استيقظتُ.
لكن لم يكن هناك صوت، لم يكن هناك إحساس بالواقع كما كنتُ أعرفه.
لا ألم. لا راحة. لا شعور على الإطلاق.
فتحتُ عينيّ ببطء، فانعكس الضوء الأبيض القاسي في حدقتيّ، مما جعلني أغمضهما للحظة.
عندما تأقلمتُ مع الضوء، أدركتُ أين كنتُ.
غرفة بيضاء.
كل شيء حولي كان ناصع البياض، بلا تفاصيل، بلا معالم.
ثم شعرتُ به.
الماء.
كنتُ مستلقية في حوض ليس عميقًا، لكنه كان كافيًا ليغمرني حتى كتفيّ.
تحركتُ ببطء، لأشعر كيف كان الماء ينساب حولي، لكن… لم يكن الأمر كما كنتُ أعرفه.
لم يكن مجرد ماء.
بل كان داخل جسدي.
شعرتُ به يتدفق في عروقي، ينبض في داخلي كما لو كان قد حلّ محل دمي، كأنني لم أعد أحتاج إلى الهواء بقدر ما كنتُ أحتاج إلى هذا السائل الشفاف.
نظرتُ إلى يديّ.
رأيتُ كيف أن طبقة من الماء كانت تلتف حول جلدي، ليست مجرد قطرات، بل… درع شفاف.
كأنه كان امتدادًا لي، شيء ينبض معي، يتحرك معي، كأنه أصبح جزءًا من كياني نفسه.
مررتُ أصابعي على جلدي، لكنني لم أشعر بالبرودة.
لم أشعر بأي شيء.
لا شيء.
لا راحة. لا انزعاج. لا دفء، ولا برودة.
حتى عندما حاولتُ التفكير في شيء قد يثير فيّ أي مشاعر—الغضب، الخوف، الحزن—لم يحدث شيء.
كنتُ فقط… هناك.
فراغ.
أغمضتُ عينيّ، محاوِلةً البحث عن أي بقايا من ذاتي القديمة.
لكن لم يكن هناك شيء.
مجرد هدوء قاتل.
مجرد… غربة عن نفسي.
—
استلقيتُ في الماء، عيناي تنظران إلى السقف الأبيض، عقلي يحاول أن يتقبل ما أنا عليه الآن.
لكن لم يكن هناك رفض.
ولا تقبّل.
ولا شيء بينهما.
هل هذه أنا الآن؟
—
حاولتُ النهوض.
لكن في اللحظة التي تحركتُ فيها، شعرتُ وكأن جسدي كان مصنوعًا من الرصاص.
الماء الذي كان يحيط بي لم يكن مجرد سائل، بل كان… جزءًا مني.
كل خلية في جسدي كانت مشبعة به، وكأنني لم أعد أتنفس الهواء، بل كنتُ أعيش على تدفقه بداخلي.
لكن رغم ذلك، رغم أنني لم أشعر بالتعب، لم أشعر بالقوة أيضًا.
لم أشعر بشيء.
ثم، فجأة—
انفتح الباب بعنف.
الهواء في الغرفة اهتز للحظة، مما جعل الماء حولي يتحرك كتموجات صغيرة.
دخل شخص بسرعة، وحين رفعتُ رأسي، رأيتُه.
سايلوس.
لكنه لم يكن كما كنتُ أعرفه.
بدلته الفاخرة التي كانت دائمًا نظيفة ومثالية، كانت الآن ممزقة، مغطاة بالتراب، تحمل آثار العراك الذي خاضه قبل وصوله إلى هنا.
عيناه الحمراوان كانتا تشتعلان بشيء لم أكن قادرة على تفسيره، لكنه لم يكن الغضب المعتاد.
كان… أقرب إلى الجنون.
وراءه، كان هناك جنديان يلهثان كما لو أنهما كانا يطاردانه دون جدوى.
أحدهما كانت هناك كدمة حمراء قاتمة بجانب عينه، وكأن لكمة قوية قد أصابته، بينما الآخر كان أنفه ينزف بشدة، الدم يلطخ زيه الرسمي.
"أوقفه!" صرخ أحد الجنود، محاولًا اللحاق به.
لكن سايلوس لم يتوقف.
لم يكن حتى يرى أحدًا آخر غيري.
كان يتجه نحوي مباشرة.
—
"تونه!"
كان صوته مثل صاعقة اخترقت الهواء، مثل شيء كان يحاول أن يخترقني رغم كل هذا الفراغ بداخلي.
لكني لم أستطع الرد.
وقفتُ هناك فقط، أنظر إليه وهو يقترب، خطواته سريعة، وملامحه تحمل شيئًا لم أكن متأكدة من كنهه.
"هل أنتِ بخير؟"
لم أجب.
كيف يمكنني أن أشرح؟ كيف أخبره أنني لم أعد أعرف ماذا يعني "أن أكون بخير"؟
لكنه لم يكن بحاجة إلى إجابتي.
لأنه عندما وقف أمامي، لم يضيع لحظة واحدة.
ركع أمام الحوض، يمد يده نحوي، كما لو أنه كان بحاجة إلى التأكد من أنني لستُ مجرد وهم.
لكن قبل أن يلمسني—
"تراجع فورًا!"
كان صوت أحد الجنود، لكن سايلوس لم يتحرك.
لم يرفع حتى رأسه لينظر إليهم.
بل بقي محدقًا بي، عينيه تدرسان كل تفصيلة في وجهي، كما لو أنه كان يبحث عن شيء… أي شيء.
ثم همس بصوت منخفض، لكنه كان أكثر وضوحًا من أي ضوضاء في الغرفة.
"ما الذي فعلوه بكِ؟"
—
"قلتُ تراجع!"
اقترب الجندي، محاولًا الإمساك بكتف سايلوس، لكنه لم يكن مستعدًا لما حدث بعد ذلك.
