكِ"، لا "أنا آسف"، لا شيء؟
قبل أن أتمكن من الرد، تحرك سايلوس بجانبي، عبورًا إلى داخل الغرفة. لم يكن مهتمًا بالتحفظات، ولم يكن بحاجة إلى إذن.
"هل هذا كل شيء؟" قال بنبرة ساخرة وهو يتقدم للأمام، يديه لا تزالان في جيب سترته. "خمس سنوات، وهذه هي تحيتك؟"
رأيت كيف شدّ والدي فكه للحظة، وكيف تلاشت تلك البرودة المصطنعة للحظة وجيزة، ليحل محلها شيء أكثر حدة—غضب مكبوت، توتر، ربما حتى كراهية.
"لم أدعك إلى هنا، سايلوس." قال بصوت منخفض، لكنه كان مشبعًا بالتهديد.
سايلوس ابتسم، تلك الابتسامة البطيئة التي تجعل أي شخص يفقد أعصابه. "لا، لكنك لم تتمكن من منعي، أليس كذلك؟"
شعرتُ بالكهرباء في الجو، كأن كل شيء قد ينفجر في أي لحظة.
كايلب، الذي كان واقفًا عند الباب، زفر بصمت، وكأنه يعرف أن هذه المواجهة كانت حتمية.
لكنني لم آتِ إلى هنا لأكون متفرجة في صراع بينهما.
تحركتُ أخيرًا، متجاهلة التوتر الذي يملأ الغرفة، وقلت بصوت لم أعرف كيف تمكنتُ من إبقائه ثابتًا:
"لماذا فعلتَ ذلك؟"
نظر إليّ والدي، لم يرمش، كأنه كان يتوقع سؤالي.
"فعلتُ ماذا؟"
شعرتُ بالغضب يصعد إلى صدري. "لا تتظاهر بأنك لا تعرف. أنت تعلم. تعلم كل شيء."
مرت لحظة طويلة من الصمت، ثم قال أخيرًا: "إذا كنتِ تتحدثين عن فقدانكِ للذاكرة… فالأمر ليس كما تظنين."
شعرتُ بقبضتي تتشنج. "إذن، أخبرني كيف هو إذن؟"
حدق بي طويلًا، كأنه يزن خياراته، ثم قال بجفاف: "كنتِ خطرة جدًا، تونه."
تجمدتُ.
"ماذا؟"
تابع، نبرته لم تتغير، لكنها كانت تحمل شيئًا أكثر ظلامًا مما توقعتُه. "قدراتكِ لم تكن مستقرة، والطريقة الوحيدة لحمايتكِ… كانت بإبعادكِ عن كل هذا."
أبعدني؟
حمايتي؟
لقد تركني في كذبة، جعلني أعيش حياة لم تكن لي، سرق مني خمس سنوات كاملة، والآن… يسمي ذلك حماية؟
لم أتمكن من منع الضحكة القصيرة التي خرجت مني، لكنها لم تكن مرحة. كانت ضحكة شخص على وشك الانفجار.
"حمايتي؟" كررتُ، عيناي لا تفارقان عينيه. "لقد أرسلتني إلى عالم مزيف، جعلتني أعيش حياة ليست لي، وأنت تسمي ذلك حماية؟"
لم يتراجع، لم يبدُ عليه الندم حتى. فقط قال ببرود: "لقد فعلتُ ما كان يجب فعله."
شعرتُ بجسدي كله يرتجف، ليس من الخوف، بل من الغضب.
لكن قبل أن أتمكن من الرد، كان سايلوس هو من تحدث، صوته هادئ، لكنه كان يحمل نبرة خطيرة للغاية.
"هل هذا ما تقوله لنفسك لتبرر الأمر؟ أنك كنتَ تحميها؟" اقترب أكثر، كأنه يتحداه بصمته قبل كلماته. "أم أنك ببساطة لم تكن تثق بها بما يكفي لتواجه الحقيقة؟"
شيء ما في نظرة والدي تغير للحظة، لكنه سرعان ما عاد إلى جمودِه المعتاد.
"أنتَ آخر شخص يمكنه الحديث عن الثقة، سايلوس."
سايلوس لم يبتسم هذه المرة. فقط حدّق به للحظة طويلة، قبل أن يقول بصوت منخفض جدًا، لكنه كان أشبه بصوت عاصفة قادمة:
"ربما… لكن على الأقل، لم أخدعها."
مرت لحظة ثقيلة من الصمت.
ثم، لأول مرة منذ دخلتُ هذه الغرفة، رأيتُ شيئًا يتغير في تعابير والدي. لم يكن غضبًا هذه المرة… بل كان شيئًا آخر.
شيئًا لم أتمكن من فهمه تمامًا.
لكنني كنتُ أعلم أن هذه المواجهة… لم تنتهِ بعد.
بل كانت البداية فقط.
—
كان الصمت بيننا ثقيلاً، أكثر كثافة من الهواء نفسه. كنتُ أنظر إليه، إلى الرجل الذي يفترض أن يكون والدي، لكن كل ما رأيته كان شخصًا غريبًا، شخصًا لم أشعر معه بأي رابط، بأي دفء… بأي شيء.
كنتُ أرتجف، لكن ليس من الخوف. كان الغضب يتغلغل في عظامي، يغلي في دمي، يضغط على صدري حتى شعرتُ أنني قد أنفجر.
لم يكن ينظر إليّ كأب يرى ابنته بعد خمس سنوات من الفقدان. لم يكن حتى يحاول أن يبدو نادمًا.
