____
تحركنا عبر الممرات الطويلة، كايلب يسير أمامنا، ونحن خلفه، خطواتنا تصدح في الفراغ الهادئ.
كنتُ لا أزال غارقة في أفكاري.
رافاييل… ليس بشريًا.
رافاييل… ملك البحار السفلية.
رافاييل… مرتبط بي منذ ولادتي بسبب حادث غامض.
كنتُ أبحث عن إجابة واضحة، عن حلّ بسيط لهذه الفوضى، لكنني كنتُ أعرف… الأمور لم تكن بتلك السهولة أبدًا.
"حورية بحر…" تمتمتُ بصوت خافت.
سمعتُ صوت ضحكة مكتومة بجانبي. نظرتُ إلى سايلوس لأجده يرمقني بنظرة مسلية. "أنتِ لم تتجاوزي هذه الفكرة بعد، أليس كذلك؟"
"ما زلتُ أستوعب أنكَ تقول إنني وُلدتُ في قاع البحر، في غرفة مقدسة، بينما كان هناك ملك بحري غامض يراقبني."
"لم يكن يراقب، كان… مشاركًا." قالها وكأنه يصحح لي، مما جعلني أرغب في لكمه.
"رائع." تمتمتُ. "الأمر يزداد غرابة كل ثانية."
كايلب، الذي كان متجاهلًا لمشاحناتنا المعتادة، توقف فجأة أمام باب كبير، ثم استدار نحونا.
"هذا هو الجناح." قال بصوت رسمي.
دخلتُ خلفه، لأجد نفسي في غرفة فاخرة أخرى، ذات إضاءة خافتة وجدران زجاجية تطل على المدينة. على الرغم من الأناقة الفائقة، لم أشعر بالراحة تمامًا.
"ستبقى هنا الليلة، وسنراقب أي تغييرات تحدث في حالتكِ." قال كايلب. ثم نظر إلى سايلوس، وأضاف: "ولا داعي لبقائك."
سايلوس، بالطبع، لم يتحرك حتى. بل ابتسم تلك الابتسامة المستفزة وقال: "وأنتَ ما زلتَ تعتقد أن بإمكانك طردي؟"
كايلب زفر بنفاد صبر. "أنتَ غير ضروري هنا، سايلوس."
"أوه، لكنني ممتع، وهذا أهم." ردّ بنبرة ساخرة.
"هذا ليس عرضًا كوميديًا." قال كايلب بحدة.
"بالطبع لا، لكنك تجعله يبدو كأنه تقرير حكومي ممل."
رفعتُ يدي قبل أن ينفجر الموقف. "توقفا. كلاكما سيبقى بعيدًا إذا لم تتوقفا عن هذه المشاحنات."
صمتا، لكنني رأيت التوتر المتبادل بينهما.
زفرتُ، ثم جلستُ على الأريكة، متجاهلة التوتر في الهواء. "لندخل في صلب الموضوع، كايلب. قلت إن كسر ارتباطي برافاييل له ثمن. ما هو؟"
كايلب لم يجب على الفور. نظر إليّ للحظة، ثم ألقى نظرة جانبية على سايلوس، وكأنهما تبادلا حديثًا صامتًا.
ثم قال أخيرًا: "الغرفة المقدسة."
شعرتُ بتيار بارد يسري في عمودي الفقري. "ماذا عنها؟"
"إنها مصدر الرابط بينكِ وبينه. كسر الارتباط… يعني تدمير الغرفة."
اتسعت عيناي. "تدميرها؟"
أومأ كايلب ببطء. "إذا أردتِ التخلص من هذا الرابط، فيجب علينا إنهاء كل ما يربطكما منذ البداية. والغرفة هي البداية."
كان هناك شيء في نبرته جعلني أتوقف. "لكن…" أخذتُ نفسًا عميقًا، شعرتُ بأنني بدأتُ أفهم الأمر بطريقة لم تعجبني. "هذا سيؤدي إلى شيء أسوأ، أليس كذلك؟"
سايلوس، الذي كان حتى الآن مجرد مستمع مستمتع، قال بهدوء غير معتاد: "نعم."
"ماذا؟"
"تونه…" كايلب نظر إليّ بجدية قاتمة. "الغرفة المقدسة ليست مجرد مكان. إنها حجر الأساس في معاهدة السلام بين عالم البحار وعالم البشر. تدميرها… يعني إعلان الحرب."
تجمدتُ.
شعرتُ بأن العالم كله توقف للحظة.
"حرب؟" همستُ.
"نعم."
"تدمير الغرفة يعني إنهاء الاتفاق الذي يمنع عالم البحار من التدخل في عالمنا." قال سايلوس ببطء، نبرته فقدت مرحها المعتاد. "يعني إعطائهم سببًا للتحرك، ليردوا على ما سيعتبرونه خيانة."
وضعتُ يدي على رأسي، محاولة استيعاب حجم الكارثة التي انكشفت أمامي.
"إذن، لكي أكسر ارتباطي به، عليّ أن أشعل حربًا؟"
كايلب لم ينطق، لكن نظرته كانت كافية لتأكيد ما قلته.
"يا إلهي." تمتمتُ. "هذا ليس مجرد ثمن… هذا كارثة."
"بالضبط." قال سايلوس، وهو يعقد ذراعيه. "والآن، لديكِ خياران: إما أن تعيشي مع هذا الرابط إلى الأبد… أو تسببي حربًا قد لا يستطيع أحد إيقافها."
شعرتُ بالغثيان. لا يوجد خيار جيد هنا.
إما أن أبقى أسيرة لهذا الرابط، محاصرة بمصير لا أفهمه بالكامل…
أو أصبح السبب في إشعال حرب بين عالمين.
"هذا جنون." قلتُ بصوت مرتجف.
"هذا الواقع." ردّ كايلب بهدوء.
مرّت لحظات طويلة من الصمت.
ثم، فجأة، قاطعها صوت سايلوس، الذي قال بنبرة أخف، لكنه لم يكن يخفف من وطأة الموقف:
"على الأقل، لن تكون حربًا مملة."
نظرتُ إليه بحدة، بينما كايلب أطلق زفرة طويلة، وكأنه فقد الأمل تمامًا.
أما أنا؟
فقد أدركتُ أن هذه كانت أصعب معضلة واجهتها في حياتي.
______
وقف كايلب عند باب الجناح، ينظر إليّ بعينين جادتين كعادته.
"لديّ بعض الأعمال التي يجب أن أنهيها." قال بصوت ثابت، لكنني كنتُ أعرف أنه كان يتأكد من أنني سأكون بخير قبل أن يغادر.
أومأتُ برأسي دون أن أقول شيئًا.
نظر إلى سايلوس للحظة، ثم زفر ببطء، وكأنه يكره فعل ما سيقوم به. "اعتن بِها."
سايلوس رفع حاجبه، وكأنه كان على وشك إطلاق تعليق ساخر، لكن كايلب لم يمنحه الفرصة. ألقى علينا نظرة أخيرة، ثم خرج دون أن يضيف شيئًا.
سمعنا صوت الباب يُغلق، تاركًا المكان في صمت ثقيل.
شعرتُ بأنني أتنفس أخيرًا.
لكن ذلك لم يدم طويلًا، لأنني سرعان ما شعرتُ بشيء آخر.
خوف.
ليس مجرد قلق عادي، بل شعور عميق بأنني محاصرة في دوامة من الأحداث التي لا أملك السيطرة عليها.
تدمير الغرفة المقدسة؟ إشعال حرب بين عالمين؟ كيف يمكنني حتى استيعاب فكرة أنني قد أكون السبب في شيء بهذا الحجم؟
لا خيار لي…
لا مفر.
ارتعش جسدي قليلًا، رغم أن الغرفة لم تكن باردة.
