كانت الممرات الخلفية للمدرسة غارقة في عتمة خانقة، لا يكسرها سوى بصيص الضوء الخافت المنبعث من مصابيح الطوارئ المهتزة. وسط هذا المشهد الموحش، كان بابادوك يتحرك كظلٍّ كاشف، يبذل قصارى جهده لتأمين الطلاب المذعورين ودفعهم نحو الملاجئ الآمنة داخل الفصول المحصنة.
كان وجود بابادوك ثقيلاً، تنبعث منه هالة من الغموض التي جعلت الطلاب يرتجفون منه ومن الوحوش التي تطاردهم على حد سواء، لكن فعله كان إنقاذاً صرفاً وسط هذه الفوضى العارمة. وفجأة، تجمد الهواء في الرواق، وانبعثت رائحة غبار قديم وتوابل جنائزية لم تُشم منذ آلاف السنين، لتنشق الأرضية الرخامية عن بروزٍ صخري مغطى باللفائف الكتانية المهترئة.
من قلب هذا الغبار، انبثق "مومياء الأمير خور رو"، بملامحه المحنطة والمخيفة وتاجِه الذهبي الذي علا جمجمته الجافة. صرخ الأمير المحنط صرخةً مكتومة بدت وكأنها زفيرٌ من أعماق القبور، واندفع بنحافة جسده المقيدة نحو بابادوك، محاولاً غرس مخالبه في صدره. لم يبدُ على بابادوك أي ارتباك؛ فبرغم هيبة الأمير خور رو التاريخية، إلا أن قوة بابادوك الأصلية كانت تفوقه بمراحل. بضربة واحدة من يده الطويلة المسودة، أطاح بابادوك بالأمير أرضاً، ثم بلمسة خاطفة مزقت السحر الذي يمسك بتلك اللفائف، تفتت الأمير خور رو إلى كومة من التراب وبقايا الكتان، وكأنه لم يكن سوى وهمٍ عابر في ليلة مليئة بالكوابيس.
ساد صمتٌ قصير ظن فيه الطلاب أن الخطر قد زال، لكن بابادوك لم يخفض حذره، بل تراجع خطوة إلى الوراء وعيناه الغائرتان تراقبان الدخان الكثيف الذي بدأ يتشكل فوق بقايا الأمير. ومن وسط هذا الدخان، تجسدت امرأة ذات ملامح فرعونية حادة، ترتدي رداءً كهنوتياً مرصعاً باللازورد والذهب، وتحمل في يدها عصاً من الأبانوس ينبعث منها ضياءٌ بنفسجي باهت. كانت هذه "نيلا رحمد"، الكاهنة المصرية القديمة والشقيقة الصغرى للأمير خور رو، والتي استدعتها كلمات فيرتشايلد من أعماق رواية "عودة المومياء".
نظرت نيلا إلى رماد أخيها، ثم رفعت بصرها نحو بابادوك وقالت بنبرةٍ تملؤها السيادة والوعيد: "أيها الكيان المظلم، كيف تجرؤ على تدنيس دم الملكية وتشتيت روح الأمير في هذا المكان القفر؟ أنا نيلا رحمد، حارسة الأسرار وكاهنة المعابد، جئتُ لأنتزع روحك وأجعلها عبرةً لكل من يتعدى على قدسية أساطيري". لم ينتظر بابادوك ردها، بل حاول الالتفاف حولها ليحمي الطلاب، لكن نيلا كانت أسرع مما تبدو؛ لوحت بعصاها لتطلق موجة من الرمال السحرية التي أحاطت ببابادوك كالأغلال، وبدأت تنشد تعاويذ قديمة بلغة ميتة جعلت الجدران تئن وتتصدع.