"أهذا كل شيء؟" خرجت الكلمات من شفتي قبل أن أتمكن من إيقافها، كانت حادة، مغموسة بالمرارة. "تعترف بكل بساطة وكأن الأمر لا يعنيك؟ وكأنك لم تحطم حياتي بالكامل؟"
لم يرمش حتى. "ماذا كنتِ تودين مني أن أفعل؟ أكذب؟"
تجمدتُ للحظة، ثم ضحكتُ بسخرية، لكن لم يكن هناك أي مرح في صوتي. "نعم! على الأقل كنتَ ستمنحني عذرًا لأحاول مسامحتك! لكنك لم تحاول حتى. اعترفت كأن الأمر لا يهمك، كأنني لا أُهمك."
"تونه، هذا ليس صحيحًا."
"بل هو صحيح!" صرختُ، شعرتُ بأن صوتي يتصدع، كأن شيئًا ما في داخلي ينهار. "كايلب أخبرني أنك كنت تحبني، أنك كنت تحاول حمايتي… لكنني لا أرى هذا الحب! لا أراه فيك، لا أراه في كلماتك، لا أراه في أي شيء!"
أخذ خطوة صغيرة نحوي، لكنني رفعتُ يدي بسرعة، متراجعة للخلف. "لا تقترب مني!"
توقف، وعيناه كانت تدرسني وكأنني لغز يحاول حله، لكنني لم أكن لغزًا. كنتُ ابنته… وكان قد أضاعني.
"أنت تقول إنك كنت تحميني، لكن الحقيقة أنك لم تكن تثق بي. كنتَ خائفًا مني، مما قد أصبح عليه، مما قد أفعله."
لم يقل شيئًا، وهذا وحده كان كافيًا ليؤكد شكوكي.
أحنيتُ رأسي قليلًا، وشعرتُ بدموعي تحرق عيني، لكنني رفضتُ أن تسقط. رفضتُ أن أُظهر له أي ضعف.
"لقد صنعتَ لي حياة جديدة، عالمًا جديدًا، أبًا جديدًا… لكنك لم تدرك شيئًا، أليس كذلك؟" رفعتُ بصري إليه، نبرتي كانت أكثر هدوءًا، لكن هذا الهدوء كان أخطر من أي صراخ.
"لقد أحببتُ والدي المزيف أكثر مما أحببتُك."
رأيتُ كيف توتر فكه للحظة، كيف تغيرت ملامحه، لكنه لم يقاطعني.
"أتعلم لماذا؟ لأنه أحبني بصدق. لأنه لم يتخلَّ عني، لم يختر أن يتركني ضائعة في عالم لا أنتمي إليه. لقد كان سندي، حتى لو لم يكن حقيقيًا… لكنه كان أكثر صدقًا منك."
"تونه—"
"لا! لا تحاول تبرير شيء لا يمكن تبريره!" تقدمتُ نحوه بخطوات غاضبة، وواصلتُ بصوت مرتجف لكنه ثابت. "لقد تخليتَ عني، حكمتَ عليّ بالنسيان، قررتَ أن حياتي ستكون أفضل بدونك… وربما كنتَ على حق. لأنني الآن، وأنا أقف أمامك، لا أشعر بأنني ابنتك. لا أشعر بأنني أنتمي إليك."
أخفضَ نظره للحظة، ثم قال بصوت بارد: "أنتِ لا تفهمين."
شعرتُ بانفجار الغضب مرة أخرى. "إذن اجعلني أفهم! أخبرني، لماذا؟ لماذا فعلتَ ذلك؟ ولماذا لا يبدو أنك تشعر بأي ندم؟"
صمت للحظة طويلة، ثم قال بهدوء قاتل: "لأنني كنتُ أعرف أنكِ ستعودين يومًا ما."
تجمدتُ، أنفاسي توقفت للحظة.
"كنتِ قدري، تونه." تابع، عيناه لم تفارقاني. "لم يكن هناك مفر من هذه اللحظة، من هذه المواجهة. كنتِ ستعودين دائمًا، لأنكِ لم تكوني يومًا شخصًا عاديًا."
شعرتُ ببرودة تجتاح جسدي، ليس فقط بسبب كلماته… بل بسبب الحقيقة التي بدأت تتسلل إلى عقلي.
"إذن… كنتَ تنتظرني؟" همستُ، بالكاد استطعتُ سماع صوتي.
"دائمًا."
مرّت لحظة صمت مشحونة بالكثير من الأشياء غير المفهومة.
ثم سمعتُ صوتًا منخفضًا خلفي.
"لطالما كان لاعب شطرنج ماهرًا."
التفتُ فورًا، وعيناي التقتا بعيني سايلوس، الذي كان يقف هناك، مستندًا إلى الجدار، ملامحه لم تكن ساخرة كعادته… بل كانت تحمل شيئًا أشبه بالخطر.
"كل هذا كان مجرد خطة، أليس كذلك؟" تابع، وهو يخطو ببطء داخل الغرفة. "إبعادها، تركها تنضج بعيدًا عن كل هذا، ثم انتظار عودتها عندما يحين الوقت المناسب."
لم يقل والدي شيئًا، لكن نظرته أكدت ما قاله سايلوس.
شعرتُ بالدماء تغادر وجهي. "هل هذا صحيح؟" همستُ، شعرتُ بصوتي يرتجف.
كان هناك صمت ثقيل، ثم…
"نعم."
شعرتُ بشيء ينهار بداخلي، كأنني كنتُ أبحث عن سبب واحد فقط لأتمسك به، لكنه حطّمه بكل بساطة.
لم يكن يريد حمايتي.
لم يكن يحاول إنقاذي.
لقد كان يعدّني، يجهزني، ينتظر اللحظة التي سأعود فيها إليه.
أغمضتُ عيني للحظة، ثم فتحتُها، ونظرتُ إليه نظرة طويلة، نظرة حملت كل شيء لم أقله بصوت عالٍ.
ثم قلتُ، بهدوء:
"إذن، لقد كنتَ دائمًا تتوقع عودتي إليك."
"نعم."
