سادَ صمتٌ جنائزيٌّ في أروقةِ المدرسةِ بينما كان بليك يسيرُ بخطواتٍ ثقيلة، يجرُّ خلفهُ ثقلَ الحقيقةِ المروعة التي عاينها تحتَ ضوءِ القمر. تركَ هانا خلفه في القاعةِ الرئيسية لتطمئنَّ على الطلاب، مفضلاً مواجهةَ صانعِ هذا الكابوسِ بمفرده. دفعَ بليك أبوابَ قاعةِ المسرحِ الكبرى بعنفٍ لِيجدَ فيرتشايلد غارقاً بينَ ركامِ أوراقه، يكتبُ بجنونٍ وكأنَّ أصابعهُ تسابقُ الزمن،

وعيناهُ محتقنتانِ ببريقٍ غريبٍ يمزجُ بينَ الإلهامِ والاحتراقِ الداخليّ.

رفعَ فيرتشايلد رأسَهُ، وعلى وجههِ الشاحبِ ابتسامةٌ باهتةٌ ومكسورة، وقالَ بنبرةٍ متهدجة: "بليك.. لقد عدت! أنتَ في الوقتِ المناسب، أنا على أعتابِ السطورِ الأخيرة، النهايةُ باتتْ وشيكة، سأضعُ حداً لهذا الكابوسِ الذي..."

لم يتركْ لهُ بليك فرصةً للإتمام؛ فببرقٍ خاطفٍ وحركةٍ تفيضُ بالغضبِ المكتوم، اندفعَ نحو الطاولة، وقبضَ على ملابسِ الكاتبِ بعنفٍ ثمَّ رماهُ أرضاً لِيصطدمَ بالخشبةِ العتيقةِ للمسرح. تناثرتِ الأوراقُ في الهواءِ كأجنحةِ فراشاتٍ ميتة، ووقفَ فيرتشايلد مذهولاً، يمسحُ الغبارَ عن وجههِ وهو يتمتمُ بذعر: "ماذا دهاك؟ لماذا تفعلُ هذا يا بليك؟".

انتصبَ بليك فوقهُ كالجلاد، وعيناهُ تلمعانِ ببريقٍ من الاشمئزازِ والحزن، وقالَ بصوتٍ يخرجُ من أعماقِ حنجرته: "كفَّ عن التمثيلِ أيها الكاتب! لقد رأيتها.. رأيتها تحتَ ضوءِ القمرِ وهي تتلاشى، تصبحُ شفافةً كالحبرِ الباهت.. هانا ليستْ ابنتكَ يا فيرتشايلد، إنها مجردُ فصلٍ آخرَ من فصولِ لعنتك، إنها مخلوقٌ من ورق!".

سكتَ فيرتشايلد تماماً، وتصلبتْ ملامحهُ وكأنهُ طُعنَ بنصلٍ من الثلج. تراجعَ بظهرهِ على الأرضِ وهو يرتجف، بينما استمرَّ بليك في صراخهِ المريرِ الذي ترددَ صداهُ في جنباتِ القاعةِ الفارغة: "لماذا هي لا تعرف؟ هي تظنُّ نفسها من مخلوقاتِ هذا العالمِ فعلاً، تظنُّ أنها من لحمٍ ودمٍ طوالَ الوقت! لماذا صنعتَ كياناً هكذا؟ كيفَ تجرؤُ على غرسِ المشاعرِ والذكرياتِ في حبرٍ، ثمَّ تتركهُ يعيشُ كذبةً كبرى لا يدركُ كنهها؟".

اندفعَ بليك مرةً أخرى، وقبضَ على ياقةِ قميصِ فيرتشايلد بيدٍ واحدة، ورفعهُ عن الأرضِ لِيُلصقهُ بالجدارِ الخشبيّ بقوةٍ جعلتِ المسرحَ يهتزُّ من خلفه. كانت عينا بليك تطالبانِ بجوابٍ يبررُ هذا العبثَ الوجودي، ويدهُ تضغطُ على ياقةِ الكاتبِ بقوةٍ جعلتْ أنفاسَ الأخيرِ تتقطع.