بدأ بابادوك يعاني للمرة الأولى في هذه الليلة؛ فالسحر الكهنوتي الذي تستخدمه نيلا لم يكن موجهاً لجسده، بل لجوهر طاقته. كانت الرمال تخترق مسامه، والتعاويذ تضغط على وعيه، مما جعله يطلق أنيناً غريباً يشبه صرير الأبواب القديمة. استغلت نيلا تراجعه ووجهت له ضربةً من عصاها أطاحت به نحو الجدار، وهي تصرخ: "انحنِ أمام قوة الكهانة! أنت مجرد وحشٍ يسكن الظلال، وأنا النور الذي يحرق الأسرار!". تلاحق التنفس المكتوم لبابادوك، وبدأ جسده يرتجف تحت وطأة السحر الفرعوني المكثف، وبدا للحظة أن الكاهنة ستتمكن من القضاء عليه تماماً وإعادته إلى صفحات النسيان.
لكن غريزة البقاء لدى بابادوك، وقوته التي صُقلت من خوف البشر عبر العصور، بدأت تستجمع شتاتها. دفع بابادوك الأرض بقدميه، وتحول إلى سحابة من الدخان الأسود الكثيف، متجاوزاً موجات الرمال. التف حول نيلا بسرعة هائلة، وبينما كانت هي تحاول رصده بعصاها، ظهر خلفها مباشرةً وقبض على ذراعها بيدٍ كأنها من حديد بارد. صرخت نيلا من الألم،
وحاولت إطلاق تعويذة أخيرة، لكن بابادوك كان قد قرر إنهاء هذه المواجهة. ضغط بقوته المظلمة على جوهرها السحري، ليحدث انفجارٌ صامت في الردهة، بدأت بعده ملامح نيلا رحمد تتلاشى وتتحول إلى قصاصات من الورق الممزق المتطاير. نظرت إليه نيلا بنظرة أخيرة يملؤها الذهول والاعتراف بالهزيمة، قبل أن تختفي تماماً وتترك خلفها صمتاً ثقيلاً ورائحة بخورٍ تلاشت مع الريح. وقف بابادوك وسط الرواق، وجسده لا يزال ينبعث منه دخانٌ خفيف من أثر السحر الكهنوتي، لكنه استدار فوراً نحو الطلاب الذين جمدتهم الصدمة، مشيراً إليهم بمتابعة التحرك، بينما كان يدرك في أعماقه أن وحوش فيرتشايلد تزداد ضراوة وقوة مع اقتراب الرواية من فصولها الأخيرة.
لم يكد بابادوك يستعيد توازنه من أثر السحر الكهنوتي الذي خلفته "نيلا رحمد"، حتى تبدل جوّ الرواقِ بشكلٍ مريب؛ فبدلاً من رائحة البخور الفرعوني، انتشرت فجأة رائحةٌ نفاذة تشبه رائحة الفشار المحترق والمطاط المتعفن. ومن أقاصي الممر المظلم، انبعثت ضحكةٌ حادة، هستيرية، تقطع سكون الليل كخنجرٍ يمزق الحرير. كانت ضحكةً لا تحمل ذرةً من المرح، بل كانت محملةً بصدى صرخاتٍ قديمة سُجنت في خيام السيرك المهجورة.
من بين الظلال، وبخطواتٍ واسعة ومضطربة، برز "ميردر ذا كلاون". كان منظره في ردهات المدرسة الثانوية تجسيداً للكابوس البصري؛ شعره المستعار الأحمر القاني كان يتطاير كألسنة اللهب الملوثة، ووجهه المطلي بطلاءٍ أبيض سميك تشقق من كثرة الضحك الزائف، مما جعل ملامحه تبدو كقناعٍ من الجبس الميت. أنفه الأحمر المستدير كان يلمع تحت ضوء الطوارئ، بينما كانت ملابسه الملونة الفضفاضة تخفي تحت طياتها جسداً بشرياً مرعباً في ضخامته وقوته.