أومأتُ برأسي ببطء، ثم ابتسمتُ ابتسامة باردة، مختلفة تمامًا عن أي ابتسامة سابقة.
"لكن ما لم تتوقعه…" تقدمتُ نحوه حتى أصبحتُ على بعد خطوات منه.
ثم همستُ بصوت بالكاد كان مسموعًا، لكنه كان يحمل أكثر مما يمكن أن تحمله أي صرخة:
"هو أنني لن أكون كما تريدني أن أكون."
استدرتُ بعدها، وتوجهتُ إلى الباب، دون أن أنظر خلفي، دون أن أسمح له برؤية الألم في عيني.
لكنني شعرتُ به هناك، خلفي، يراقبني وأنا أبتعد.
وشعرتُ بشيء آخر…
هذه المواجهة لم تكن النهاية.
بل كانت البداية فقط.
____________
خرجتُ من المكتب، والخطوات التي كنتُ أظنها ثابتة بدت لي الآن متعثرة.
كان الهواء في الممرات أضيق مما شعرتُ به عند الدخول، وكأن المكان نفسه يضغط على صدري، يمنعني من التنفس.
أشعر بنيران تغلي في داخلي، بألم عميق يزحف في أضلعي، لكنه لم يكن ألمًا جسديًا… بل كان أكثر قسوة.
خيبة الأمل.
كنتُ أود الصراخ، البكاء، الركض بعيدًا حتى أترك كل هذا خلفي، لكنني لم أستطع. لم يكن لدي هذا الخيار.
كان عليّ أن أبدو قوية.
لا أستطيع السماح له برؤية دموعي. لا أستطيع السماح لأي شخص برؤية ضعفي.
بلعتُ ريقي، أغمضتُ عيني لثانية واحدة فقط، ثم تابعتُ المشي.
—
لم أكن بحاجة إلى النظر خلفي لأعرف أن سايلوس كان هناك.
لم يكن يتحدث، لم يكن يحاول مواساتي، لكنه كان يتبعني كظلي.
كان حضوره ثقيلاً، ليس لأنه يشكل عبئًا… بل لأنه كان الوحيد الذي لم أشعر معه أنني بحاجة إلى التصنع.
لم يكن ينطق بكلمة، لكنه كان يفهم.
ربما لهذا السبب لم أستطع مواجهته أيضًا.
"تونه." ناداني بصوت هادئ، لكنه لم يكن ضعيفًا.
لم أرد.
"تونه، توقفي."
استمررتُ بالسير، رأسي منخفض، أنفاسي متسارعة، وكأنني أهرب من شيء يطاردني.
ثم، قبل أن أتمكن من التقدم أكثر، شعرتُ بيده تمسك بمعصمي بلطف. لم تكن قبضة تجبرني على التوقف، لكنها كانت كافية لتجعلني أشعر أنني لا أستطيع الفرار أكثر.
"لا داعي لهذا." قال بهدوء، وكأنه يعلم تمامًا ما أفعله.
رفعتُ نظري إليه، وعيناي كانت مشبعة بالدموع التي رفضتُ السماح لها بالسقوط.
"لا داعي لماذا؟" همستُ، صوتي بالكاد خرج مني.
نظر إليّ للحظة طويلة، ثم قال بصوت منخفض لكنه اخترقني كما لو كان نصلًا:
"لا داعي لأن تتظاهري بالقوة أمامي."
شعرتُ بارتعاشة خفيفة في شفتي، فعضضتها بقوة حتى منعتُ نفسي من فقدان السيطرة.
لكن قبل أن أتمكن من الرد، قاطعنا صوت آخر.
"تونه، سايلوس!"
التفتُ بسرعة، لأجد كايلب يركض نحونا، وجهه كان يحمل مزيجًا من القلق والتوتر.
توقف أمامنا، التقط أنفاسه سريعًا، ثم قال مباشرة: "يجب أن تستمعي لي."
لم أرد. لم أكن في حالة مزاجية جيدة لسماع أي شيء من أي شخص.
لكن كايلب لم يكن ينتظر إذنًا.
"والدك أخبرني بشيء مهم. عن ذاكرتكِ."
شعرتُ بشيء يتجمد في داخلي.
"ماذا عنه؟"
كايلب زفر، ثم قال بنبرة أكثر جدية: "قال إن الطريقة التي تسترجعين بها ذاكرتكِ الآن… ستؤذيكِ. ستضغط على عقلكِ بشكل خطير، وربما… قد تؤدي إلى نتائج لا يمكن إصلاحها."
شعرتُ بقلبي يسقط. "ماذا تعني؟"
"أعني أن كل ما تمرين به الآن—الأحلام، الذكريات التي تتدفق فجأة، الصداع، الاضطراب العاطفي… كلها علامات على أن عقلكِ يحاول استيعاب أكثر مما ينبغي في وقت قصير جدًا."
بلعتُ ريقي بصعوبة، لكنني حافظتُ على مظهري المتماسك. "وماذا بعد؟"
كايلب نظر إليّ بجدية، ثم قال بصوت منخفض: "قال إن هناك بروتوكولًا خاصًا لاسترجاع ذاكرتكِ دون أن تتأذي، وإنه الوحيد الذي يملكه."
تجمدتُ للحظة.
البروتوكول…؟
"هذا هراء." جاء صوت سايلوس حادًا، نبرته كانت مليئة بالرفض. "إنه فقط يريد إبقاءها تحت سيطرته أكثر."
كايلب لم يبدُ منزعجًا من تدخله، فقط نظر إليه، ثم عاد ببصره إليّ.
"أنا لا أطلب منكِ الوثوق به، تونه. لكنكِ رأيتِ كيف كنتِ تتألمين، كيف عقلكِ يتصدع تحت وطأة كل هذه الذكريات المتقطعة." توقف للحظة، ثم قال بصوت أكثر هدوءًا: "ألا تعتقدين أنه على الأقل… قد يكون محقًا؟"
شعرتُ ببرودة في أطرافي.