بلمح البصر، أمسك سايلوس بمعصم الجندي، وسحبه للأسفل بعنف، مما جعله يصرخ من الألم.
"أوه، لا تفعل ذلك." قال سايلوس بصوت هادئ جدًا، لكنه كان مشحونًا بشيء أكثر خطورة من الصراخ نفسه.
ثم رفع رأسه، نظر إلى الجندي الآخر، الذي كان قد رفع سلاحه بالفعل.
"لا تفكر حتى في ذلك."
لم يكن تهديدًا.
كان وعدًا.
الجندي الآخر تجمد مكانه.
لكن قبل أن يتمكن من الرد، ظهر صوت جديد.
"ماذا يجري هنا؟"
—
التفتنا جميعًا، ورأينا رجلًا يدخل إلى الغرفة بهدوء.
والدي.
كان يسير بخطوات ثابتة، يده خلف ظهره، وكأن كل ما يحدث لم يكن خارجًا عن السيطرة تمامًا.
نظر إلى سايلوس، ثم إلى الجنديين المصابين، ثم عاد إليه.
"أنتَ تثير الفوضى، كما هو متوقع."
سايلوس لم يتحرك.
لكنني رأيت كيف اشتدت قبضته على معصم الجندي، كما لو أنه كان يقاوم رغبة في تحطيمه بالكامل.
"لقد كنتُ مشغولًا، لكنني متأكد أنك تعرف ذلك بالفعل." أكمل والدي بنبرة هادئة جدًا، لكنها كانت تحمل شيئًا جليديًا.
"كيف وجدتَ موقعها؟"
سايلوس ضحك، لكنها لم تكن ضحكة مرحة.
بل كانت ضربة مسمومة.
"حقًا؟ هذا هو سؤالك الأول؟"
ترك معصم الجندي، الذي سقط على الأرض، يتأوه من الألم، ثم نهض ببطء، ينظر مباشرة إلى والدي.
"ليس ‘كيف حالها؟’ أو ‘ماذا حدث لها؟’ لا، فقط كيف وجدتَ موقعها."
"لأنها ليست بحاجة إلى اهتمامك." قال والدي بلا مبالاة.
"ليست بحاجة إلى—؟"
رأيتُ كيف التمعت عينا سايلوس للحظة، قبل أن يتحرك أقرب، يواجه والدي مباشرة.
"ما الذي فعلته بها؟"
"ما الذي فعلتُه؟" رفع حاجبه، ثم ابتسم تلك الابتسامة الباردة. "أنا من أنقذها، سايلوس. أنا من منحها الحياة الجديدة التي تراها أمامك."
نظرتُ إلى والدي، لكن لم يكن هناك شيء في صوته يدل على العاطفة.
كأنني لم أكن ابنته.
كأنني لم أكن أكثر من… إنجاز.
—
سايلوس لم يبتسم.
لم يتحرك.
لكنه تحدث بصوت جعل الغرفة كلها تتجمد.
"أوه، صحيح. لقد نسيتُ أنك لا تؤمن بفكرة ‘البشر’. بالنسبة لك، كل شيء قابل للاستخدام، أليس كذلك؟ حتى ابنتك."
أصبح الجو مشحونًا فجأة.
الجنود بدوا وكأنهم لا يعرفون ما إذا كان عليهم التدخل أم لا.
لكن والدي؟
لم يكن من النوع الذي يفقد هدوءه.
"أنتَ تبالغ، كعادتك."
"وأنتَ قذر، كعادتك." رد سايلوس بسرعة، نبرته كانت مزيجًا من الغضب والسخرية.
"كل ما أفعله هو من أجل العلم، من أجل مستقبل أكبر."
"أوه، بالطبع!" قال سايلوس بنبرة مبالغ فيها، يرفع يده بتظاهر مسرحي. "كيف لم أفهم ذلك؟ ‘كل شيء من أجل المستقبل!’"
ثم خفض صوته، ونظر إليه نظرة باردة.
"قل لي، متى كانت آخر مرة رأيتها فيها كإنسان، وليس كأداة؟"
للحظة، فقط للحظة، رأيتُ عيني والدي تضيقان.
لكن قبل أن أتمكن من التفكير أكثر، شعرتُ به.
الألم.
لقد عاد.
لكن هذه المرة، كان أسوأ.
حاولتُ أن أتحرك، لكن…
رأيتُ الماء من حولي يتغير.
ثم، فجأة—
سعلتُ
مجددًا....
اشعر بطعم معدني في فمي.
دماء.
كان هذا أول شيء أدركته.
لم أشعر بالألم، لم أشعر بالخوف… فقط أدركتُ.
رفعتُ رأسي ببطء، رأسي ثقيل كما لو أنني كنتُ أغرق في أعماق بحر لا نهاية له.
ثم… جاءت الذكريات.
ليس ببطء، ليس تدريجيًا، بل كالسيل الذي حطم السدود واجتاح كل شيء في طريقي.
رأيتُ كل شيء.
رأيتُ والدي، كيف كان يعطيني الأوامر، كيف كنتُ أنفذها دون أن أسأل.
رأيتُ الكواكب، العوالم التي زرتها، كيف كنتُ شيئًا يُخشى، لكن لا يمكن الاقتراب منه.
رأيتُ سايلوس.
رأيتُ نحن.
كيف كان دائمًا هناك، كيف كان ظلي، قوتي، ضعفي، شيء لم أكن أفهمه تمامًا، لكنه كان دائمًا موجودًا.
ثم… رأيتُهم.
أمي. أخي.
كيف فقدتهما.
كيف رأيتُ حياتي تنهار أمام عينيّ، ولم أكن قادرة على فعل أي شيء لمنعه.
كيف كنتُ مجرد أداة، مجرد شيء يُستخدم ثم يُلقى جانبًا عندما تنتهي فائدته.
لكنني لم أعد كذلك الآن.