لم يمنح المهرج خصمه فرصةً للتدبر، بل اندفع نحو بابادوك وهو يخرج من خلف ظهره مطرقةً ضخمة مزينة برسوماتٍ طفولية ملطخة بقعٍ داكنة. صرخ المهرج بصوتٍ أجش يرتجف بالجنون:
"أوه! انظروا من هنا! ظلٌ أسود يريد اللعب؟ السيرك وصل يا صديقي، والعرض الأول يبدأ بموتك!". أرجح المهرج مطرقته بقوةٍ هائلة، محطماً المقاعد الخشبية القريبة وهو يطارد بابادوك الذي كان يتفادى الضربات بخفةٍ تفوق الطبيعة.
كان "ميردر" يمثل نوعاً مختلفاً من الخطر؛ فهو ليس سحراً قديماً كالمومياء، بل هو تجسيدٌ للجنون البشري الصرف الذي أخرجه قلم فيرتشايلد من كتاب "اقتل المهرج". كانت حركاته غير متوقعة، يقفز تارةً ببهلوانية مرعبة، ويهجم تارةً أخرى بوحشيةٍ حيوانية. حاول بابادوك تقييده بظلاله، لكن المهرج كان يمزق تلك الظلال بيده العارية وهو يقهقه بصخب، وكأن الألم يزيد من استمتاعه بالعرض.
احتدت المواجهة عندما حاصر المهرج بابادوك في زاويةٍ ضيقة، ورفع مطرقته عالياً وهو يبرز أسنانًا صفراء خلف طلائه الأبيض، صائحاً: "النهاية! انحناءة الوداع!". هوت المطرقة بكل ثقلها، لكن بابادوك، في تلك اللحظة الحاسمة، كشف عن وجهه المرعب الحقيقي خلف القبعة، وأطلق صرخةً ذات ترددٍ فوق سمعي شلّت حركة المهرج للحظة. استغل بابادوك هذه الثانية من الذهول، وبحركةٍ صاعقة، غرس مخالبه الطويلة في كتف المهرج الضخم، ثم رفعه عن الأرض بقوةٍ لا تُصدق رغم نحالة جسده الأسود.
توقفت ضحكات "ميردر" وحلّ مكانها ذعرٌ حقيقي وهو يرى بريق الموت في عيني بابادوك. لم يمهله الظل طويلاً؛ فقد أحاطت أطراف بابادوك المتعددة بجسد المهرج الملون، وبدأ يضغط عليه بقوةٍ هائلة جعلت عظام المهرج تئن تحت الثياب الفضفاضة. وبحركةٍ أخيرة عنيفة، ألقى بابادوك بالمهرج نحو النافذة الزجاجية الكبيرة في نهاية الرواق، ليتحطم الزجاج ويتناثر جسد المهرج في الهواء قبل أن يتحول، تماماً كمن سبقه، إلى رذاذٍ من الحبر الأسود وقصاصاتٍ ورقية ملونة تلاشت في ظلام الليل الخارجي.
وقف بابادوك وحيداً مرةً أخرى، يلهث بصمتٍ وسط حطام الزجاج الملون، مدركاً أن فيرتشايلد قد بدأ يخرج "أبطال كوابيسه" الأكثر دموية، وأن الوقت المتبقي قبل اكتمال الرواية أصبح يُقاس بالثواني لا بالدقائق.
في بقعةٍ قصيةٍ من تلك الغابةِ الكثيفة التي طوقت المدرسة كشرنقةٍ من اليأس، حيثُ تتشابكُ جذورُ الأشجارِ الضخمةِ كأطرافِ وحوشٍ غارقة في السبات، كان ماركو يسيرُ بخطىً حثيثة، متجاهلاً أصواتَ الغابةِ الغريبة التي تزحفُ خلفه. وبجانبه، كان "قط الكذب" يتهادى بجسده الضخم وفروه الذي يعكسُ أضواءً غير مرئية، يشمُّ الهواءَ بحذرٍ بينما تلمعُ عيناه ببريقٍ أرجواني. كان ماركو يشعرُ بشيءٍ ينبضُ في عمقِ صدره؛ ذلكَ الترددُ الكهرومغناطيسي المألوف الذي لا يخطئه، إحساسٌ يتزايدُ كلما توغلَ في الأحراش،
يخبره بأنَّ سفينتهُ الفضائية ليست بعيدة، وأنَّ تكنولوجيا عالمه الغريب تقبعُ في مكانٍ ما خلف هذا الضبابِ الكثيف.