هل هو محق؟
هل الطريقة التي كنتُ أستعيد بها ذاكرتي كانت تدمرني ببطء؟
لكن… هل يمكنني الوثوق به؟
أخذتُ نفسًا عميقًا، وأغلقتُ عيني للحظة، محاولةً ترتيب أفكاري وسط هذا الفوضى.
عندما فتحتهما، نظرتُ إلى كايلب مباشرة، ثم قلتُ بصوت ثابت:
"أريد أن أعرف كل شيء عن هذا البروتوكول."
رأيتُ كيف ارتخت ملامحه قليلاً، لكنه لم يبتسم، فقط أومأ برأسه.
"سأخبركِ… لكن لا يمكننا الحديث هنا."
—
كنتُ أعلم أن هذا لم يكن سوى بداية جديدة لمعضلة أخرى.
كنتُ أبحث عن الحقيقة… لكن الحقيقة لم تكن سهلة أبدًا.
والآن، أمامي طريقان:
إما أن أرفض تصديق أي شيء يأتي من والدي، وأواصل استرجاع ذاكرتي كما أفعل الآن، حتى لو كان ذلك يعني إيذاء نفسي.
أو…
أنني قد أكون مضطرةً للعودة إليه.
لا أعرف أي خيار أكثر إيلامًا.
لكنني كنتُ متأكدة من شيء واحد فقط—
يجب علي استرجاع ذاكرتي بسرعه....
_____
تحركنا خلف كايلب عبر الممرات الطويلة للمبنى، خطواتنا تتردد على الأرضية اللامعة، بينما كل العيون كانت تراقبنا.
كان المشهد واضحًا… لا حاجة لكلمات لتفسيره.
كل شخص مررنا به توقف للحظة، ثم انحنى باحترام عندما عبر كايلب أمامه. بعضهم كانوا جنودًا بزي رسمي، آخرون كانوا موظفين في مكاتبهم، لكن جميعهم تصرفوا بالطريقة نفسها—انحناءة سريعة، نظرة تقدير، احترامٌ لم يكن مجرد مجاملة، بل كان نابعًا من شيء أعمق.
سلطة.
كايلب لم يكن مجرد عضو في هذه المنظمة، لم يكن مجرد رجل ذو منصب… كان شخصًا يُنظر إليه كقائد، شخصًا يتبعه الجميع دون سؤال.
أما سايلوس؟
كان الأمر مختلفًا تمامًا معه.
في كل مرة مررنا بجانب أحد الحراس أو المسؤولين، كانت العيون تتجمد للحظة، الأيدي تتجه دون وعي إلى الأسلحة، وكأنهم ينتظرون منه أي حركة غير متوقعة.
كانوا متوترين، حذرين، بعضهم حتى لم يحاول إخفاء نظرات التهديد التي ألقوها عليه.
لكن سايلوس… لم يهتم.
لم يتأثر بأي نظرة، لم يتوقف للحظة، لم يعطِهم حتى شرف الاعتراف بوجودهم.
مشاهدة هذا التناقض بينهما—بين الاحترام المطلق الذي يحظى به كايلب، والخوف المشوب بالعداء الذي يحيط بسايلوس—جعلتني أدرك مدى عمق الصراع بينهما.
لكنني لم أقل شيئًا.
اكتفيتُ بالصمت، بالتأمل، بمراقبة المشهد كما لو أنني ضيف في عالم لا أنتمي إليه تمامًا.
ثم، فجأة، دون أن أفكر، تحركتُ نحو سايلوس.
خفضتُ صوتي حتى لا يسمعنا أحد، ثم سألته بهدوء:
"ما رأيك؟"
توقّف للحظة، وكأنه لم يكن يتوقع سؤالي.
ثم استدار إليّ، حاجبه يرتفع قليلاً، قبل أن يرسم ابتسامة جانبية كسولة، تلك الابتسامة التي تحمل شيئًا بين السخرية واللامبالاة.
"في ماذا تحديدًا؟" سأل، صوته كان منخفضًا، لكنه لم يكن خافتًا بما يكفي ليخفيه عن كايلب، الذي لم يلتفت، لكنه كان يستمع بالتأكيد.
أشرتُ برأسي إلى الأشخاص من حولنا، إلى الطريقة التي يراقبونه بها، وكأنهم لا يتوقعون منه سوى الخيانة في أي لحظة.
"في كل هذا."
ابتسامته لم تختفِ، لكنها أصبحت أهدأ، أقل مرحًا.
"إنه أمر طبيعي، أليس كذلك؟" قال، وكأن الأمر لا يعنيه إطلاقًا. "أنتِ إما تُحكم قبضتكِ على الناس مثل كايلب، أو تجعلهم يخافونك مثلي."
حدّقتُ فيه للحظة. "وهذا لا يزعجك؟"
أدار وجهه للأمام مجددًا، يده لا تزال في جيب سترته السوداء، وسار بجانبي وكأن هذا الحديث لم يكن أكثر من محادثة عادية.
"لماذا قد يزعجني؟" قال أخيرًا. "الخوف والاحترام وجهان لعملة واحدة، تونه. في النهاية، كلاهما يمنحك السلطة."
كان هناك شيء بارد في نبرته، شيء جعلني أتساءل… هل يصدق هذا حقًا؟ هل يعتقد أن الخوف يمكن أن يكون بديلاً عن الولاء؟
كايلب، الذي ظل صامتًا طوال الوقت، قرر أخيرًا التدخل.
"الخوف ليس سلطة، سايلوس." قال بصوت ثابت دون أن ينظر إليه. "إنه مجرد وهم مؤقت."