"أنتِ تفكرين كثيرًا." جاء صوت سايلوس الهادئ بجانبي، مما جعلني أرفع رأسي نحوه.
كان ينظر إليّ، عينيه الحمراوان تتوهجان بلون داكن تحت الضوء الخافت، وكأنهما تقرآن كل ما يجول في داخلي.
"كيف لا أفكر؟" تمتمتُ، صوتي كان ضعيفًا. "أشعر وكأنني محاصرة."
لم يقل شيئًا فورًا. لكنه اقترب.
خطوة… ثم أخرى.
ثم، قبل أن أستوعب، كان قد وقف أمامي مباشرة، أقرب مما كنتُ مستعدة له.
"أتعلمين؟" قال بصوت منخفض، عينيه لم تفارقا وجهي. "إذا أردتِ، يمكنني أن أنهي كل هذا الآن."
"ماذا تعني؟"
انحنى قليلًا، صوته أصبح أكثر نعومة، لكن كلماته حملت شيئًا أكثر خطورة.
"أعني أنه إذا كنتِ تريدين، يمكنني أن أمحو كل شيء. الغرفة، رافاييل، والدكِ، حتى كايلب إن رغبتِ بذلك."
حبستُ أنفاسي.
"سايلوس…"
"أنا جاد، تونه." همس، نبرته لم تكن ساخرة هذه المرة، لم تكن حتى مستفزة. كانت… حقيقية.
"أنا لا أهتم بعالمهم، بقوانينهم، بماضيكِ أو بمستقبلكِ. كل ما يهمني… هو أنتِ."
شعرتُ بقشعريرة خفيفة تسري في جسدي.
"إذا كنتِ تريدين، سأدمر الأكوان كلها من أجلكِ."
اتسعت عيناي قليلًا، شعرتُ بثقل كلماته، ليس لأنه كان يبالغ… بل لأنني كنتُ أعرف أنه كان يعنيها تمامًا.
بلعتُ ريقي بصعوبة. "هذا… هذا جنون."
ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنها لم تكن ساخرة. "وربما لهذا السبب تتناسبين معي تمامًا."
لم أكن أعرف ماذا أقول.
كان الجو مشحونًا بطريقة لم أكن مستعدة لها، لكنني لم أبتعد. لم أشعر بالخوف منه، بل بشيء آخر… شيء أكثر عمقًا.
"أنا هنا، تونه." قال أخيرًا، نبرته أصبحت أكثر هدوءًا، لكنها لم تفقد قوتها. "بغض النظر عن القرار الذي تتخذينه، بغض النظر عن الاتجاه الذي ستسلكينه… سأكون بجانبكِ."
شعرتُ بشيء ما يلين داخلي.
الحقيقة هي… أنه لم يكن هناك أحد آخر قال لي هذا من قبل.
كايلب يريد مني أن أتبع القواعد، والدي يريد أن يحدد قدري، رافاييل يطاردني لسبب لا أفهمه… لكن سايلوس؟
هو فقط يقف بجانبي.
أغمضتُ عيني للحظة، ثم تنفستُ بعمق. "شكرًا لكَ، سايلوس."
عندما فتحتُ عيني، وجدتُ ابتسامته قد أصبحت أكثر دفئًا، لكنها لم تكن أقل شراسة.
"أوه، لا تشكريني بعد، عزيزتي." قال وهو يميل برأسه قليلًا. "لأنني بالتأكيد سأستغل هذا ضديكِ لاحقًا."
ضحكتُ، ضحكة خفيفة لكنها صادقة.
"كنتُ أعلم أنكَ ستقول شيئًا كهذا."
"بالطبع، من أنا إن لم أكن مستفزًا بعض الشيء؟"
هززتُ رأسي، لكنني لم أبتعد عندما جلس بجانبي على الأريكة.
ظلّ صامتًا للحظات، ثم قال بنبرة أكثر هدوءًا: "أنتِ متعبة، أليس كذلك؟"
أومأتُ ببطء.
لم أكن أعترف بذلك بصوت عالٍ، لكنني كنتُ أشعر بالإرهاق. عقلي كان يطفح بالمعلومات، بالأفكار، بالمخاوف.
"إذن، استرخي." قال ببساطة.
رفعتُ حاجبي. "وهل لديكَ خطة سحرية لجعل ذلك يحدث؟"
ابتسم ابتسامة جانبية، ثم مدّ يده إلى الطاولة الصغيرة بجانبه، وأخذ كأس الماء الذي كان هناك.
"حسنًا، يمكنني أن أرمي هذا الماء عليكِ، لكنني أعتقد أن ذلك قد يجعل الوضع أسوأ."
ضحكتُ مجددًا، لكنها كانت ضحكة خافتة هذه المرة، وكأنني بدأتُ أشعر ببعض الاسترخاء أخيرًا.
"أنتَ لا تساعد."
"بل أفعل، بطريقتي الخاصة."
هززتُ رأسي، لكنني لم أقاوم عندما مال برأسه قليلًا، وكأنه كان يدرس تعابيري عن قرب.
"هل أنتِ بخير؟" سأل أخيرًا، بصوت لم يكن مرتفعًا لكنه كان يحمل اهتمامًا حقيقيًا.
نظرتُ إليه للحظة، ثم أومأتُ ببطء.
"الآن، نعم."
رأيته يبتسم، ليس بسخريته المعتادة، بل بابتسامة صغيرة، وكأنه كان سعيدًا لسماع ذلك.
لم أكن أعرف ما الذي سيأتي لاحقًا، لم أكن أعرف ما إذا كنتُ سأتمكن من اتخاذ القرار الصحيح.
لكن هذه الليلة…
على الأقل، كنتُ أعلم أنني لستُ وحدي.
—
استيقظتُ على صوت طفيف… أشبه بهمس الليل عندما يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل شروق الشمس.
فتحتُ عينيّ ببطء، لأجد نفسي لا أزال في الجناح، الضوء الخافت القادم من النافذة يرسم ظلالًا ناعمة على الجدران.
لم أكن وحدي.
سايلوس كان جالسًا بجانبي، يحدّق عبر النافذة، عاقدًا ذراعيه. شعره الفضي كان يعكس نور المدينة البعيد، وعيناه الحمراوان كانتا تحملان شرارة لم أستطع تفسيرها.
لم يكن يتحدث، لم يكن يتحرك… لكنه لم يكن مسترخيًا أيضًا.
"أنتَ لا تنام، أليس كذلك؟" تمتمتُ، صوتي كان خافتًا لكنني كنتُ متأكدة من أنه سمعني.
التفتَ إليّ، حاجبه يرتفع قليلًا، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة. "لا . لكنني أستمتعت بمشاهدتكِ نائمه . يبدو الأمر… مسالمًا."
حدّقتُ به لثانية. "هل كنتَ تراقبني وأنا نائمة؟"
"مراقبة؟ يا لها من كلمة ثقيلة." قال بابتسامة جانبية، ثم أضاف، وكأنه يصححني: "لنفترض أنني كنتُ أتأكد أنكِ لم تختفي فجأة."
"لأنني أفعل ذلك طوال الوقت، أليس كذلك؟"
"حسنًا، مع كل الفوضى التي تحيط بكِ، لن أفاجأ إذا استيقظتِ يومًا ووجدتِ نفسكِ في بُعد آخر."
زفرتُ، ثم جلستُ مستقيمة، مددتُ يدي لأبعد آثار النوم عن وجهي. "كم الساعة؟"
"قبل الفجر بقليل."
نظرتُ إليه مجددًا. "وأنتَ لم تتحرك من هنا طوال هذا الوقت؟"
"قلتُ لكِ، كنتُ أتأكد أنكِ بخير."
شعرتُ بشيء غريب يتسلل إلى داخلي. اهتمامه بي لم يكن مجرد كلمات جوفاء، ولم يكن مجرد تصرف عابر.
كان حقيقيًا.