فجأة، سكنتِ الغابةُ سكوناً مريباً، وتوقفت أسرابُ الحشراتِ عن لغطها المعتاد. انبثقت من خلفِ شجرةِ بلوطٍ عتيقة قامةٌ قصيرة ومحدودبة، يفوحُ منها عبيرُ الأعشابِ السامةِ والرماد. كان ذلك "الموغلاني"، الساحرُ الغامض الذي أخرجهُ فيرتشايلد من صفحاتِ كتاب "أعطِ نفسك قشعريرة". لم تكن هيئتهُ بشريةً تماماً؛ فقد كان يرتدي رداءً من جلودِ الحيواناتِ البرية، وعلى وجهه أقنعةٌ من الطينِ الجاف، لكنَّ أكثرَ ما يثيرُ الرعبَ في هيئتهِ كانت عصاهُ الخشبية الملتوية؛ فقد عُلّق في طرفها "زوجٌ من الرؤوسِ المتقلصة" ذات الملامحِ المشوهة والعيونِ المخيطة، وهي رؤوسٌ بدا وكأنها تهمسُ بلعناتٍ خفية، مستحضرةً رعبَ كتاب "كيف حصلتُ على رأسي المتقلص".
رفعَ الموغلاني عصاهُ في الهواء، فانبعثَ من الرؤوسِ المتقلصةِ صراخٌ حادٌّ مزقَ سكونَ الغابة، وقالَ بصوتٍ يشبهُ حفيفَ الأوراقِ اليابسة: "أيها الغريبُ الآتي من النجوم.. هذهِ الأرضُ قد كُتبت لِتكونَ مقبرةً للفضوليين. سحري قديمٌ قِدَمَ الكلمات، وعصايَ متعطشةٌ لتضيفَ رأساً جديداً إلى مجموعتها!". وبحركةٍ سريعة، ضربَ الموغلاني الأرضَ بعصاه، لِتنبعثَ من تحتِ أقدامِ ماركو جذورٌ مسودةٌ شائكة حاولت تقييده.
لم يتردد ماركو لحظةً واحدة؛ فقد سحبَ من حزامه "المسدس الفضائي" ذا التصميمِ الانسيابي المتطور، والذي بدأ يشحنُ طاقةً زرقاءَ متوهجة. أطلقَ ماركو دفقةً من الليزرِ المكثف قطعت الجذورَ الزاحفة كأنها خيوطُ عنكبوت، ثمَّ قفزَ ببراعةٍ نحو الخلفِ وهو يطلقُ وابلاً من النبضاتِ الطاقية نحو الساحر. كان الموغلاني يحركُ عصاهُ ببراعة، مشكلاً درعاً من الدخانِ الأخضر الذي كان يمتصُّ طلقاتِ الليزر، بينما كان "هومه" (الهجوم الخاص بماركو) يتشكلُ في يدهِ الأخرى؛ كرةٌ من الجاذبيةِ المكثفة التي بدأت بجذبِ أوراقِ الشجرِ والصخورِ الصغيرةِ حولها.
احتدمَ القتالُ في تلكَ البقعةِ المظلمة؛ الساحرُ يلقي بتمائمِ الموتِ واللعناتِ التي تتجسدُ كأطيافٍ باهتة، وماركو يردُّ بتكنولوجيا متطورةٍ تتحدى قوانينَ هذا العالمِ السحري. كان قط الكذب يراقبُ الموقف، مستعداً للتدخلِ بمخالبهِ الفتاكة إذا ما اقتربَ الموغلاني أكثر من اللازم. كانت الغابةُ تهتزُّ تحتَ وطأةِ هذا الصدامِ بينَ "سحرِ الكلماتِ القديم" و"تكنولوجيا الخيالِ العلمي"، وماركو يدركُ أنَّ كلَّ ثانيةٍ تضيعُ في هذا القتال، هي ثانيةٌ يبتعدُ فيها عن سفينته، وعن كشفِ الغموضِ الذي يلفُّ وجوده في هذا العالمِ المكتوب.