لم أعد ذلك الشيء الذي يمكن التحكم به، لم أعد تلك الفتاة التي فقدت كل شيء ولم يكن لها خيار.
أنا هنا.
أنا عدتُ بالكامل.
—
رفعتُ عينيّ، وبمجرد أن فعلتُ، رأيته.
سايلوس.
كان أمامي، يركع بجانب الحوض، وجهه أقرب مما توقعتُ، يديه تحيطان بوجهي كما لو كنتُ شيئًا قابلاً للانكسار.
لكن الأهم… كانت عيناه.
تلك العيون الحمراء التي رأيتها آلاف المرات، لكن هذه المرة، كانت مختلفة.
لم تكن غاضبة.
لم تكن حاقدة.
بل كانت… خائفة.
لكن لماذا؟
ثم أدركتُ.
رأيتُ الدم على يدي، على الماء من حولي، تذكرتُ كيف كنتُ أسعل الدماء، كيف كنتُ على وشك…
الموت؟
لم أشعر بالخوف.
لم أشعر بأي شيء.
لكنني رأيتُ كيف كان ينظر إليّ، كيف كان وجهه يحمل شيئًا لم أكن قادرة على استيعابه بالكامل.
كيف كان يمسك بي كما لو أنني قد أختفي في أي لحظة.
لكنني لن أفعل.
لن أختفي.
أنا عدتُ.
—
تحرك لساني قبل أن أفكر حتى في الكلمات.
"لنذهب إلى قلعتنا، سايلوس."
رأيتُ كيف تغير تعبيره في لحظة.
شيء ما في داخله انفجر، شيء لم أكن متأكدة منه، لكنه كان شيئًا عظيمًا.
لم يسألني كيف.
لم يسألني لماذا.
لم ينتظر حتى ثانية واحدة.
في لحظة واحدة، كنتُ بين ذراعيه.
رفعتُ يديّ قليلًا، ليس لأتمسك به، بل لأتأكد أنني لستُ أحلم.
لكن قبل أن أستوعب المزيد، شعرتُ بالحركة السريعة، بالهواء الذي أصبح أكثر برودة.
رأيته يرفع يده الأخرى، يوجهها نحو النافذة بجانبنا، عينيه لا تزالان تحملان ذلك الشيء الذي لم أفهمه تمامًا.
ثم…
تحطمت النافذة بضربة واحدة.
وسقطنا معًا في الفراغ.
—
الهواء كان يصرخ حولي.
الرياح الباردة ضربت وجهي بينما كنتُ معلقة بين ذراعيه، جسدي خفيف كما لو أنني لم أعد أنتمي لهذا العالم.
سايلوس كان يركض.
لا… لم يكن يركض.
كان يقفز.
—
فتحمتُ عينيّ، رأيتُ الأضواء أدناه، المباني التي كنا نعبرها كما لو كانت مجرد عوائق صغيرة في طريقنا.
هذا جنون.
لكنني لم أكن خائفة.
لأنني كنتُ بين يديه.
—
خلفنا، سمعتُ صرخات.
الجنود كانوا يطاردوننا، أصوات خطواتهم تتردد فوق الأسطح المعدنية، أصوات الأسلحة تُجهّز، الأوامر تُطلق عبر أجهزة الاتصال.
لكن سايلوس لم يكن مهتمًا.
بدا وكأنه لم يكن حتى يسمعهم.
ثم…
صَفَر.
—
لم تمضِ سوى ثانيتين حتى سمعتُ الصوت.
أجنحة ضخمة تخترق الهواء، صرخة غراب عميقة، ثم…
ظهرا.
غرابان ضخمان، أجنحتهما سوداء كالظل، عيونهما تتوهج بانعكاس أضواء المدينة.
بمجرد أن وصلا، أطلق سايلوس أمرًا بسيطًا، دون أن يبطئ سرعته:
"أوقفوهُم."
لم يكن بحاجة إلى قول أكثر من ذلك.
بمجرد أن وصلت كلماته إلى آذانهم، انقضا على الجنود كأشباح قاتمة، أصوات الصرخات ارتفعت من خلفنا، لكننا لم ننظر إلى الوراء.
—
قفز سايلوس من مبنى إلى آخر، جسده يتحرك بسلاسة غير بشرية، وكأنه لم يكن مرتبطًا بالجاذبية كما يفترض أن يكون.
ثم، أخيرًا، رأيتها.
السيارة.
كانت مركونة في الزاوية، سوداء لامعة، أشبه بشبح معدني في منتصف هذا الظلام.
في لحظة واحدة، هبط سايلوس على الأرض، فتح الباب الخلفي بيد واحدة، ووضعني في المقعد برفق، كما لو أنني كنتُ شيئًا هشًا.
ثم، دون أن يقول شيئًا، أغلق الباب، واستدار نحو الجنود الذين تمكنوا من الإفلات من هجوم الغربان، يركضون نحونا بسرعة.
لم يكن هناك وقت.
لكنه لم يكن بحاجة إلى الوقت.
لأنه كان سايلوس.
—
لم يتحرك سايلوس فورًا.
وقف أمام السيارة، ظهره لي، يواجه الجنود الذين كانوا يركضون نحونا، أسلحتهم موجهة، أصوات إنذاراتهم تصرخ في الظلام.
لكنه لم يكن مستعجلًا.
بل كان… ينتظر.
—
رأيتُ كيف تشنج أحد الجنود للحظة، كيف تباطأت خطواتهم، كيف تبادلوا النظرات فيما بينهم.
كانوا يعلمون.
حتى وهم يحملون الأسلحة، حتى وهم يفوقونه عددًا، كانوا يعرفون أنهم لم يكونوا في موقع قوة هنا.
لأنهم لم يكونوا يطاردون مجرد رجل.
بل كانوا يواجهون سايلوس.
—
"قف مكانك!" صرخ أحدهم، بندقيته مصوبة نحوه.
لم يرد.
لم يتحرك حتى.