سايلوس ضحك بخفة. "أوه، وهل الاحترام أبدي؟"
كايلب لم يرد، لكنني رأيت كيف اشتدت ملامحه للحظة.
أما أنا… فقط راقبتُ التوتر الصامت بينهما، وبينما كنتُ أفكر في معنى كلماتهما، أدركتُ شيئًا واحدًا.
هذا المكان، هذا النظام، هذه القواعد التي تحكم المنظمة… لم يكن أحد فيها بريئًا تمامًا.
كايلب قد يكون الشخص الذي يحظى باحترام الجميع، لكنه لم يصل إلى هذا المنصب دون صراع. وسايلوس قد يكون مكروهًا هنا، لكنه لم يكن يهتم، وربما هذا ما يجعله خطيرًا جدًا.
أما أنا؟
أنا فقط أراقب كل شيء… وأحاول أن أفهم أين أقف في وسط هذه اللعبة.
______
وصلنا إلى مكتب كايلب.
لم أكن بحاجة إلى التحديق طويلًا لأدرك حقيقة واضحة—إذا كان مكتب والدي يعكس قوته المطلقة، فإن مكتب كايلب كان إعلانًا غير مباشر عن وراثته لتلك السلطة.
القاعة كانت واسعة، مزينة برخام داكن يتخلله اللون الذهبي، نوافذ زجاجية ضخمة تمتد من الأرض حتى السقف، تكشف عن منظر مذهل للمدينة الممتدة تحتنا. مكتب خشبي فاخر يحتل منتصف الغرفة، تحيط به رفوف كتب مملوءة بأبحاث ووثائق لم أشك للحظة بأنها تحتوي على أسرار لا يجب أن تُقرأ.
لكن أكثر ما لفت انتباهي هو… الكراسي.
أمام المكتب، وُضعت أريكة سوداء أنيقة، مقابل كرسي وحيد يبدو وكأنه مصنوع خصيصًا لشخص واحد فقط.
جلستُ على الأريكة دون تفكير، أما سايلوس، الذي بدا وكأنه لا يهتم سوى براحة نفسه، فقد جلس بجانبي بكل هدوء، ممددًا إحدى ذراعيه على طرف الأريكة، وكأنه في منزله تمامًا.
كايلب لاحظ ذلك، بالطبع. لم يقل شيئًا، لكنه اتجه إلى كرسيه ببطء، جلس عليه بانسيابية متعمدة، ثم شبك يديه أمامه ونظر إلينا بصمت.
آه… هذا سيكون ممتعًا.
—
"إذن، لنبدأ مباشرة." قال كايلب أخيرًا، نبرته جادة كعادته. "لقد طلبتِ معرفة كل شيء عن البروتوكول، صحيح؟"
أومأتُ، متجاهلة الشعور الغريب الذي بدأ يتسلل إليّ.
"البروتوكول ليس مجرد إجراء طبي، تونه." أكمل، وعيناه مثبتتان عليّ. "إنه مصمم خصيصًا للأشخاص الذين… مثلكِ."
لم تعجبني طريقته في انتقاء كلماته. "مثلي؟"
"أولئك الذين يمتلكون قدرات لا ينبغي العبث بها دون رقابة."
لم أكن متأكدة مما إذا كان هذا تحذيرًا أم إهانة مغلفة، لكنني قررت ألا أقاطع بعد.
"إذا استمررتِ في استرجاع ذاكرتكِ بهذه الطريقة الفوضوية، فإن عقلكِ لن يتحمل الضغط لفترة طويلة." نظر إليّ بجدية. "هناك احتمال أن تفقدي السيطرة تمامًا."
شعرتُ بسايلوس يتحرك بجانبي، لم يبدُ متفاجئًا، لكنه كان يستمع باهتمام… اهتمام غريب، كما لو أن جزءًا منه يعرف هذه المعلومة مسبقًا.
"والبروتوكول يمنع هذا؟" سأل سايلوس، وكأن الأمر لم يكن مهمًا حقًا، لكنه أراد أن يسمع الإجابة على أي حال.
كايلب لم يرد عليه مباشرة، بل وجه كلامه لي. "إنه الطريقة الوحيدة لاستعادة ذاكرتكِ بالكامل دون أن تؤذي نفسكِ."
صمتّ للحظة، أفكر في كلماته. كان هذا منطقيًا بطريقة مزعجة، لكن المشكلة لم تكن في ما يقوله… بل فيمن يقوله.
"وهذا البروتوكول متوفر فقط عندكم، صحيح؟" سألته، وأنا أضع يدي فوق ركبتيّ، محاولة أن أبدو متماسكة.
"صحيح."
"إذن، لا خيار لدي سوى الوثوق بكم."
"أو المخاطرة بفقدان نفسكِ تدريجيًا."
شعرتُ بوخزة انزعاج، لكنه لم يكن مخطئًا تمامًا.
هنا، تنهد سايلوس ببطء، ثم قال بصوت مسرحّي، وكأنه يروي مأساة قديمة: "آه، كايلب العزيز، دائمًا بارع في تقديم الأمور وكأنها خيارات بينما هي ليست كذلك حقًا."
كايلب لم يُظهر أي تأثر، فقط ألقى نظرة هادئة عليه، ثم قال ببرود: "لا أحتاج لمحاضرات منك."
ابتسم سايلوس بسخرية خفيفة، ثم نظر إليّ وقال بصوت منخفض: "إنه يحاول أن يخيفكِ، لا أكثر."
"أنا لا أحاول شيئًا، أنا فقط أضع الحقائق أمامها." ردّ كايلب، ثم أضاف وهو ينظر لي مباشرة: "الخيار لكِ، لكن تأكدي أن بعض الأبواب، إن فُتحت بطريقة خاطئة… لا يمكن إغلاقها مجددًا."