بينما كان ماركو غارقاً في رقصة الموت مع الساحر الموغلاني، يتبادل معه نبضات الليزر بتمائم السحر الأخضر، انبعث صوت "أزيز" غريب من فوق هامات الأشجار الكثيفة؛ لم يكن صوتاً طبيعياً، بل كان صوت مقذوفٍ مدبب اخترق الهواء ليصيب كتف ماركو المعدنية ويحدث فيها شرارةً خاطفة. رفع ماركو بصره بلمحةٍ سريعة وهو يتفادى ضربةً من عصا الساحر، ليدرك أن هناك "صياداً" متوارياً بين الأغصان العالية، يمطره بالسهام السامة من زاويةٍ ميتة.
هنا، لم ينتظر "قط الكذب" أمراً؛ فقد استشعر الخطر الكامن في الأعالي. بزمجرةٍ منخفضة هزت أوراق الشجر، اندفع القط بجسده المرن الضخم، وبرشاقةٍ لا تملكها سوى الكائنات التي ترفض قوانين الجاذبية، بدأ يتسلق جذع الشجرة العملاقة بمخالبه الفولاذية. كان يثب من غصنٍ إلى غصن كأنه ظلٌّ جائع، حتى وصل إلى القمة حيث كان يختبئ "كرونبي المتصيد".
كان "كرونبي" قزمَ كهفٍ قبيح الملامح، جلده يشبه الصخر الرمادي المليء بالنتوءات، وعيناه صغيرتان تفيضان بالمكر. كان يمسك بقوسٍ خشبي قديم ويستعد لإطلاق سهمٍ آخر على ماركو، غافلاً عما يقترب منه من الخلف. لم يمنحه قط الكذب فرصةً للالتفات؛ فبقفزةٍ هائلة ومخيفة، انقض القط على القزم الصغير. اتسعت عينا كرونبي ذعراً وهو يرى الفك المفترس لقط الكذب ينفتح أمامه، وقبل أن يطلق صرخة استغاثة واحدة، كان القط قد أطبق فكيه عليه تماماً، ليلتهم "المتصيد" في لقمةٍ واحدة وحشية، مخلّصاً ماركو من ذلك التهديد الغادر.
في الأسفل، أحسَّ ماركو بتلاشي الضغط من الأعلى، فصبَّ كامل تركيزه على الساحر الموغلاني. استجمع ماركو طاقة "هومه" في مسدسه الفضائي، لتتوهج الفوهة بضوءٍ أبيض باهرٍ يكاد يعمي الأبصار. صرخ الموغلاني محاولاً رفع عصاه لصد الهجوم الأخير، لكن ماركو كان أسرع؛ أطلق قذيفةً طاقيةً مركزة اخترقت درع الدخان الأخضر وحطمت العصا الملعونة إلى شظايا متناثرة.
بانكسار العصا، انطلقت صرخةٌ جماعية من الرؤوس المتقلصة وهي تتلاشى في الهواء، بينما تراجع الساحر وهو يرى جسده يبدأ في التحلل إلى حبرٍ أسود سائل. سقط الموغلاني على ركبتيه قبل أن يختفي تماماً، تاركاً خلفه سكوناً مفاجئاً في تلك البقعة من الغابة. هبط قط الكذب من فوق الشجرة، متمسحاً بقدم ماركو ببرودٍ وكأن شيئاً لم يكن، بينما مسح ماركو العرق عن جبينه، ونظر إلى عمق الغابة حيث بدأ ضوءٌ غريب ينبعث من بعيد.. ضوءٌ يعرفه جيداً، إنه وهجُ سفينته الفضائية التي باتت قاب قوسين أو أدنى.