ابتسمتُ بخفة. "هذا… لطيف منك."
رفع حاجبه وكأنه تفاجأ بتعليقي، ثم قال بصوت هادئ لكن بنبرة تحمل بعض المزاح: "احذري، تونه، إذا قلتِ شيئًا لطيفًا آخر عني، قد أبدأ بالتصرف كشخص مسؤول."
ضحكتُ، ضحكة خفيفة لكنها كانت صادقة. "أوه، لا يمكننا المخاطرة بذلك."
—
جلسنا بصمت للحظات، لكن الصمت لم يكن ثقيلًا هذه المرة.
ثم، دون أن أنظر إليه، قلتُ: "سايلوس… ماذا ستفعل لو كنتَ مكاني؟"
رأيته يميل برأسه قليلًا، يفكر في سؤالي.
"تقصدين بشأن رافاييل؟"
"بشأن كل شيء."
مرر يده في شعره، ثم قال ببطء: "حسنًا… لو كنتُ مكانكِ، كنتُ سأختار الخيار الأكثر فوضوية."
"هذا ليس مفيدًا."
"بل هو كذلك، إن كنتِ تفهمين كيف تعمل الفوضى."
نظرتُ إليه، أنتظر تفسيره.
"الفوضى، تونه، هي الطريقة الوحيدة التي تجبر الجميع على كشف أوراقهم. عندما تنكسر القواعد، يتوقف الجميع عن التظاهر، وعندها فقط… تستطيعين رؤية الحقيقة."
شعرتُ بقشعريرة خفيفة. "وهل هذا ما تريده؟ أن تنكسر كل القواعد؟"
ابتسم ببطء. "أنا فقط أريدكِ أن تكوني حرة."
—
كانت كلماته تتردد في رأسي حتى بعد مرور لحظات طويلة.
الحرية… هل كنتُ أملكها حقًا؟
قبل أن أتمكن من التفكير أكثر، سمعنا طرقًا خفيفًا على الباب.
كايلب.
فتح الباب، دخل بخطوات ثابتة، لكنني لاحظت أن ملامحه كانت أكثر جمودًا من المعتاد.
"هناك مشكلة." قال مباشرة.
نظرتُ إليه بقلق. "ما الذي حدث؟"
تبادل نظرة خاطفة مع سايلوس، ثم قال: "لدينا زائر."
شعرتُ بشيء ينقبض داخلي. "من؟"
كايلب لم يجب فورًا. ثم، ببطء، قال: "رافاييل."
شعرتُ بأن الدماء تتجمد في عروقي.
أما سايلوس؟
فقط ابتسم.
لكنها لم تكن ابتسامة مرحة هذه المرة.
___
تحركنا خلف كايلب عبر الممرات الطويلة، خطواتنا تتردد على الأرضية الصلبة، وكلما اقتربنا من مكتب والدي، شعرتُ بذلك التوتر الثقيل الذي يضغط على صدري.
لم يكن لدي فكرة عن سبب وجود رافاييل هنا… لكنه لم يكن أبدًا بشير خير.
توقفنا أمام باب المكتب الكبير، وكايلب لم ينتظر حتى يطرق، بل فتحه مباشرة بخطوات مندَفعة، وكأنه على وشك مواجهة عاصفة.
دخلتُ خلفه، وعندما رفعتُ نظري… رأيته.
رافاييل.
كان جالسًا هناك، متكئًا على الأريكة الكبيرة بطريقة مسترخية تمامًا، وكأنه في منزله، إحدى ساقيه فوق الأخرى، وذراعه ممدودة على طرف الأريكة، بينما يدور كأس صغير من الشراب بين أصابعه الرشيقة.
بدا كما لو أنه خرج للتو من مشهد مسرحي مبالغ فيه—شعره الأرجواني اللامع ينسدل على كتفيه، وعيناه الأرجوانيتان تحملان بريقًا ساخرًا. كان يرتدي قميصًا مفتوحًا قليلًا عند العنق، وسترة فاخرة جعلته يبدو وكأنه أحد نبلاء العصور القديمة الذين لم يقرروا بعد ما إذا كانوا سيقودون مملكة… أو سيدمرونها لمجرد التسلية.
والأسوأ من ذلك؟
أنه كان يضحك… مع والدي.
"رافاييل!" صوّت كايلب كان ممتلئًا بالغضب وهو يندفع نحوه. "ما الذي تفعله هنا؟!"
رفع رافاييل رأسه ببطء، وكأنه لم يكن يعلم بوجودنا حتى الآن، ثم ابتسم تلك الابتسامة الصغيرة المستفزة.
"أوه، كايلب، لم أركَ هناك." قال بنبرة رخوة، وكأنه يرحب بصديق قديم وليس بشخص يكرهه.
كايلب لم يبتلع الطُعم. "هل فقدتَ عقلك؟ قبل يومين فقط كنتَ تهاجمنا في المطعم، والآن تجلس هنا بكل راحة وكأن شيئًا لم يكن؟!"
رافاييل أمال رأسه قليلًا، وكأنه كان يفكر بجدية في الأمر، ثم رفع كتفيه بلا مبالاة. "ما زلتُ لا أرى مشكلة هنا."
"أنتَ…" كايلب بدا على وشك الانفجار، لكن قبل أن يقول شيئًا آخر، جاء صوت والدي من خلف مكتبه.
"اهدأ، كايلب."
التفتُ إلى والدي، الذي كان جالسًا خلف مكتبه كعادته، ملامحه جامدة، لكنني لم أكن بحاجة إلى قراءة تعابيره لأدرك أنه لم يكن منزعجًا من وجود رافاييل هنا.
بل على العكس… بدا كما لو أنه كان مستمتعًا بالوضع.
نظرتُ بينهما، ثم قلتُ بحدة: "ما الذي يحدث هنا؟"
رافاييل هو من أجابني، وهو يستقيم قليلًا في جلسته. "حسنًا، بما أنكِ تسألين، تونه العزيزة، فقد كنتُ أجري حديثًا لطيفًا مع والدكِ هنا حول… أوه، دعينا نقول أنه أمر يخصّكِ."
تصلبتُ في مكاني. "أمري أنا؟"
"بالطبع."
شعرتُ بأنفاسي تتباطأ، بينما تبادل كايلب وسايلوس نظرات سريعة.
"ما الذي تريده، رافاييل؟" سألتُ، نبرتي أصبحت أكثر حدة.
"أوه، عزيزتي، لماذا يبدو صوتكِ عدوانيًا هكذا؟ لا شيء خطير، فقط…" توقف للحظة، ثم ابتسم بمكر. "أريد أن أتحدث عن الصفقة."
شعرتُ بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
"أي صفقة؟"
نظر إليّ مباشرة، وعيناه الأرجوانيتان التمعتا بلون عميق يشبه مياه البحر في منتصف العاصفة.
ثم قال، بصوت كان ناعمًا جدًا، لكنه حمل خلفه وزناً ثقيلًا:
"الصفقة التي قد تنقذكِ… أو تحطم كل شيء من حولكِ."
—
تجمدتُ في مكاني، وعقلي يحاول استيعاب كلماته.
"الصفقة التي قد تنقذكِ… أو تحطم كل شيء من حولكِ."
رافاييل كان ينظر إليّ مباشرة، وكأنه كان يستمتع بكل ثانية من ارتباكي.
كايلب، الذي كان لا يزال واقفًا بالقرب من الباب، شدّ فكه وقال بحدة: "لا أحد هنا مهتم بصفقاتك، رافاييل."
"أوه، كايلب، دائمًا متسرع، دائمًا مندفع." تمتم رافاييل بأسلوبه الدرامي المعتاد، ثم شبك أصابعه ببعضها وقال: "لكن، في الواقع، هذه الصفقة ليست لك. إنها لها."
وأشار إليّ بإيماءة خفيفة من رأسه.