—
أخذتُ نفسًا عميقًا، ثم نظرتُ إليهما، إلى الرجلين اللذين يمثّلان وجهين متناقضين لنفس العملة.
كايلب، بمنطقه البارد، بعقليته التي تضع النظام فوق كل شيء.
وسايلوس، الذي لا يهتم إلا بفعل الأمور بطريقته الخاصة، دون الالتفات إلى العواقب.
أما أنا؟
أنا كنتُ في المنتصف، في المكان الذي لم يكن مريحًا أبدًا.
"سأفكر في الأمر." قلتُ أخيرًا، وأنا أرفع رأسي بثبات.
كايلب لم يبدُ راضيًا، لكنه لم يجادل. "جيد."
أما سايلوس؟ فقط ابتسم، تلك الابتسامة التي جعلتني أشعر بأنه كان يعلم منذ البداية أنني لن أتخذ قرارًا بهذه السهولة.
"والآن بعد أن انتهينا من هذه المحادثة الجدية المملة…" قال وهو يتكئ إلى الخلف على الأريكة، "أليس لديك شيء آخر لنقدمه، كايلب؟ كوب شاي، ربما؟ جلسة علاج نفسي؟ أي شيء أكثر تسلية من هذا؟"
كايلب تجاهله تمامًا، ونظر إليّ مباشرة. "ستبقي هنا الليلة، أليس كذلك؟"
رمشتُ مرتين. "ماذا؟"
"يجب أن تكوني تحت المراقبة. لا يمكننا المخاطرة بأي نوبة مفاجئة لاسترجاع الذكريات أثناء مغادرتكِ."
"أوه، كم هو لطيف منك أن تقلق عليها." قال سايلوس بنبرة جافة، ثم نظر إليّ، وابتسم بسخرية واضحة. "هل ترين؟ قال إنه لا يحتاج لمحاضراتي، لكنه قلق جدًا عليكِ لدرجة أنه سيحتجزكِ هنا مثل سجينة."
"ليس سجينة، فقط تحت المراقبة." قال كايلب ببرود، ثم استدار إلى مكتبه وبدأ في كتابة شيء ما على إحدى الوثائق، وكأن الحديث قد انتهى.
نظرتُ إليهما، ثم زفرتُ ببطء.
رائع… ليلة أخرى عالقة بين شخصين لا يستطيعان التنفس في نفس الغرفة دون التلاعب ببعضهما البعض.
حقًا، يا لها من نعمة.
____
لم يكن الجناح مجرد غرفة، بل كان جناحًا فخمًا معزولًا داخل مبنى آخر، بعيدًا عن ضوضاء المقر الرئيسي.
"هذا سيكون مكان إقامتكِ الليلة." قال كايلب بينما كنا ندخل عبر الأبواب المصفحة.
نظرتُ حولي—الجدران كانت زجاجية، تطل على سماء المدينة المضاءة، الأثاث كان أنيقًا لكن بسيطًا، وهناك أجهزة متقدمة مثبتة في الزوايا، لم أكن متأكدة مما إذا كانت للمراقبة أم للحماية.
بالطبع، لم يكن المكان يبدو كزنزانة… لكنه لم يكن منزلًا أيضًا.
وقبل أن أستطيع قول شيء، جاء تعليق سايلوس الجاف: "آه، كايلب، كم أنتَ مضياف. غرفة فاخرة، إطلالة خلابة… فقط ينقصها قيد إلكتروني حول معصمها، وستكتمل التجربة."
كايلب لم يلتفت إليه حتى. "لا داعي لأن تبقى معها."
سايلوس رفع حاجبه ببطء، وكأن كايلب اقترح عليه شيئًا مستحيلًا. "عذرًا، ماذا قلتَ؟"
"سمعتَ جيدًا." التفت إليه كايلب أخيرًا، نبرته هادئة لكنها قاطعة. "وجودك هنا غير ضروري."
ضحك سايلوس ضحكة قصيرة، ثم استدار ناحيتي وقال بمرح زائف: "سمعتِ ذلك، تونه؟ وجودي غير ضروري." ثم التفت إلى كايلب مجددًا، ونبرته أصبحت أكثر جدية. "هذا ليس قرارك."
"في الواقع، هو كذلك." ردّ كايلب ببرود. "هذه منشأتي، وهذه قواعدي."
كنتُ أقف بينهما، أراقب هذا المشهد كما لو كنتُ في مباراة شطرنج حيث كل خطوة محسوبة.
أخذ سايلوس خطوة إلى الأمام، عيناه تلمعان بسخرية خافتة. "وأنتَ تعتقد أنني أهتم لقواعدك؟"
كايلب لم يتراجع، فقط رفع ذقنه قليلًا وقال بحدة: "وأنتَ تعتقد أنني سأسمح لك بالتجول هنا كما يحلو لك؟"
شعرتُ بالجو يزداد توترًا، وكأن أي حركة خاطئة قد تشعل انفجارًا.
تنهدتُ، ثم قلت بصوت هادئ لكنه قاطع: "كفى."
استدار كلاهما نحوي في نفس الوقت، لكنني لم أكن مهتمة بتحديقهم المتجمد.
"إذا كنتُ سأبقى هنا، فسأقرر من يبقى معي." نظرتُ إلى كايلب أولًا. "وأنتَ تعلم أنني لن أثق بك وحدك بعد كل شيء."
ثم نظرتُ إلى سايلوس. "وأنتَ تعلم أن تحديك لكايلب عند كل فرصة ممكنة لن يساعدني بشيء."
مرّت لحظة صمت، ثم زفر كايلب وقال: "كما تشائين."
أما سايلوس، فقد ابتسم لي نصف ابتسامة، وقال بنبرة ساخرة: "عزيزتي، أحيانًا أنسى كم أنتِ شجاعة."
رفعتُ حاجبي. "وأحيانًا، أنسى كم أنتَ مزعج."