بينما كان ماركو يشق طريقه نحو ذلك الوهج المألوف، واليقين يزداد في قلبه بأن سفينته الفضائية تقبع خلف تلك الأشجار المتشابكة، تبدلت طبيعة الأرض تحت أقدامه فجأة. اختفت التربة الصلبة المليئة بالأوراق اليابسة، وحلت مكانها أرضٌ رخوة تنبعث منها رائحة العفن والرطوبة الثقيلة. لم يكد يخطو خطوات قليلة حتى وجد نفسه هو وقط الكذب أمام عائقٍ لم يكن في الحسبان؛ مستنقعٌ واسع، مياهه آسنة خضراء يغطيها ضبابٌ كثيف، وكأنها قطعةٌ من الجحيم نُقلت لتوضع في قلب هذه الغابة.
توقف ماركو على حافة المستنقع، وبدأ قط الكذب بإصدار فحيحٍ حذر وهو يرجع أذنيه إلى الخلف، مستشعراً حركةً مريبة تحت سطح الماء الراكد. وفجأة، بدأت المياه بالتموج بعنف، وارتفعت كتلةٌ ضخمة من قلب الطين والطحالب، لتتشكل أمام أعينهما في هيئة عملاقٍ أخضر بشع. كان "وحش المستنقعات"، أحد أكثر وحوش فيرتشايلد رهبةً؛ كائنٌ لا يملك ملامح واضحة، جسده بالكامل عبارة عن كومةٍ هائلة من الأعشاب البحرية، الطحالب اللزجة، والجذور الغارقة التي تتقطر منها مياه المستنقع السوداء.
أطلق الوحش زئيراً أجشَّ يشبه صوت ارتطام الأمواج بصخورٍ طينية، واندفع بذراعيه الضخمتين اللتين تشبهان جذوع الأشجار المكسوة بالخضرة نحو ماركو. قفز ماركو إلى الجانب ببراعة، مطلقاً وابلاً من النبضات الحرارية من مسدسه الفضائي، لكن الطلقات كانت تغوص في جسد الوحش الرخو دون أن تحدث ضرراً حقيقياً؛ فالحرارة كانت تُمتص بفضل الرطوبة العالية والطحالب التي تجدد نفسها فوراً بمجرد احتراقها.
كان القتال صعباً ومضنياً؛ فالمستنقع نفسه كان عدواً، حيث كانت الأرض تمتص أقدام ماركو وتعيق حركته، بينما كان الوحش يتحرك في بيئته المفضلة بسيادةٍ مطلقة. حاول قط الكذب الانقضاض على ظهر الكائن المترهل، لكن مخالبه كانت تنزلق فوق الطحالب اللزجة وكأنه يحاول تمزيق سائلٍ كثيف. استمر الوحش في الهجوم، محاولاً سحب ماركو إلى قلب المياه الآسنة ليخنقه في أعماق الطين.
أدرك ماركو أن الأسلحة التقليدية لن تجدي نفعاً، فقام بتعديل تردد مسدسه الفضائي إلى أقصى طاقة "التجميد الكهرومغناطيسي". انتظر حتى اقترب الوحش منه لدرجةٍ مكنته من شم رائحة الموت المنبعثة من جسده، ثم غرس فوهة المسدس مباشرةً في قلب الكتلة الطحلبية وأطلق الدفقة الكاملة. في لحظةٍ واحدة، انتشر الجليد الطاقي في عروق الوحش المائية، ليتجمد ذلك المارد الأخضر في مكانه ويتحول إلى تمثالٍ هش من النباتات المتجمدة.
بضربةٍ قوية من مقبض مسدسه، حطم ماركو جسد الوحش المتجمد ليتناثر إلى آلاف القطع الثلجية التي ذابت فوراً وتحولت إلى حبرٍ أسود امتزج بمياه المستنقع. وقف ماركو يلهث، وجسده مغطىً بالطين، لكنه نظر خلف المستنقع ليرى قمة سفينته الفضائية تبرز أخيراً بين الضباب، معلنةً وصوله إلى هدفه المنشود بعد معركةٍ استنزفت كل قواه.