شعرتُ بنظرات الجميع تلتفت إليّ، وكأنهم ينتظرون مني أن أقرر مصير الكون في لحظة.
بلعتُ ريقي ببطء. "ما الذي تتحدث عنه بالضبط؟"
"حسنًا، بما أنكم جميعًا تعلمون بالفعل أن كسر ارتباطكِ بي ليس أمرًا بسيطًا…" قال وهو يعتدل في جلسته، ثم تابع بابتسامة جانبية: "جئتُ أعرض عليكِ طريقًا آخر."
رفعتُ حاجبي بحذر. "طريق آخر؟"
"نعم، بدلاً من تدمير الغرفة المقدسة، مما سيؤدي إلى حرب شاملة بين عالم البحار وعالم البشر، هناك… خيار آخر."
التوتر في الغرفة أصبح ملموسًا.
"وأي خيار هذا؟" سألتُ، وأنا أشعر أنني لن أحب الإجابة.
هنا، ابتسم رافاييل تلك الابتسامة التي جعلتني أدرك فورًا أنه كان يستمتع بهذا أكثر مما ينبغي.
"أنتِ تبقين مرتبطة بي."
تجمدتُ للحظة، ثم قلتُ ببطء: "ماذا؟"
"أوه، لا تقلقي، لا أعني أن تظلي تحت سلطتي إلى الأبد." لوّح بيده وكأنه يطمئنني. "أعني أنكِ… تصبحين جزءًا من عالمي."
صمتّ.
كايلب ضغط يده في قبضة، بينما كنتُ أشعر بالطاقة المظلمة تتصاعد من سايلوس بجانبي.
"أوضح أكثر." قلتُ بصوت منخفض.
رافاييل استقام قليلًا، عينيه تحملان بريقًا غريبًا. "إذا كنتِ تريدين إنهاء هذا الرابط دون إشعال حرب، فإن الحل الوحيد هو أن تنقلي جزءًا منكِ إلى عالمي. بمعنى آخر… عليكِ أن تنتمي إلينا."
شعرتُ بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
"تقصد… أن أصبح واحدة منكم؟"
"ليس تمامًا." قال بنبرة مرحة، لكنه كان يراقبني عن كثب. "فقط… نصفكِ."
نصف…؟
كايلب كان أول من تحدث بعدي، صوته كان محمّلًا بالغضب المكتوم. "أنتَ تطلب منها أن تصبح كيانًا هجينًا؟!"
"أوه، لا تكن دراميًا، كايلب." تمتم رافاييل وهو يتظاهر بالملل. "إنها لن تصبح وحشًا أو شيء من هذا القبيل. فقط… شيء مختلف قليلاً."
"مختلف؟!"
سايلوس، الذي كان صامتًا طوال الوقت، أخيرًا تحرك.
خطا إلى الأمام ببطء، ثم قال بصوت هادئ لكنه محمّل بخطر خفي: "هل تدرك أنكَ تطلب منها أن تضحي بنصف إنسانيتها، أليس كذلك؟"
رافاييل لم يبدُ منزعجًا. "إنسانية؟ وهل تعتقد أنها كانت بشرية بالكامل منذ البداية؟"
شعرتُ بصاعقة تضربني من الداخل.
"ماذا تعني؟" همستُ.
"أوه، تونه، عزيزتي، ألم تتساءلي يومًا لماذا كنتِ قادرة على عبور الأحلام؟ لماذا كنتِ دائمًا مختلفة؟"
رأيتُ كيف تجمدت ملامح كايلب، وكيف أصبح وجه سايلوس أكثر ظلامًا.
"أنتِ لم تكوني بشرية بالكامل أبدًا."
شعرتُ بأن العالم كله يدور من حولي.
رافاييل ابتسم ببطء، ثم قال بصوت منخفض جدًا، لكنه اخترق عقلي كطعنة حادة:
"لقد كنتِ دائمًا جزءًا من البحر."
—
شعرتُ بجسدي يتجمد، وكأن روحي توقفت عن الحركة لوهلة.
"لقد كنتِ دائمًا جزءًا من البحر."
كانت الكلمات تتردد في رأسي كصدى بعيد، لكنها لم تكن مجرد كلمات. كانت حقيقة… حقيقة كنتُ أهرب منها دون أن أدرك ذلك.
التفتُ إلى رافاييل، عيناي تشتعلان بأسئلة لا تحصى، لكن قبل أن أفتح فمي، قاطعني صوت سايلوس.
"هذا يكفي."
كان صوته منخفضًا، لكنه حمل ثقلًا جعل الهواء في الغرفة يزداد كثافة.
رافاييل لم يُظهر أي انزعاج، بل فقط رفع حاجبه وكأنه يتساءل: ما الذي ستفعله؟
أما كايلب، فكان واقفًا كتمثال حجري، عيناه تضيقان بخطورة.
"ما الذي تقصده؟" نطقتُ أخيرًا، صوتي خرج أكثر ارتجافًا مما كنتُ أريده.
رافاييل ابتسم ببطء، ثم أمال رأسه قليلًا وكأنه يدرسني عن قرب. "أوه، تونه، عزيزتي… هل تظنين أن قوتكِ جاءت من العدم؟ أن قدرتكِ على التنقل بين الأحلام كانت مجرد مصادفة؟"
ضغطتُ على قبضتيّ. "أنا لا أفهم…"
"بل تفهمين." قاطعني، صوته أصبح أكثر هدوءًا لكنه لم يفقد حدته. "لديكِ ذكريات، أليس كذلك؟ لحظات لم تفهميها من قبل، مشاعر لم تكن منطقية… لمَ تعتقدين أنكِ شعرتِ وكأنكِ كنتِ في البحر عندما رأيتِني لأول مرة؟"
شعرتُ بشيء بارد يزحف عبر عمودي الفقري.
لأنه كان على حق.
لطالما كان هناك شيء غريب في داخلي، شيء لم أستطع تسميته، كأنني كنتُ أنتمي إلى مكان آخر… إلى عالم آخر.
لكن…
"أنتَ تكذب." قلتُ بصوت أكثر صلابة، محاوِلة أن أتمسك بعقلي وسط العاصفة التي أشعلها.
رافاييل ضحك، لكنها لم تكن ضحكة مرحة. "حقًا؟ إذن، هل تعتقدين أن والدكِ هنا سيؤكد كلامكِ؟"
التفتُ إلى والدي ببطء، وقلبي ينبض بقوة في أذنيّ.
كان صامتًا.
عيناه السوداوان، الباردتان كعادتهما، لم تظهرا أي مفاجأة… لم تظهرا أي إنكار.
بل كانت هناك حقيقة مريعة في صمته.
حقيقة أنه كان يعرف.
شعرتُ بأنفاسي تتسارع، بقلبي يخفق بجنون في صدري. "أبي… قُل لي إن هذا ليس صحيحًا."
ظلّ صامتًا.
ثم، أخيرًا، قال بصوت هادئ لكنه لم يكن خاليًا من الحدة: "هذا لا يهم الآن."
"ماذا؟" شهقتُ، لم أصدق ما سمعته.
"ما كنتِ عليه لا يغير شيئًا." أكمل بنفس الهدوء، لكن ملامحه كانت جامدة كما لو أنه كان يتحدث عن أمر لا قيمة له. "ما يهم هو الحاضر، والقرارات التي عليكِ اتخاذها الآن."
لم أستطع التوقف عن التحديق فيه، وكأنني كنتُ أنظر إلى شخص غريب تمامًا.
كايلب تحدث أخيرًا، نبرته كانت أكثر قتامة من المعتاد. "كنتَ تعرف طوال الوقت، ولم تخبرها؟"
"لم يكن هناك داعٍ لذلك."
لم يكن هناك داعٍ؟
لم يكن هناك داعٍ؟!