لكن عندما تحدث، كان صوته هادئًا، هادئًا جدًا.
"أتعرفون ما الفرق بينكم وبيني؟"
لم يمنحهم فرصة للإجابة.
"أنا لا أحتاج إلى سلاح."
—
ثم، في جزء من الثانية، اختفى.
أو على الأقل، هكذا بدا الأمر.
في لحظة كان أمامهم، وفي اللحظة التالية…
كان بينهم.
—
لم أتمكن من رؤية كل شيء بوضوح، لكنه كان سريعًا جدًا.
أحد الجنود سقط على الأرض قبل أن يدرك حتى ما حدث، الآخر طار جسده إلى الخلف، ارتطم بالحائط بقوة جعلت الهواء يخرج من رئتيه بصوت مكتوم.
البقية لم يحصلوا على فرصة حتى للرد.
سايلوس كان يتحرك بينهم كما لو كان الظل نفسه.
لم يكن يقاتل فقط… بل كان يمحوهم.
—
بعد لحظات، لم يبقَ أحد واقفًا.
رأيتُ سايلوس يمرر يده على بدلته الممزقة أصلًا، ينفض الغبار عن كتفه كما لو أن كل هذا لم يكن أكثر من إزعاج بسيط.
ثم… استدار نحوي.
—
توقعتُ أن أرى ابتسامته المعتادة، ذلك التهكم الخفيف الذي لا يفارقه.
لكن عندما التقت أعيننا، لم يكن هناك أي أثر للمرح.
لم يكن هناك سوى تركيز كامل.
كأنه كان يرى شيئًا لا يمكنه المخاطرة بخسارته.
في لحظة، كان أمام باب السيارة، فتحه، جلس خلف المقود، وأدار المحرك بضغطة واحدة.
ثم انطلق.
—
المدينة مرّت بجانبنا كضوء مشوّه، الطرقات أصبحت خطوطًا ضبابية من السرعة، لكنني لم أكن خائفة.
لأنني كنتُ معه.
لأنني كنتُ… أعود إلى مكاني الحقيقي.
إلى القلعة.
إلى حيث ينتمي سايلوس وأنا.
—
كانت السيارة تنطلق بسرعة جنونية، تطفو بين المباني كظل متحرك، كأنها لم تكن تخضع لقوانين الجاذبية أو الفيزياء.
لكنني لم أكن مركزة على ذلك.
كنتُ أنظر عبر النافذة، أراقب الأضواء المشوهة، الطرقات التي كانت تمر بسرعة، المدينة التي أصبحت… غريبة عليّ.
وكأنني كنتُ أنظر إلى عالم لم يعد عالمي.
ثم، بصوت هادئ، كما لو كنتُ أخبره بحقيقة بسيطة، قلتُ:
"لقد استعدتُ ذاكرتي، سايلوس."
—
لم يتحرك.
لم يبطئ السيارة.
لكنه لم يتجاهل كلماتي أيضًا.
رأيته، من زاوية عيني، كيف اشتدت أصابعه حول المقود، كيف تغيرت طريقة جلوسه قليلاً، كأن جسده كله انتبه لما قلته.
مرّت بضع ثوانٍ من الصمت، قبل أن يقول بصوت منخفض لكنه محمّل بشيء ثقيل:
"كل شيء؟"
أدرتُ رأسي نحوه، نظرتُ إليه مباشرة، وقلتُ:
"كل شيء."
—
لم يكن هناك مفاجأة على وجهه.
لم يكن هناك ارتباك.
كان هناك فقط… استيعاب.
وكأنه كان يعرف أن هذه اللحظة ستأتي، لكنه لم يكن متأكدًا متى أو كيف.
ثم، أخيرًا، تحدث.
"إذن… تذكرين من كنتِ قبل....؟"
شعرتُ بقشعريرة خفيفة تمر في داخلي، ليس بسبب السؤال نفسه، بل بسبب الحقيقة التي كنتُ أدركها الآن.
"أنا لا أعتقد أن هناك ‘قبل’ و‘بعد’، سايلوس." قلتُ، بصوت هادئ لكنه ثابت. "أنا كنتُ دائمًا أنا. سواء كنتُ تلك الفتاة التي اتبعت أوامر والدها دون سؤال، أو الفتاة التي عاشت في عالم مزيف لخمس سنوات… أو الفتاة التي تجلس بجانبك الآن."
التفتَ إليّ أخيرًا، عيناه الحمراوان تراقبان وجهي، تدرسان كل تفصيلة، وكأنه كان يحاول أن يرى إذا كنتُ أختلف الآن عن الفتاة التي عرفها من قبل.
"لكن الآن، أنتِ تتذكرين كل شيء."
أومأتُ.
"تذكرين كل شيء عني؟"
توقفتُ للحظة، ثم نظرتُ إليه، وقلتُ ببطء:
"أنتَ آخر شخص قد أنساه، سايلوس."
—
مرّت لحظة طويلة من الصمت بيننا، لكن لم يكن صمتًا فارغًا.
كان مليئًا بكل شيء لم نقله، بكل شيء لم يكن يحتاج إلى أن يُقال.
ثم، أخيرًا، ابتسم سايلوس تلك الابتسامة الصغيرة التي لم يكن أحد يستطيع تفسيرها، وقال:
"حسنًا إذًا… لنرَ كيف ستتعاملين مع العالم الآن، بعد أن عادت إليكِ الحقيقة."
—
لم أكن متأكدة متى توقفنا.
لكنني كنتُ متأكدة من شيء واحد—أنني كنتُ بين ذراعيه.
رأسي مستند إلى صدره، أشعر بحركته مع كل نفس يأخذه، بنبضات قلبه التي كانت منتظمة رغم كل شيء مررنا به.
عندما فتحتُ عينيّ، وجدتُ أننا وصلنا.
القلعة.