ضحك، بينما هزّ كايلب رأسه وكأنه فقد الأمل في كلينا.
—
بعد عدة فحوصات طبية واختبارات غريبة لم أفهم نصفها، وجدتُ نفسي جالسة بينهما في مطعم المنظمة.
لم يكن المكان فاخرًا مثل القاعات التي مررنا بها من قبل، لكنه كان أنيقًا، بتصميم هادئ يجمع بين الرسمي والعملي.
الطعام كان جيدًا… أو ربما كنتُ جائعة جدًا فلم أهتم.
مرّت دقائق من الصمت، فقط أصوات الأطباق وأدوات الطعام، حتى قررتُ أن أطرح السؤال الذي لم يغادر ذهني منذ لحظة لقائي به.
وضعتُ الشوكة جانبًا، نظرتُ إليهما، ثم قلت: "أريد أن أعرف عن رافاييل."
لم يتحدث أي منهما فورًا، لكنني رأيت كيف توترت ملامح كايلب قليلًا، وكيف توقف سايلوس للحظة عن تحريك الشوكة بين أصابعه.
"من هو؟ ولماذا عندما ظهر شعرتُ وكأنني كنتُ على الشاطئ؟ أو في البحر؟"
سايلوس وضع الشوكة ببطء على الطاولة، ثم ألقى نظرة خاطفة على كايلب، وكأنهما قررا من عليه أن يتحدث أولًا.
كايلب زفر، ثم قال بهدوء: "رافاييل ليس… بشريًا."
رمشتُ مرتين. "عذرًا؟"
سايلوس ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنه لم تكن ساخرة هذه المرة، بل أشبه بابتسامة شخص يراقبني وأنا أخطو نحو الحقيقة.
"ماذا تعني بـ'ليس بشريًا'؟" قلت وأنا أضع يدي فوق الطاولة.
كايلب نظر إليّ نظرة ثابتة، ثم قال: "إنه… كيان مختلف. ليس منا، وليس من هذا المكان."
"مكان؟" شعرتُ بقشعريرة باردة تسري في جسدي. "إذن… هو من عالم آخر؟"
"يمكنكِ قول ذلك."
شعرتُ بالغثيان للحظة. كل شيء بدأ يصبح أكثر تعقيدًا مما كنتُ مستعدة له.
لكنني لم أنتهِ بعد.
"ولماذا كان يبحث عني؟"
سايلوس، الذي كان صامتًا طوال الوقت، قال بصوت منخفض جدًا، لكنه حمل ثقلًا لم أفهمه تمامًا: "لأنكِ تخصينه."
شعرتُ بصدمة صغيرة، وكأن شيئًا داخلي اهتزّ للحظة. "ماذا؟"
كايلب قاطعنا بسرعة: "ليس بتلك الطريقة التي تظنينها."
لكنني كنتُ أبحث في وجوههم عن تفسير أكثر وضوحًا.
"رافاييل ليس مجرد شخص يبحث عنكِ، تونه." قال كايلب، صوته أصبح أكثر جدية. "هو مرتبط بكِ بطريقة لا يمكننا فهمها بالكامل حتى الآن."
"ولهذا شعرتُ وكأنني كنتُ في البحر عندما ظهر؟"
أومأ كايلب ببطء. "نعم. لأن طبيعته… تشبه الماء."
سايلوس تكلم أخيرًا، نبرته كانت أكثر هدوءًا مما توقعت: "الماء هادئ، لكنه أيضًا قادر على جرف كل شيء في طريقه. ورافاييل… يشبه ذلك تمامًا."
شعرتُ بصدري يضيق للحظة، لكنني أبقيتُ ملامحي متماسكة.
إذا كان رافاييل ليس بشريًا… وإذا كان مرتبطًا بي…
فما الذي يعنيه ذلك عني؟
مرّت لحظة صمت مشحونة بالتوتر.
ثم، وبكل بساطة، قال سايلوس وهو يرفع كأس الماء ويحدق فيه: "على الأقل، هذا يفسر سبب كونه وسيمًا جدًا."
كايلب تنهد بصوت مسموع، بينما رمقته أنا بنظرة جافة.
"حقًا؟"
سايلوس ابتسم ببراءة مصطنعة، ثم ارتشف رشفة صغيرة من الماء. "أنا فقط أقول الحقائق."
كايلب أغمض عينيه للحظة، وكأنه يحتاج إلى إعادة ضبط أعصابه بالكامل، ثم قال: "أعتقد أن العشاء انتهى."
—
كنا قد غادرنا المطعم، وكان كايلب يسير أمامنا بخطوات ثابتة، متجهًا إلى الجناح حيث سنبقى. أما أنا، فكنتُ لا أزال أستوعب المعلومات التي ألقيت عليّ قبل دقائق فقط.
رافاييل… ليس بشريًا.
رافاييل… مرتبط بي بطريقة لا أفهمها.
رافاييل… جعلني أشعر كأنني كنتُ في البحر عندما رأيته.
ثم، فجأة، دون أن أفكر، توقفتُ.
"هل هو حورية بحر؟"
توقفتُ عن السير تمامًا، مما جعل كايلب يلتفت إليّ بوجه متجمد، بينما سايلوس رفع حاجبه ببطء وكأنني قد تفوقتُ على كل التوقعات الممكنة.
"عذرًا، ماذا؟" قال كايلب بصوت منخفض لكنه كان يحمل صدمة خفيفة.
نظرتُ إليهما بجدية تامة. "رافاييل… هو حورية بحر، أليس كذلك؟ لهذا السبب شعرتُ وكأنني كنتُ على الشاطئ عندما رأيته، ولهذا السبب هناك ماء في كل شيء يتعلق به."
مرّت ثانية من الصمت المشحون، ثم…
انفجر سايلوس ضاحكًا.