"لم يكن هناك داعٍ؟!" صرختُ، شعرتُ بالغضب يتفجر داخلي، بحرٌ هائج يكاد يبتلعني. "لقد أخفيتَ عني الحقيقة طوال حياتي، وجعلتني أعيش كذبة، والآن تقول إنه لا يهم؟!"
"لقد فعلتُ ما كان ضروريًا لحمايتكِ."
شعرتُ بالدموع تحرق عينيّ، لكنني رفضتُ السماح لها بالسقوط. "لا، لقد فعلتَ ما كان مريحًا لكَ!"
لم يتحرك. لم يُظهر أي ندم.
وهذا… هذا ما جعل الألم أشد.
التفتُ إلى رافاييل، الذي كان يراقب المشهد وكأنه يستمتع بعرض مسرحي مأساوي. "وما الذي يعنيه هذا لي؟"
"يعني أنكِ لستِ مجرد إنسانة عادية." قال بصوت ناعم، لكنه حمل شيئًا يشبه الإغواء الخفي. "ويعني أن الصفقة التي عرضتها عليكِ… ليست مجرد خيار، بل قد تكون قدركِ الحقيقي."
كايلب خطا للأمام، جسده أصبح متوترًا بالكامل. "لن يحدث هذا."
رافاييل ألقى عليه نظرة جانبية، ثم عاد ينظر إليّ. "الأمر ليس لكَ، كايلب. بل لها."
شعرتُ بثقل قراره يسقط فوقي.
"إذا اخترتِ كسر الارتباط بالطريقة التقليدية، فسيتم تدمير الغرفة المقدسة… وستندلع الحرب." قال، وهو ينهض من مكانه بخفة، ثم أضاف بابتسامة خفيفة: "لكن إذا قبلتِ صفقتي، فلن يكون هناك حرب. فقط… ولادة جديدة."
شعرتُ بأنني محاصرة.
التفتُ إلى سايلوس، الذي كان قد ظلّ صامتًا طوال الوقت، لكن هالته كانت أقوى من أي وقت مضى.
عندما تحدث، كان صوته أكثر ظلامًا مما سمعته من قبل. "إذا لمستها، سأمزقك."
رافاييل لم يتراجع، بل فقط ابتسم بمكر. "أوه، سايلوس، عزيزي، لا داعي للتهديدات الفارغة. القرار ليس لكَ أيضًا."
ثم عاد ينظر إليّ.
"إذن، تونه… ما هو اختياركِ؟"
شعرتُ بالعالم ينهار من حولي، قلبي ينبض بجنون، وخياراتي تتقلص حتى لم يتبقَّ سوى طريقين كلاهما مظلم.
إما أن أقبل… وأتخلى عن كل ما كنتُ أظنه حقيقيًا.
أو أرفض… وأكون السبب في دمار كل شيء.
كيف يمكنني اتخاذ هذا القرار؟
كيف يمكنني مواجهة الحقيقة التي بدأتُ بالكاد أستوعبها؟
ولكن، سواء كنتُ مستعدة أم لا…
كان عليّ أن أقرر.
—
كان الصمت يملأ الغرفة، ثقيلًا كأنه جدار من الجليد يفصلني عن الجميع.
رافاييل كان لا يزال واقفًا هناك، ينتظر جوابي، عيناه الأرجوانيتان تتلألآن تحت الضوء الخافت، تعكسان شيئًا يشبه الانتصار الصامت.
نظرتُ إلى كايلب… إلى سايلوس… إلى والدي، وكل ما رأيته كان وجوهًا تنتظر، تترقب، تحاول قراءة أفكاري قبل أن أنطق بها.
كنتُ محاصرة.
لا يوجد خيار جيد هنا. لا يوجد طريق بلا خسائر.
إما أن أقبل… وأخوض في عالم مجهول، أخسر جزءًا من نفسي، وأصبح شيئًا لم أفهمه بعد.
أو أرفض… وأكون السبب في إشعال حرب قد تدمر كل شيء.
تنفستُ ببطء.
ثم رفعتُ عينيّ إلى رافاييل وقلتُ بصوت هادئ لكنه ثابت:
"أقبل."
في اللحظة التي نطقتُ فيها بهذه الكلمة، شعرتُ بأن الهواء في الغرفة تغير.
كايلب تصلب مكانه، عيناه امتلأتا بصراع داخلي لم أفهمه تمامًا.
سايلوس لم يتحرك، لكنني رأيت كيف أصبحت هالته أكثر ظلامًا، كيف توهجت عيناه الحمراوان بلون أعمق.
أما رافاييل… فقد ابتسم.
"قرار حكيم، تونه." قال بصوت ناعم، لكنه لم يكن خاليًا من التلاعب الذي لطالما ميّزه.
شعرتُ بقلبي ينبض بقوة. لقد اتخذتُ القرار… لكن لم أكن مستعدة لما سيأتي بعده.
"وماذا الآن؟" سألتُ، محاوِلةً الحفاظ على هدوئي.
رافاييل أمال رأسه قليلًا، وكأنه يدرسني للحظة، ثم قال: "الآن… نعبر إلى المرحلة التالية."
رفع يده ببطء، وعندما فعل ذلك، شعرتُ بشيء غريب يتسلل إلى داخلي.
الهواء أصبح أثقل، وكأنني كنتُ أغرق في بحر غير مرئي.
ثم… شعرتُ به.
شيء يتحرك داخلي. شيء قديم، شيء لم أكن أعرف أنه موجود من قبل.
سقطتُ على ركبتي، شهقتُ، شعرتُ كما لو أن العالم كله بدأ يتلاشى من حولي.
"تونه!" سمعتُ صوت كايلب، لكنه بدا بعيدًا جدًا.
حاولتُ رفع رأسي، لكنني لم أستطع.
كل شيء كان يتحرك بداخلي، شيء يتغير، شيء يتمزق ويُعاد تشكيله من جديد.
ثم… رأيتُه.
بحر بلا نهاية.
سماء لا لون لها.
عالم لم يكن من هذا العالم.
كنتُ عائمة هناك، بين الواقع واللاواقع، بين ما كنتُ عليه وما أنا على وشك أن أصبحه.
ثم سمعتُ صوت رافاييل، يتردد في الفراغ كما لو أنه كان جزءًا من هذا المكان.
"لا تخافي… أنتِ فقط تعودين إلى حيث تنتمين."
شعرتُ بشيء ينهار داخلي، شيء يختفي، شيء يولد من جديد.
ثم… الظلام.
—
عندما فتحتُ عيني، كنتُ لا أزال في الغرفة.
لكن… لم يكن هناك شيء كما كان.
شعرتُ بجسدي مختلفًا. خفيفًا، لكنه ليس بشريًا تمامًا.
نظرتُ إلى يديّ…
ثم شهقتُ.
جلدي… كان يتوهج بخفوت، كأنني كنتُ مصنوعة من ضوء تحت الماء.
لم أكن كما كنتُ.
كنتُ شيئًا جديدًا.
رفعتُ بصري إلى رافاييل، الذي كان ينظر إليّ بعينين لامعتين بانتصار واضح.
"مرحبًا بكِ في العالم الحقيقي، تونه."
—
عندما قال رافاييل كلماته الأخيرة، شعرتُ بشيء يتصدع بداخلي.
"مرحبًا بكِ في العالم الحقيقي، تونه."
لكن… لم يكن هناك شيء حقيقي فيما كنتُ أشعر به.
نظرتُ إلى يديّ، إلى الضوء الخافت الذي كان يتوهج تحت جلدي، وكأنني لم أعد أنتمي لهذا المكان. شعرتُ بطاقة غريبة تجري في عروقي، لكنها لم تكن طاقة بشرية… كانت شيئًا آخر.
ثم، فجأة…
انفجر الهواء من حولي.
لم يكن صوتًا مسموعًا، لكنه كان كافيًا لجعل الجميع يتراجعون خطوة للخلف.