—
بخطوات ثابتة، عبر سايلوس الممرات الطويلة، متجاهلًا نظرات الخدم والحراس، الذين وقفوا فور رؤيته.
لم يبالِ بأي شيء حوله.
كل ما فعله هو أنه استمر في المشي، يحملني وكأنني لم أكن ثقيلة، وكأنني كنتُ شيئًا مألوفًا بين يديه.
وكأنني… أنتمي هنا.
—
وصل إلى باب جناحي الخاص، دفعه بقدمه، ثم دخل مباشرة.
كانت الغرفة كما تركتها.
واسعة، مليئة باللونين الوردي والأبيض، مختلفة تمامًا عن بقية القلعة التي كان الأسود والأحمر يسيطران عليها.
لم تكن تبدو وكأنها جزء من هذا المكان، لكنها كانت كذلك.
كنتُ كذلك.
—
وضعني على السرير بلطف، جعلني أستلقي تحت الأغطية، ثم جلس بجانبي، مرفقه مستند على ركبته، وعيناه تراقبان وجهي.
رأيتُ كيف تفحصني للحظة، كيف كان يدرسني كما لو أنه كان يبحث عن شيء ما، عن أي أثر لما حدث لي.
ثم… ابتسم.
ابتسامة لم تكن ساخرة بالكامل، لكنها لم تكن جادة أيضًا.
"أعتقد أنني سأضطر لتغيير ديكور هذه الغرفة."
—
لم أرد، فقط نظرتُ إليه بصمت.
لكنه لم يكن ينتظر ردّي أصلًا.
أشار بيده إلى الجدران، إلى الأثاث، وقال بصوت مبالغ فيه:
"أقصد… الأبيض والوردي؟ فعلًا؟ أعلم أنكِ كنتِ تحبين هذا، لكن تونه، أنتِ الآن شيء آخر. أعتقد أننا بحاجة إلى إضافة بعض… الماء هنا وهناك، بما أنكِ أصبحتِ حورية البحر الخاصة بنا."
ابتسمت على تعليقه مجاملةً
.
لو كنتُ ما زلتُ أشعر، كنتُ سأضحك.
لكنني لم أكن كذلك.
رغم ذلك، كان جزء مني يعرف أنه كان يحاول.
يحاول أن يجعل الأمر يبدو أقل سوءًا، أن يبقي على شيء طبيعي وسط كل شيء غير طبيعي يحدث لي.
لهذا، حتى لو لم أكن أشعر…
فقد كنتُ أقدر ذلك.
—
"لا تقلق." قال فجأة، وكأنه قرأ أفكاري. "سأجد طريقة لإعادتكِ كما كنتِ."
نظرتُ إليه للحظة، ثم همستُ، بصوت بالكاد سمعته بنفسي:
"ولكن… ماذا لو لم يكن هناك طريقة؟"
رأيتُ كيف توقفت ابتسامته، كيف تجمد للحظة، ثم استعاد ملامحه المعتادة بسرعة.
لم يجب على سؤالي.
لكنه لم يكن بحاجة إلى ذلك.
لأنني رأيتُ الإجابة في عينيه.
—
ظلّ سايلوس صامتًا للحظة، عينيه تحدقان في وجهي، كما لو أنه كان يحاول البحث عن شيء لم يكن متأكدًا من وجوده.
ثم، فجأة، تنهد، وانحنى قليلًا للأمام، مسندًا مرفقيه على ركبتيه.
"أتعلمين، تونه؟" قال بصوته المعتاد، ذلك المزيج من السخرية واللامبالاة المصطنعة. "لقد مررنا بالكثير، لكن هذه أول مرة أشعر فيها أنكِ أكثر غرابة من المعتاد."
رفعتُ حاجبي قليلًا. "أكثر غرابة؟"
أومأ، وعيناه تلمعان بذلك الضوء الذي لا أستطيع تفسيره. "نعم. في العادة، عندما أقول شيئًا سخيفًا عن ديكور غرفتك، كنتِ إما تهاجمينني بالكلمات، أو تنظرين إليّ وكأنكِ تريدين خنقي."
ابتسم نصف ابتسامة، لكنه لم تكن سعيدة حقًا. "أما الآن؟ أنتِ فقط… تبتسمين، دون رد فعل."
—
لم أعرف ماذا أقول.
لأن ما قاله كان صحيحًا.
أنا لم أعد أنا.
لكنني لم أكن شيئًا آخر أيضًا.
—
لمحتُ كيف أمال رأسه قليلًا، كما لو أنه كان يدرس تعابيري. ثم، بهدوء، قال:
"أكره هذا."
لم أكن بحاجة للسؤال ماذا يكره.
كنتُ أعرف.
لكنه لم يمنحني فرصة للتفكير أكثر، لأنه فجأة، رفع يده ولعب بخصلات شعري المبللة، صوته هادئ لكنه ثابت:
"لا يهم ما حدث، لا يهم كيف أصبحتِ الآن، هناك شيء واحد عليكِ تذكره دائمًا، تونه."
نظر إليّ مباشرة، وكلماته التالية خرجت ببطء، وكأنها وعد محفور في الزمن:
"أنا لن أترككِ وحدكِ. سواء كنتِ تكرهينني أم لا، سواء شعرتِ بذلك أم لا، لن أختفي."
—
مرّت لحظة طويلة من الصمت بيننا.
لكن رغم البرود الذي كان يسكنني…
شعرتُ بشيء ما.
ليس شعورًا كاملًا، ليس دفئًا حقيقيًا…
بل مجرد… ظلٌ من إحساس قديم.
كأنني كنتُ على وشك أن أشعر.
—
لكني لم أكن جاهزة لذلك بعد.
لذا، أغمضتُ عينيّ ببطء، واستسلمتُ للهدوء.
لكن حتى في ذلك الصمت، كنتُ أعرف أنني لستُ وحدي.
لأنني شعرتُ بوجوده بجانبي.
كما وعد.
—
ساد الصمت في الغرفة.