ضحكة لم تكن عالية، لكنها كانت واضحة تمامًا، حملت ذلك المزيج الساخر الذي جعلني أدرك على الفور أنني قلت شيئًا سخيفًا.
كايلب، من جهته، كان قد مرر يده على وجهه وكأنه يتساءل كيف انتهى به المطاف في هذا الحوار.
"يا إلهي، تونه." قال سايلوس بعد أن هدأ ضحكه قليلاً، "حورية بحر؟ هل تبدو لكِ تلك الهالة المخيفة والعيون الأرجوانية وكأنها تخص كائنًا خياليًا لطيفًا يعزف على قيثارة تحت الماء؟"
زفرتُ، وضربتُ ذراعه بخفة. "إذن، ما هو؟"
هنا، تغيرت ملامحه قليلاً. لم يعد يمزح تمامًا، لكنه لم يفقد نبرته المسترخية تمامًا.
"رافاييل ليس مجرد مخلوق بحري، تونه." قال، وهو يتكئ على الجدار بجانبي، "إنه ملك البحار السفلية."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي. "ملك…؟"
أومأ سايلوس ببطء، بينما كايلب ظل صامتًا، لكنه لم يقاطع.
"رافاييل ليس مجرد مخلوق يعيش في البحر، بل هو جزء من شيء أكبر بكثير مما تتخيلينه. إنه أقدم مما تعتقدين، عمره بالمئات، وربما أكثر."
شعرتُ بدمائي تبرد قليلاً، لكنني لم أتوقف. "ولماذا هو مرتبط بي؟"
هنا، تبادل سايلوس وكايلب نظرة قصيرة.
ثم قال سايلوس بصوت هادئ، لكنه حمل ثقل الحقيقة: "لأنكِ ولدتِ في البحر، تونه. وليس في أي بحر… بل في الغرفة المقدسة في مركز البحار السبعة."
رفعتُ رأسي بسرعة، شعرتُ بأن العالم كله توقف للحظة. "ماذا؟"
"كانت هناك تهديدات تحيط بكِ منذ ولادتكِ، لذلك تم اتخاذ قرار بنقلكِ إلى المكان الوحيد الذي لا يستطيع أحد المساس بكِ فيه."
"الغرفة المقدسة…" كررتُ بصوت منخفض، محاولة استيعاب الفكرة. "لكن كيف يعرف رافاييل عن هذا؟"
سايلوس ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنها لم تكن ساخرة هذه المرة. "لأنه كان هناك."
شعرتُ بأنفاسي تتسارع. "ماذا؟"
"رافاييل كان حاضرًا عند ولادتكِ." أكمل، وهو ينظر إليّ مباشرة. "وشيء ما حدث في تلك اللحظة… حادث جعل هناك رابطًا بينكما، رابطًا لم يكن مخططًا له."
شعرتُ بأن قدميّ تتجمدان في مكاني. "أي نوع من الحوادث؟"
هنا، جاء صوت كايلب أخيرًا، هادئًا لكنه كان يحمل شيئًا لا يمكن تجاهله: "لقد حاول إنقاذكِ."
التفتُ إليه بسرعة، عينيّ تحملان ألف سؤال.
"لم أفهم—"
"عندما ولدتِ، كان هناك شيء خاطئ." قال ببطء، وكأنه يختار كلماته بعناية. "شيء لم يكن طبيعيًا… ورافاييل، بطريقة ما، كان السبب في إبقائكِ على قيد الحياة."
بلعتُ ريقي بصعوبة. "كيف؟"
مرّت لحظة طويلة من الصمت، قبل أن يقول سايلوس أخيرًا:
"لقد أعطاكِ جزءًا من طاقته."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي، وكأن شيئًا ما كان يهمس لي بأن هذه ليست مجرد كلمات… بل حقيقة قديمة، منسية.
"وهذا… هذا يفسر الرابط بيننا؟"
"نعم." قال سايلوس، عاقدًا ذراعيه. "منذ تلك اللحظة، أصبح شيئًا داخله مرتبطًا بكِ. وهذا جعله… كيف أقولها بطريقة مهذبة؟"
"مهووسًا." قال كايلب بلا أي مجاملة.
سايلوس رفع يده مشيرًا إليه. "تمامًا، شكرًا لك، كايلب."
كايلب زفر ببطء. "هذا ليس أمرًا يُمزح بشأنه، سايلوس."
"أنا لا أمزح." ردّ سايلوس ببساطة، ثم نظر إليّ مجددًا. "رافاييل لا يرى نفسه مجرد شخص مهتم بكِ، بل يرى أنكِ… جزء منه. وهذا ما يجعله أكثر خطورة مما تتصورين."
شعرتُ بأن صدري يضيق، عقلي يحاول معالجة كل هذا دفعة واحدة.
"إذن… هو ليس فقط يراقبني، بل يشعر بأنني ملكه؟"
"بالتحديد."
سحبتُ نفسًا مرتجفًا، شعرتُ بالهواء حولي يصبح أثقل.
رفعتُ يدي إلى رأسي، حاولتُ أن أتماسك، لكن الحقيقة كانت تتسلل إليّ ببطء.
"وهل يمكنني… قطع هذا الرابط؟"
هنا، ساد الصمت.
سايلوس لم يرد فورًا، وكايلب لم يحاول حتى التظاهر بأنه يملك إجابة جاهزة.
ثم، أخيرًا، قال سايلوس بصوت منخفض جدًا:
"إذا كنتِ مستعدة لدفع الثمن."
رفعتُ عينيّ إليه، شعرتُ بأن شيئًا مظلمًا يلوح في الأفق.
"أي ثمن؟"
نظر إليّ للحظة طويلة، ثم قال بابتسامة خافتة لم تحمل أي مرح هذه المرة:
"هذا… هو السؤال الحقيقي."؟
_______