كايلب كان يحدق بي بصدمة، وسايلوس لم يتحرك، لكنني رأيتُ التوتر في كتفيه، كأنه كان يستعد لمواجهة شيء لم يكن يعرف طبيعته بعد.
أما رافاييل؟
فقد كان ينظر إليّ بابتسامة صغيرة، وكأنه يرى نتيجة تجربة كان متأكدًا من نجاحها.
"كيف تشعرين؟" سأل بصوت هادئ.
بلعتُ ريقي، محاوِلةً العثور على الكلمات، لكن… لم أستطع.
لم أشعر بأي شيء.
أو بالأحرى، لم أشعر كما كنتُ أشعر من قبل.
كان هناك شيء… غريب.
كأنني أصبحتُ منفصلة عن نفسي، كأن مشاعري لم تعد متصلة بي كما في السابق.
لم يكن هذا فقدانًا للمشاعر تمامًا، بل كان أسوأ.
كنتُ أدركها… لكنني لم أستطع الشعور بها بنفس القوة.
كما لو أنني أصبحتُ شخصًا يشاهد نفسه من بعيد، بدلاً من أن يكون هو نفسه.
لكن قبل أن أتمكن من التفكير أكثر، شعرتُ بشيء آخر.
ألم.
لكنه لم يكن جسديًا.
بل كان وكأن جسدي كله بدأ يطالب بشيء… بشيء لم أفهمه فورًا.
ثم، فجأة، أدركتُ.
"الماء."
التفتُ بسرعة، بحثًا عن مصدر، عن أي شيء، لكن لم يكن هناك شيء قريب.
لكن الشعور ازداد.
حلقُي أصبح جافًا، كما لو أنني كنتُ أختنق ببطء، رغم أنني كنتُ أتنفس.
ركبتيّ أصبحتا ضعيفتين، وبدأتُ أترنح.
"تونه؟" كان صوت كايلب، لكنه بدا بعيدًا جدًا.
رفعتُ يدي، محاوِلةً أن أقول شيئًا، لكن قبل أن أفعل، سمعتُ صوته.
"هدّئي نفسكِ، عزيزتي."
اتسعت عيناي.
لم يكن صوتي.
لم يكن صوت كايلب أو سايلوس.
كان صوت رافاييل.
داخل رأسي.
شعرتُ بأنفاسي تتقطع، جسدي يتجمد، وكأنني أدركتُ لتوي شيئًا أكثر رعبًا مما كنتُ أتصور.
التفتُ إليه ببطء، وعندما التقت نظراتنا، رأيتُ الحقيقة في عينيه.
"ماذا… فعلتَ بي؟"
ابتسم بخفة. "أوه، تونه، ألم تفهمي بعد؟"
شعرتُ بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
"أنا جزء منكِ الآن."
شهقتُ، وتراجعتُ خطوة للخلف. "لا… لا، هذا مستحيل."
"ليس مستحيلًا على الإطلاق." قال بصوت هادئ، لكنه كان مشبعًا بشيء خفي. "لقد قبلتِ الصفقة، وهذا يعني أن جزءًا منكِ أصبح ينتمي إلى عالمي. وجزءًا مني… أصبح بداخلكِ."
ارتجفتُ، لكنني لم أشعر بالبرد.
شعرتُ بأنني… محاصرة.
"لا، لا، هذا لا يمكن أن يكون حقيقيًا."
لكنني كنتُ أعرف.
كنتُ أعرف أنه كان يقول الحقيقة.
لأنني كنتُ أشعر به.
ليس فقط في أفكاري، بل في أعماق كياني.
لقد أصبح… متصلاً بي.
إلى الأبد.
—
"أعيدها لما كانت عليه." كان صوت سايلوس، لكنه لم يكن غاضبًا كما توقعتُ.
كان هادئًا. قاتلًا.
رافاييل لم يرد فورًا، لكنه نظر إليه بابتسامة صغيرة، ثم قال: "لا يمكنني ذلك."
"كاذب."
"صدقني، لو كنتُ أستطيع، لما فعلتُ."
كايلب، تحدث أخيرًا: "ما الذي يعنيه هذا؟ ما الذي سيحدث لها الآن؟"
رافاييل نظر إليّ مجددًا، وعندما تحدث، كان صوته يحمل نغمة أكثر ظلامًا من أي وقت مضى.
"يعني أنها لم تعد كما كانت أبدًا."
صمت للحظة، ثم أضاف:
"لن تتمكني من البقاء بعيدًا عن البحر لفترات طويلة، وإلا ستضعفين… وستشعرين بألم لا يمكنكِ تصوره."
بلعتُ ريقي، لكن حلقي لا يزال جافًا، وكأن جسدي بدأ يطالب بالماء أكثر فأكثر.
"كما أنني…" توقف للحظة، ثم ابتسم. "سأكون قادرًا على التواصل معكِ… في أي وقت أشاء."
شعرتُ بأن الهواء أصبح كثيفًا من حولي.
"أنتَ تملك السيطرة عليّ؟"
"ليس تمامًا." قال بنبرة متلاعبة. "لكني أستطيع التأثير عليكِ… ربما حتى توجيهكِ قليلًا، عندما يكون ذلك ضروريًا."
شعرتُ بالغثيان.
لكني لم أكن أعرف إن كان ذلك بسبب الحقيقة التي كشفها… أم بسبب أنني كنتُ بحاجة إلى الماء أكثر من أي وقت مضى.
"وأخيرًا…" أكمل بصوت هادئ لكنه حمل شيئًا لا يمكن تفسيره. "لن تعودي بشرية."
كايلب تصلب مكانه، وسايلوس لم يتحرك، لكنني شعرتُ بالطاقة الداكنة التي بدأت تنبعث منه.
"ماذا تعني؟" همستُ.
رافاييل نظر إليّ، عينيه تتوهجان بلون البحر العاصف.
"يعني أنكِ لم تعودي تمتلكين دورة حياة بشرية."
"ماذا؟" شهقتُ.
"لقد أصبحتِ… شيئًا آخر. لم تعودي مقيدة بالزمن كما في السابق."
شعرتُ بجسدي كله يبرد.
"ماذا يعني هذا؟"
"يعني أنكِ لم تعودي تعيشين وفقًا للزمن البشري، تونه." ابتسم بخفة. "قد تعيشين مئات السنين، أو ربما أكثر… أو أقل. لا أحد يعلم."
شعرتُ بأنني على وشك السقوط.
"لا…" تمتمتُ، لكن لم يكن هناك شيء يمكنني فعله.
لأنني كنتُ أعرف.
كنتُ أعرف أنني قد خسرتُ شيئًا لا يمكنني استعادته أبدًا.
لقد أصبحتُ… غريبة عن نفسي.
والاسوء من ذلك كان كل شيء باختياري وارادتي..
—
كان الصمت الذي تبع كلمات رافاييل ثقيلًا، خانقًا.
شعرتُ بأنفاسي تتباطأ، وكأن العالم كله بدأ يفقد توازنه من حولي.
"لقد أصبحتِ شيئًا آخر. لم تعودي مقيدة بالزمن البشري."
كانت كلماته تكرر نفسها داخل رأسي، تلتف حولي كدوامة لا مهرب منها.
كايلب كان أول من تحرك، نظر إلى رافاييل بنظرة لم أرها منه من قبل.
"أصلح هذا."
ضحك رافاييل، لكنها لم تكن ضحكة مرحة، بل كانت ضحكة شخص يستمتع بالفوضى من حوله.
ثم، وبحركة درامية، رفع يديه للسماء وقال بصوت مبالغ فيه: "يا إلهي، كايلب، هل تعتقد أنني ساحر من قصص الأطفال؟ ‘أصلح هذا’؟! ماذا بعد؟ هل تريد مني أن ألوّح بعصا سحرية وأعيدها إلى ما كانت عليه؟"
كايلب لم يبدُ مسليًا. "أعيدها كما كانت، الآن."