لم يكد ماركو يلتقط أنفاسه المجهدة بعد صراع وحش المستنقعات، حتى تبدلت طبيعة الرعب مرة أخرى. لم يعد الخطر قادماً من الطين، بل انبعث من الأرض والسماء في آنٍ واحد. خلف ضباب المستنقع المتلاشي، ظهرت "سيدة الأفعى"؛ كائنٌ يجمع بين الجمال الأنثوي القاتل والوحشية الزاحفة، بجسدٍ ينتهي بذيلٍ حرشفي ضخم يمتد لأمتار، وشعرٍ يتكون من أفاعٍ حية تتقلب وتفحُّ بغيظ. وبجانبها، غطى سوادٌ مفاجئ ما تبقى من ضوء القمر، حيث انقض سربٌ من "النحل الطنان" ضخم الحجم، وحوشٌ طائرة استدعاها فيرتشايلد من كوابيس كتاب "لماذا أخاف من النحل"، كل نحلة منها بحجم كف اليد، وبإبرٍ سامة تلمع كخناجر مصقولة.
وجد ماركو نفسه محاصراً في "كماشة" بين سحرِ سيدة الأفعى الغادر وهجمات النحل الانتحارية. بدأت سيدة الأفعى بحركاتٍ رشيقة ومنومة، تطلق من عينيها شعاعاً أخضر يحاول شل حركة ماركو، بينما كان سرب النحل يهبط من السماء كالقذائف، محدثاً طنيناً يصم الآذان ويشتت التركيز. سحب ماركو مسدسه الفضائي الذي بدأ يسخن من كثرة الاستخدام، وبدأ بإطلاق رشقاتٍ طاقية واسعة النطاق لمحاولة تشتيت السرب، بينما كان قط الكذب يثب في الهواء، يمزق بمخالبه النحل الضخم الذي يحاول غرس إبره في جسد صاحبه.
كان القتال صعباً لدرجةٍ غير مسبوقة؛ فكلما أطلق ماركو النار على سيدة الأفعى، كانت تتملص بجسدها المرن وتختفي خلف الأشجار، ليعاجله النحل بهجومٍ من الخلف. أصابت إحدى الإبر السامة درع ماركو الجانبي، مما أحدث دوياً معدنياً وتآكلاً في الطبقة الخارجية. صرخ ماركو محاولاً تفعيل "هومه" الأخير، لكن سيدة الأفعى أطلقت ذيلها القوي ليلتف حول قدمه ويسحبه بعنف نحو الأرض الطينية، بينما انقض السرب عليه ليغطيه بالكامل في محاولة لخنقه وحقنه بالسموم.
وسط هذا الحصار القاتل، والسموم التي بدأت تفوح رائحتها في الجو، أدرك ماركو أن نجاته تتوقف على ضربةٍ واحدة مزدوجة. ركز طاقته الكهرومغناطيسية في قلادة صدره، مطلقاً موجةً صدمية دائرية
(Omni-directional blast). انفجرت الطاقة من جسده كالقنبلة، لتقذف بالنحل بعيداً وتحوله إلى رمادٍ متطاير، وفي الوقت نفسه، استغل ماركو صدمة سيدة الأفعى ليوجه مسدسه نحو قلبها ويطلق شعاعاً مركزاً اخترق جسدها الحرفشي.
أطلقت سيدة الأفعى صرخةً أخيرة مزقت سكون الغابة، قبل أن يتهاوى جسدها ويبدأ بالذوبان في الحبر الأسود، تماماً كما تلاشت بقايا سرب النحل من حوله. سقط ماركو على ركبتيه، وجسده يرتجف من الإرهاق والسموم التي لامست جلده، لكنه رفع عينيه ليرى باب سفينته الفضائية مفتوحاً بشكلٍ جزئي على بعد أمتارٍ قليلة، وكأنها تدعوه للدخول قبل أن يبتلعه ظلام الغابة الملعونة