كان سايلوس لا يزال جالسًا بجانبي، ذراعيه متشابكتان، وملامحه تحمل تلك اللامبالاة المزيفة التي كان يجيد إظهارها.
لكنني كنتُ أعرف.
كنتُ دائمًا أعرف.
ورغم الفراغ الذي كنتُ أشعر به، لم يكن بإمكاني تجاهل سؤال واحد بدأ يتشكل في عقلي.
لذلك، بعد لحظة من الهدوء، قلتُ فجأة:
"ما الذي سيحدث من الآن فصاعدًا؟"
رأيتُ كيف رفع حاجبًا، كيف أدار رأسه نحوي ببطء، كأنه كان ينتظر هذا السؤال.
لكنني لم أكن أنظر إليه.
كنتُ أحدق في سقف غرفتي، عينيّ ثابتتان، أفكاري تحاول أن تستوعب ما حدث.
"كايلب…" تمتمتُ، وكأنني كنتُ أحاول تذوق اسمه بعد استعادة ذاكرتي. "سيطرة رافاييل عليّ… وأيضًا، تدميرك للمبنى الرئيسي لمنظمة الأمن الفضائي؟"
التفتُّ إليه أخيرًا، لأجده ينظر إليّ بطريقة لا أستطيع تفسيرها.
ثم، بعد لحظة من الترقب، قال ببساطة:
"أوه، نعم، هذا. حسنًا، ربما… خطأ تكتيكي بسيط؟"
—
حدّقتُ به للحظة طويلة.
ثم قلتُ ببطء، وكأنني كنتُ أختبر الكلمات:
"خطأ تكتيكي بسيط؟ لقد دمّرتَ مقر المنظمة بالكامل."
أمال رأسه قليلًا، كأنه كان يفكر. "حسنًا، ليس بالكامل. بعض الأجزاء لا تزال قائمة… نوعًا ما."
زفرتُ ببطء، ضغطتُ أصابعي على جبهتي. "سايلوس…"
"تونه." قاطعني، نبرته مليئة بالبراءة المصطنعة.
نظرتُ إليه، وعندما رأى تعابيري، ضحك بهدوء، ثم مال نحوي قليلًا، كأنه كان يريد أن يخفف عني بطريقة ما.
"استمعي إليّ، كان الوضع فوضويًا، كنتِ تحت سيطرة رافاييل، كايلب كان يصرخ كعادته، ووالدكِ كان يراقب الأمر كما لو أنه يشاهد تجربة علمية ممتعة." أشار بيده بلا مبالاة. "لذلك، فعلتُ ما أفعله دائمًا—حسمتُ الأمور بطريقتي الخاصة."
"بطريقتك الخاصة؟" كررتُ، وكأنني لم أصدق ما كنتُ أسمعه.
"نعم، طريقتي الخاصة." قال بثقة، ثم ابتسم تلك الابتسامة التي كانت دائمًا تحمل مزيجًا من الغموض والتسلية. "وأنتِ لا تستطيعين إنكار أن الأمر كان فعالًا جدًا."
—
رغم كل شيء، رغم أنني لم أعد أستطيع الشعور كما كنتُ في السابق…
شعرتُ أنني أريد أن ألكمه.
—
"حسنًا، ماذا عن كايلب؟" قلتُ، محاوِلةً تغيير الموضوع.
"ماذا عنه؟"
"لقد كان غاضبًا بالفعل عندما تركته في المطعم، والآن، بعد كل هذا؟ لا أعتقد أنه سيكون سعيدًا جدًا."
"أوه، لا تقلقي بشأنه." لوّح بيده بلا اهتمام. "كايلب سيغضب، سيصرخ، وربما سيرسل لي بعض التهديدات الرسمية عبر المنظمة، ثم سينتهي به الأمر يعود إلينا كما يفعل دائمًا."
"وكيف يمكنك أن تكون واثقًا من ذلك؟"
"لأن كايلب، رغم كل شيء، لا يزال يرى نفسه مسؤولًا عنكِ بطريقة أو بأخرى." نظر إليّ نظرة جانبية. "كما أنني متأكد أنه لن يسمح لنفسه بخسارتكِ مجددًا، خاصة الآن بعد أن عدتِ."
لم أعلّق على كلماته، لكنني كنتُ أعرف أنه كان محقًا.
—
"وماذا عن رافاييل؟"
تغيرت أجواء الغرفة قليلًا عند ذكري اسمه.
رأيتُ كيف اشتدت ملامح سايلوس لجزء من الثانية، كيف تقلصت عيناه الحمراوان قليلًا قبل أن يعود إلى تعابيره اللامبالية.
"أوه، رافاييل العزيز." تمتم، وكأنه كان يتذوق الاسم بازدراء.
ثم ابتسم، لكنه لم تكن ابتسامته الساخرة المعتادة.
بل كانت… باردة.
"سأتعامل معه."
—
حدّقتُ به للحظة، ثم قلتُ ببطء:
"سايلوس…"
رفع حاجبه. "نعم، أميرتي؟"
"لا تفعل شيئًا متهورًا."
صمت للحظة، ثم أمال رأسه قليلًا، وكأنه كان يزن كلماتي.
ثم، فجأة، ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنه لم يقل شيئًا.
—
شعرتُ أنني يجب أن أكون قلقة.
لكنني لم أكن قادرة على الشعور بأي شيء.
ورغم ذلك، رغم الفراغ الذي كان يسكنني، كنتُ أعرف أمرًا واحدًا.
سايلوس لم يكن يخطط لترك رافاييل وشأنه.
—
دقّ الباب.
لم أتحرك، ولم يفعل سايلوس.
لكن بعد لحظة، جاء صوت الخادم من الخارج، مهذبًا كالمعتاد: "سيدي، لقد أحضرتُ الطعام… وبعض الماء."