رافاييل وضع يده على صدره، وكأنه تلقى طعنة. "أوه، قاسي جدًا! كيف يمكنك أن تتحدث معي بهذه الطريقة؟ بعد كل شيء، لقد منحتُ تونه هدية لا تُقدّر بثمن!"
"هدية؟" صرختُ، لم أتمكن من منع الغضب الذي بدأ يتصاعد في داخلي. "لقد جعلتني… لا شيء! لا أنتمي لأي مكان! لا أستطيع حتى أن أشعر كما كنتُ أفعل من قبل!"
توقف رافاييل للحظة، ثم أمال رأسه ونظر إليّ كما لو كنتُ طفلًا صغيرًا يشكو من شيء تافه.
"أوه، عزيزتي، لا تكوني درامية جدًا."
"أنا؟!" صرختُ، مشيرةً إلى نفسي. "أنا من تكون درامية؟!"
"بالطبع، حبيبتي، انظري إليكِ!" لوّح بيده نحوي بطريقة مسرحية. "‘أوه، لقد فقدتُ إنسانيتي، أوه، لم أعد أشعر كما في السابق!’ تعلمين كم عدد المخلوقات التي تحلم بامتلاك ما لديكِ الآن؟ أنتِ أصبحتِ مميزة، نادرة، وربما، فقط ربما، أقوى مما كنتِ تتخيلين."
شعرتُ برغبة عارمة في لكمه.
لكن قبل أن أفعل، تحرك سايلوس.
"رافاييل."
كانت نبرته هادئة جدًا، وهذا ما جعل الأمر أكثر خطورة.
التفتَ رافاييل إليه، ثم تنهد وكأنه قد سئم. "أوه، ليس أنتَ أيضًا! هل ستلقي عليّ محاضرة أخرى عن كيف أنني ‘لعبتُ بدور الآلهة’ أو كيف أنني ‘تجاوزتُ الحدود’؟ لأنني سمعتُ هذا الكلام من قبل، وأقسم، إنه ممل جدًا."
سايلوس لم يبتسم.
لم يتحرك حتى.
لكنه كان ينظر إليه بطريقة جعلت الجو يصبح أثقل، وكأن الغرفة كلها أصبحت ساحة معركة خفية.
ثم، فجأة، قال بصوت منخفض جدًا:
"لقد لمستَ شيئًا لم يكن يجب عليك لمسه، رافاييل."
للحظة واحدة فقط، رأيتُ تعبيرًا مختلفًا يعبر وجه رافاييل.
شيء يشبه الحذر… أو ربما إدراكًا متأخرًا بأنه قد ذهب أبعد مما يجب.
لكنه اختفى بسرعة، واستبدله بابتسامة صغيرة.
"حسنًا، حسنًا، الجميع هنا متوترون جدًا. ربما علينا جميعًا أن نهدأ، نتحدث، نأخذ كوبًا من الشاي؟"
"اقطع هذا الهراء." قال كايلب بحدة، ثم نظر إليّ. "هل تشعرين بأي شيء… غير طبيعي الآن؟"
شعرتُ بوخزة باردة داخل معدتي، ثم أدركتُ أنني كنتُ لا أزال أختنق بشعور العطش الذي لم يكن طبيعيًا.
"أنا…" توقفتُ للحظة، ثم قلتُ بصوت ضعيف: "أحتاج إلى الماء."
"أوه، صحيح!" قال رافاييل، صافعًا جبهته وكأنه تذكر فجأة شيئًا مهمًا. "كنتُ أنسى أن أذكر هذه النقطة الصغيرة."
"أي نقطة؟" سألتُ، لكنني كنتُ متأكدة أنني لن أحب الإجابة.
"حسنًا…" أمال رأسه، ثم ابتسم كما لو كان يخبرني بأمر بسيط. "من الآن فصاعدًا، ستجدين أن جسمكِ يحتاج إلى البقاء قريبًا من الماء. بعيدًا عنه… ستشعرين بالضعف، وربما حتى الألم."
كايلب شتم بصوت منخفض، وسايلوس لم يتحرك، لكنني شعرتُ بالهواء من حوله يصبح أكثر حرارة.
أما أنا؟
فقد شعرتُ بالدماء تتجمد في عروقي.
"إلى متى؟" همستُ.
ابتسم رافاييل. "إلى الأبد."
شعرتُ بأنني على وشك السقوط.
"إلى الأبد."
لم أعد أملك دورة حياة بشرية. لم أعد أستطيع الابتعاد عن الماء. لم أعد أستطيع الشعور كما في السابق.
ورافاييل… أصبح متصلاً بي بطريقة لا أستطيع فهمها بالكامل.
هذا لم يكن مجرد ثمن.
هذا كان لعنة.
_____
ساد الصمت للحظات بعد كلمات رافاييل الأخيرة، لكنني لم أكن بحاجة إلى سماع المزيد.
كل شيء كان واضحًا.
هذا لم يكن مجرد تغيير… بل كان تحولًا لا رجعة فيه.
لكن قبل أن أستوعب كل شيء، شعرتُ بشيء آخر.
شيء أكثر ظلامًا.
الهواء في الغرفة أصبح ثقيلًا.
وكأن شيئًا كان يستعد للانفجار.
التفتُ ببطء، وعندها فقط، أدركتُ أن هناك شخصًا لم يتحدث حتى الآن.
سايلوس.
كان لا يزال واقفًا هناك، في نفس المكان الذي كان فيه منذ البداية.
لكنه لم يكن كما كان قبل لحظات.
الهالة من حوله كانت مختلفة.
كانت أكثر قتامة. أكثر خطورة.
شعرتُ كما لو أن المكان كله بدأ يفقد ملامحه، كأن الظلال نفسها بدأت تتحرك حوله.
ثم… تحدث.
لكن صوته لم يكن كما اعتدته.
كان أعمق. أشد.
"رافاييل."
كان مجرد نطق اسمه كافيًا ليجعل الجو يبرد فجأة.
رافاييل، الذي كان حتى الآن يستمتع بكونه نجم العرض، توقف للحظة، ثم أدار رأسه إليه.
ابتسم، لكنه لم تكن تلك الابتسامة المسترخية المعتادة.
بل كانت أقرب إلى التوتر المخفي خلف قناع اللامبالاة.
"أوه، هل قررتَ أخيرًا الانضمام إلينا، سايلوس؟ كنتُ أعتقد أنك ستبقى في الخلف تراقب فقط، كعادتك."
سايلوس لم يتحرك، لكنه كان ينظر إليه بطريقة جعلتني أشعر بقشعريرة حادة.
"ما الذي فعلته بها؟"
كانت نبرته هادئة… هادئة جدًا.
ورافاييل؟
كعادته، لم يكن مهتمًا بالأسئلة المباشرة.
"أوه، عزيزي، لماذا هذا الغضب؟ أليست تونه الآن أكثر قوة مما كانت عليه من قبل؟"
لكنني شعرتُ به.
شعرتُ بالغضب الذي كان يتصاعد داخل سايلوس، كما لو أنه كان يحاول السيطرة عليه بصعوبة.
ثم، فجأة…
اختفى.
لم يكن هناك.
لحظة واحدة كان أمامي، وفي اللحظة التالية… لا شيء.
رافاييل تجمد للحظة، لكن قبل أن يتمكن حتى من الاستدارة—
تحطم الجدار.
لم يكن مجرد تحطم بسيط.
لقد كان انفجارًا.
وكأن قوة غير مرئية قد دفعت الجدار بأكمله للخارج، مما جعل شظايا الخرسانة تتطاير في كل اتجاه.
ثم… رأيته.
سايلوس كان يقف في وسط الغبار، عيناه الحمراوان تتوهجان بشراسة لم أرها من قبل.