نهض سايلوس من مكانه دون استعجال، فتح الباب، ثم أخذ منه الصينية الثقيلة بيد واحدة، كما لو أنها لم تكن تزن شيئًا.
قبل أن يغلق الباب، أضاف الخادم بصوت حذر: "كما طلبتَ، أتيتُ ببعض الملابس أيضًا."
—
عندما عاد سايلوس إلى الغرفة، وضع الصينية أمامي، ثم رمى قطعة قماش سوداء على السرير بجانبي.
"مفاجأة، أميرتي." قال بابتسامته المعتادة.
نظرتُ إلى القماش، ثم إليه. "ما هذا؟"
"ملابس." قال ببساطة، ثم جلس بجانبي مجددًا، وكأنه كان يتوقع ردة فعلي مسبقًا.
رفعتُ القطعة لأفردها، واكتشفتُ أنها إحدى قمصانه السوداء الفضفاضة.
نظرتُ إليه ببطء، بينما هو اتكأ على كوعه، وكأنه كان يستمتع بالمشهد.
"ملابسي؟" سألته.
"رميتها." قال بنفس نبرة (لم يكن لدي خيار آخر، يا تونه).
ضيّقتُ عينيّ. "رميتها؟"
"بالطبع. كانت متسخة." ثم ابتسم، وكأن الفكرة أمتعتْه فجأة. "تخيلتُ فقط كم من البكتيريا كانت تعيش فيها."
تنفستُ ببطء، محاوِلةً ألا ألقي الوسادة عليه. "سايلوس، لقد مرت خمس سنوات على آخر مرة ارتديتُها."
"بالضبط!" رفع يده وكأنه يشرح حقيقة علمية بديهية. "لهذا السبب، نحن بحاجة إلى ملابس جديدة لكِ."
"أوه، وبدلًا من ذلك، عليّ أن أرتدي قمصانك؟"
"هل هذا اعتراض؟" أمال رأسه قليلًا، عينيه تحملان بريق تحدٍ.
نظرتُ إلى القميص مجددًا، ثم هززتُ رأسي. "لا."
لأنني لم أكن أهتم حقًا.
—
راقبني سايلوس للحظة، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة، وكأنه كان يلاحظ شيئًا لا أراه.
ثم، فجأة، قال بصوت هادئ لكنه حازم: "سنتسوق غدًا."
"تسوق؟"
"ملابس جديدة، كل احتياجاتكِ… وربما بعض المجوهرات؟" أضاف الأخيرة بنبرة مزاح، لكنني لم أفوّت الطريقة التي درس بها ملامحي بعد قوله ذلك.
أومأتُ ببساطة. "حسنًا."
رأيتُ كيف رفع حاجبًا، كأنه لم يكن يتوقع أن أوافق بهذه السهولة.
لكن لماذا لا؟
لم أعد أشعر بشيء، لم يعد لدي شيء لأرفض أو أوافق عليه بعاطفة.
كان الأمر مجرد حقيقة بسيطة.
—
"حسنًا إذًا، بما أنكِ لا تعارضين أي شيء، لنبدأ بالخطوة الأولى." قال، ثم سحب الصينية نحونا.
نظرتُ إلى الطعام أمامي.
لم أكن جائعة، لم أشعر بالحاجة إلى الأكل، لكنني كنتُ أعرف أن جسدي يحتاجه.
لكن قبل أن أفكر حتى في التحرك، رفع سايلوس شوكة، والتقط بها قطعة من اللحم، ثم مدّها نحوي.
نظرتُ إليه ببطء.
"أنتَ تمازحني، صحيح؟"
"أبدًا." ابتسم بخفة، وعينيه تلتمعان بذلك البريق الخبيث. "هل تفضلين أن أطعمكِ بالملعقة؟"
—
كنتُ سأرد بشيء ساخر، لكنني توقفت.
لأنني أدركتُ أنني كنتُ على وشك الرد.
وكأنني بدأتُ أعود… ولو قليلًا.
أخذتُ نفسًا بطيئًا، ثم، دون تعليق، فتحتُ فمي قليلًا، وتركتُه يضع اللقمة فيه.
—
تغيرت تعابيره للحظة، كأنه لم يكن يتوقع أن أستجيب بهذه السرعة.
لكنه سرعان ما استعاد ابتسامته المعتادة، ثم قال بنبرة مسرحية:
"هذا تقدم عظيم! في المرة القادمة، ربما ستدعينني أطعمكِ الحلوى أيضًا!"
ابتلعتُ الطعام ببطء، ثم نظرتُ إليه، وقلتُ بلا مبالاة:
"طالما أنكَ ستطعمها بنفسك، لا بأس."
—
رأيتُ كيف جمد للحظة.
كيف اتسعت عيناه قليلًا، كيف بدا وكأنه لم يكن متأكدًا إن كان ما قلته مزاحًا أم لا.
ثم، ببطء، ابتسم ابتسامة بطيئة جدًا، ابتسامة مختلفة عن ابتساماته المعتادة.
"أوه، هل هذا تحدٍ، أميرتي؟"
—
لم أرد، فقط أخذتُ الشوكة من يده، والتقطتُ قطعة طعام أخرى، ثم وضعتها في فمي، دون أن أشيح نظري عنه.
رأيتُ كيف راقبني، كيف درس كل حركة فعلتها، ثم كيف استرخى مجددًا، وعاد إلى سخريته المعتادة.
"أوه، أعتقد أنني سأحب هذا الإصدار الجديد من تونه."
أخذ قطعة خبز، قضمها بلا مبالاة، ثم أضاف:
"إنه أكثر جرأة… وأكثر خطورة."
—
أنهينا الطعام ببطء، لم يكن هناك استعجال.
سايلوس ظلّ يراقبني طوال الوقت، يتأكد من أنني أكلتُ ما يكفي، لكن دون أن يظهر الأمر وكأنه اهتمام واضح.
لم يكن هذا أسلوبه.