كان جسده مشحونًا بطاقة قاتمة، كأن الظلال نفسها كانت تتحرك من حوله، تلتف حوله كما لو كانت امتدادًا له.
وفي اللحظة التالية، تحرك.
بسرعة غير بشرية.
لم أتمكن حتى من تتبع حركته بالكامل، لكنه كان قد وصل إلى رافاييل في ثانية واحدة، و—
انفجار آخر.
هذه المرة، لم يكن الجدار هو الذي تحطم.
بل كان رافاييل نفسه.
أو بالأحرى، المكان الذي كان يقف فيه قبل لحظة.
لأنه في اللحظة التي رفع فيها سايلوس يده، تحطمت الأرضية تحته، مما جعل الهواء من حولنا يهتز بطاقة مرعبة.
لكن رافاييل لم يكن هناك.
ظهر على الجانب الآخر من الغرفة، جسده لا يزال سليمًا، لكنه لم يكن يبتسم هذه المرة.
"أوه، هذا لم يكن لطيفًا على الإطلاق." قال بصوت هادئ، لكنه كان يحمل نبرة حذرة لأول مرة.
سايلوس لم يرد.
لم يكن بحاجة لذلك.
لأن الظلال من حوله كانت تتحدث نيابة عنه.
كل جزء من جسده كان ينبعث منه شيء يشبه الطاقة الحية، وكأن الغضب نفسه قد تحول إلى شكل مادي.
كايلب، الذي كان يراقب بصمت، بدا متوترًا للحظة، لكنه لم يتحرك.
أما أنا؟
شعرتُ… بالخوف.
ليس من سايلوس نفسه، بل من القوة التي كان يمتلكها.
من ما كان يمكنه فعله.
ثم، قبل أن يتحدث أحد آخر، سمعنا صوتًا آخر.
تصفيق.
بطيء.
منتظم.
التفتنا جميعًا، وعندها رأيته.
والدي.
كان واقفًا هناك، ينظر إليّ كما لو أنني كنتُ لوحة فنية رائعة.
ثم قال، بصوت بارد كعادته:
"مذهل."
شعرتُ بدمائي تتجمد.
"أبي…" همستُ، لكنني لم أكن متأكدة مما كنتُ سأقوله.
اقترب بخطوات هادئة، ثم نظر إليّ كما لو أنني لم أكن ابنته، بل… مشروع ناجح.
"كنتُ أعلم أن التجربة ستنجح، لكنني لم أتوقع أن تكون بهذه الروعة."
كايلب تصلب مكانه، وسايلوس التفت إليه ببطء، لكن والدي لم يهتم بأي منهما.
كان ينظر إليّ.
وكأن ما حدث لم يكن كارثة… بل انتصار.
شعرتُ بشيء داخلي يتحطم.
"كنتَ تعرف؟" همستُ، صوتي بالكاد كان مسموعًا.
والدي رفع حاجبه، وكأنه لم يفهم لماذا كنتُ مصدومة.
"بالطبع."
شعرتُ بأنفاسي تتسارع. "أنتَ… أنتَ خططتَ لهذا؟"
"ليس بالكامل." قال ببساطة، ثم أضاف ببرود: "لكنني كنتُ مستعدًا لكل الاحتمالات. والآن، انظري إلى نفسكِ، تونه. لقد أصبحتِ أعظم ما صنعتُه على الإطلاق."
لم أستطع الرد.
لم أستطع حتى التنفس.
لأنني أدركتُ الحقيقة.
بالنسبة له، لم أكن ابنته.
كنتُ مجرد تجربة علمية ناجحة.
—
ارتفعت أصداء الانفجارات في المكان، الجدران تتشقق، الأرضية تهتز تحت أقدامنا.
الحرب بدأت.
سايلوس ورافاييل كانا يلتفان حول بعضهما مثل قوتين متضادتين، واحدة تتغذى من الظلال، والأخرى من البحر.
كل ضربة، كل حركة، كانت تترك أثرًا مدمرًا في المبنى بأكمله ، وكأن العالم نفسه لم يعد قادرًا على تحمل وجودهما معًا.
كايلب لم يقف مكتوف اليدين.
رأيته يندفع نحو رافاييل، عينيه مشتعلة بغضب لم أره فيه من قبل، وكأن كل شيء مكبوت داخله قد انفجر أخيرًا.
لكنني؟
لم أكن قادرة على التحرك.
كنتُ لا أزال واقفة هناك، أنظر إلى والدي الذي كان يتحدث بهدوء، وكأن ما يحدث حوله لا يعنيه.
"هذا رائع." تمتم، وكأن المشهد أمامه كان عرضًا علميًا مذهلًا.
شعرتُ بشيء بارد يزحف في داخلي.
"أنتَ…" بدأتُ، لكنني لم أجد الكلمات.
التفت إليّ، نظراته لم تكن مليئة بالحزن، أو الخوف، أو حتى القلق.
بل كانت فخورة.
"كنتُ أعرف أن هذه التجربة ستكون ناجحة، لكن رؤيتكِ هكذا…" ابتسم بخفة، ثم أضاف بصوت ناعم لكنه مشبع بالسلطة: "لقد أصبحتِ شيئًا أعظم مما توقعتُ."
شعرتُ بالدماء تغلي في عروقي.
"أنا لستُ تجربة!" صرختُ، لكن صوتي خرج ضعيفًا أكثر مما أردت.
"بالطبع أنتِ كذلك." قال ببساطة. "ولكن هذا ليس شيئًا سيئًا، تونه. على العكس تمامًا، لقد فتحتِ لنا بابًا جديدًا. الإمكانيات التي يمكننا استكشافها الآن لا حصر لها."
رفعتُ يدي إلى رأسي، شعرتُ بالغثيان. لم يكن فقط بسبب كلماته… بل بسبب شيء آخر.
أحتاج إلى الماء.
لكن لم يكن هناك شيء قريب.
أشعر أن حلقي يحترق، أن جلدي بدأ يجف، أن شيئًا في داخلي ينهار ببطء.
لكن والدي لم يكن يهتم.
"بمجرد أن تستقر حالتكِ، لدينا مهام لنجهزكِ لها. هناك عوالم أخرى تحتاج إلى كائن مثلكِ، تجارب خارج الأكوان… أنتِ ستكونين نموذجًا مثاليًا."
شعرتُ بأنفاسي تتقطع.
"تجارب… خارج الأكوان؟"
"أنتَ تتحدث عني وكأنني مجرد أداة." قلتُ، صوتي بالكاد خرج.
"لأنكِ كذلك." قالها بلا تردد. "وأفضل الأدوات هي التي يتم استخدامها بالشكل الصحيح."
شعرتُ بقشعريرة تجتاحني، لكن ليس بسبب كلماته فقط.
بل بسبب الألم الذي بدأ يتصاعد في داخلي.
كان كل شيء يصبح ضبابيًا، أصوات القتال أصبحت بعيدة، كأنني كنتُ أُغرق ببطء في بحر لا نهاية له.
جسدي ينهار.
حاولتُ أن أخطو خطوة للأمام، لكن قدميّ لم تتحركا.
أشعر أن الهواء أصبح ثقيلًا، أن رؤيتي بدأت تتلاشى.
ثم…
سعلتُ.
لكن لم يكن مجرد سعال.
كان هناك شيء دافئ في فمي.
نظرتُ للأسفل…
رأيتُ الدم.
كل شيء تجمد.
حتى القتال، حتى الصرخات، حتى الفوضى.
رأيتُ سايلوس يتوقف فجأة، الظلال من حوله تنكمش، وكايلب يحدق بي بعينين متسعتين، ورافاييل…
للمرة الأولى، لم يكن يبتسم.
لكنني لم أتمكن من رؤية المزيد.
لأن العالم كله… أصبح أسود.
ثم…
سقطتُ.