بدلًا من ذلك، كان يمزح، يعلق بسخريته المعتادة، يختبرني بردود أفعاله، كأنه كان يحاول جرّي للخروج من قوقعة الفراغ التي كنتُ محبوسة فيها.
وأنا؟
كنتُ أسمح له بذلك.
لأنه، رغم كل شيء… كان ذلك أفضل من الصمت.
—
"إذن، هل أنتِ مستعدة للعودة إلى العالم الحقيقي غدًا؟"
نظرتُ إليه للحظة، ثم أومأتُ. "التسوق ليس العالم الحقيقي."
ابتسم، ألقى بشوكة الطعام جانبًا، ثم ارتكز على مرفقه وهو ينظر إليّ. "أوه، لكنه كذلك، أميرتي. المتاجر، الحشود، محلات المجوهرات الفاخرة التي سأجركِ إليها فقط لأرى تعبير وجهكِ عندما تحاولين رفض شيء غالٍ جدًا…"
رفع حاجبًا بمكر. "كل ذلك جزء من الحياة."
"وماذا لو لم أرفض أي شيء؟" قلتُ بلا مبالاة، مائلةً رأسي قليلًا.
توقف للحظة، ثم ضحك. "في هذه الحالة، سأكون أنا من وقع في الفخ، أليس كذلك؟"
—
لم أجب.
لكني كنتُ أعرف أنني منحته ابتسامة صغيرة جدًا.
كانت خفيفة، بالكاد مرئية، لكنها كانت هناك.
ورأيته يلاحظها.
رأيته يركز عليها.
لكن بدلًا من أن يعلق عليها، وكأنه لا يريد أن يُفسد اللحظة، فقط نهض من مكانه، بدأ بجمع الصحون، ثم قال ببرود مصطنع:
"حسنًا، ربما عليّ القلق الآن. ما الذي سأفعله إن أصبحتِ شخصًا مدللًا؟"
رميته بنظرة جانبية. "أعتقد أنني كنتُ كذلك منذ البداية."
نظر إليّ، ثم ابتسم ببطء، وكأنه تذكر شيئًا ما.
"أوه، صحيح. أنتِ ابنة والدكِ بعد كل شيء."
—
عند كلماته، شعرتُ بذلك الفراغ يعود.
ذكرى والدي، الطريقة التي نظر بها إليّ كأنني مجرد مشروع ناجح، الخطط التي كان يحيكها لي…
لم أستطع التفكير في ذلك الآن.
أبعدتُ نظري عنه، لكن سايلوس لاحظ.
ولأول مرة منذ بدأنا هذا المزاح، أصبح صوته أكثر هدوءًا.
"تونه."
لم أجب.
"أعلم أنكِ تذكرين كل شيء الآن." قال بصوت أكثر جدية. "لكن لا تدعيه يسيطر عليكِ مجددًا."
أغلقتُ عينيّ للحظة.
ثم، عندما فتحتهما مجددًا، قلتُ بهدوء:
"أنا لا أنوي ذلك."
—
حدق بي للحظة طويلة، وكأنه كان يختبر مدى صدقي.
ثم، فجأة، عاد إلى ابتسامته المعتادة.
"جيد. لأنني لن أسمح بذلك أيضًا."
—
بقيتُ صامتة، لكنني لم أكن متوترة بعد الآن.
لأنني كنتُ أعرف شيئًا واحدًا…
طالما أن سايلوس بجانبي، لن أكون مجبرة على مواجهة هذا وحدي.
—
"لقد كنتُ مدللة حقًا."
كان صوتي هادئًا، كأنني لم أكن أتحدث عن شيء مهم. لكنني كنتُ أعرف أن كلماتي تحمل وزنًا لا يمكن إنكاره.
سايلوس، الذي كان يجمع الصحون دون استعجال، لم يلتفت إليّ على الفور. لكنه استمع.
"على الأقل، قبل أن أفقد والدتي وأخي."
—
ظلّ صامتًا، ولم يقاطعني.
كان يمكنه أن يقول الكثير. أن يخبرني أنه يعلم بالفعل، أن هذه القصة ليست جديدة عليه، أنه شهد كيف تحولتُ من فتاة مدللة إلى شخص آخر بالكامل.
لكن… لم يفعل.
لأنه يعرفني جيدًا.
يعرف أنني لم أقل ذلك لأني أريد تعليقًا، بل لأنني فقط… أردت أن أقولها.
—
بعد أن أعطى الصحون للخادم، عاد إلى الغرفة، ألقى نظرة خاطفة عليّ، ثم أطلق زفرة طويلة وهو يفك أزرار قميصه العلوي ببطء.
"حسنًا، أميرتي، لقد حان وقت النوم."
ثم، دون سابق إنذار، تمدد بجانبي.
—
لم يكن هناك تردد، لم يكن هناك تحذير.
في لحظة واحدة، سحبني إليه، جعلني أستلقي بين ذراعيه وكأن الأمر كان طبيعيًا تمامًا.
وكأنه لم يكن هناك أي احتمال لرفضي.
وكأنه كان يعلم… أنني لن أرفض.
—
"هيا، نامي." تمتم، وهو يسحب الغطاء فوقنا. "لم أنم منذ يومين بسبب كل ما حدث."
لم أقل شيئًا، لكنني سمحتُ لنفسي بالغرق أكثر في حضنه، رأسي مستند إلى صدره، أشعر بنبضات قلبه المنتظمة، بالدفء الذي كان يحيطني بالكامل.
لم أشعر بشيء طوال اليوم، لم أستطع أن أشعر.
لكن الآن، هنا، بين يديه…
شعرتُ بشيء يشبه الطمأنينة.
—
لم أكن أعرف متى أغمضتُ عينيّ، ولا متى استسلمتُ للنوم.
لكنني كنتُ أعرف شيئًا واحدًا عندما غبتُ عن الواقع.
لم يكن المكان الذي أنام فيه هو المهم… بل مع من أنام.
—