بدأَ فيرتشايلد يلهث، والدموعُ تشقُّ طريقها وسطَ تجاعيدِ وجههِ المتعب، وهمسَ بصوتٍ مكسورٍ يقطرُ ندماً: "الوحدة.. لقد كانتِ الوحدةُ تنهشُ عظامي يا بليك. لم يكنْ لديَّ أحد، كنتُ أكتبُ للعالمِ وحوشاً لِيخافوا، لكنني في عتمةِ ليلي كنتُ أريدُ شيئاً لنفسي فقط.. شيئاً ينقصُ من وطأةِ وحدتي، شيئاً يشعرني بأنَّ لي عائلةً حقاً، وبأنَّ هناكَ قلباً ينبضُ في منزلي لا من أجلِ الرعبِ، بل من أجلِ الدفء".

في تلكَ اللحظة، خفتتِ الأضواءُ في ذهنِ فيرتشايلد، وتراجعتْ أصواتُ الحاضر، لِيغرقَ في أعماقِ الذاكرة، حيثُ بدأَ مشهدُ الماضي البعيدِ يتجسدُ أمامَ عينيهِ كشريطٍ سينمائيٍّ قديم..

كانتِ الغرفةُ باردةً ومظلمةً إلا من ضوءِ مصباحٍ زيتيٍّ خافتٍ يرتجفُ على مكتبهِ الخشبيّ.

كان فيرتشايلد الشابُ يجلسُ وحيداً، يحيطُ بهِ صمتٌ خانقٌ لا يقطعهُ سوى عواءِ الريحِ في الخارج. نظرَ إلى زوايا منزلهِ المهجور، وإلى الكراسي الفارغةِ التي لم يجلسْ عليها ضيفٌ قط. لم يمسكْ قلمهُ هذهِ المرة لِيكتبَ عن مسوخٍ أو أشباحٍ ممسوسة؛ بل بدأ يخطُّ بتأنٍ وشغفٍ لم يعهدهُ من قبل، ملامحَ فتاةٍ صغيرةٍ رقيقة. وضعَ في الكلماتِ لونَ عينيها الصافي، ومنحها خفةَ الظلِ التي سرقتها منهُ سنواتُ العزلة، ورسمَ لها ذكرياتٍ لضحكاتٍ طفوليةٍ لم تخرجْ من حنجرةٍ قط. كانت يدهُ ترتجفُ وهو يضعُ النقطةَ الأخيرةَ في وصفِ وجودها، وبدلاً من أن يجفَّ الحبرُ فوقَ الورق، بدأَ يتوهجُ ببريقٍ أزرقَ سماويّ، ثمَّ بدأ يرتفعُ ويتجسدُ ببطءٍ في وسطِ الغرفة، لِيتشكلَ من بينِ السطورِ كيانٌ نابضٌ بالحياة.. طفلةٌ صغيرةٌ تفتحُ عينيها بذهولٍ لِتنظرَ إليهِ وتهمسَ لأولِ مرةٍ بكلمةٍ حطمتْ جدارَ وحدته: "أبي؟". في تلكَ اللحظة، وُلدتْ هانا، ووُلدَ معها السرُّ الذي لم يجرؤ فيرتشايلد على كشفهِ حتى لنفسه.

استمرَّ شريطُ الذاكرةِ في الدوران، وكأنَّ صفحاتِ الماضي تُقلبُ بفعلِ ريحٍ حزينة. لم تكن هانا مجردَ كائنٍ طارئ، بل غدتْ محورَ الكونِ في ذلكَ المنزلِ الذي كان مقبرةً للصمت. عاشَ فيرتشايلد معها سنواتٍ طوال،

اختبرَ فيها لأولِ مرةٍ ثقلَ ومجدَ المسؤولية؛ أن يكونَ مسؤولاً عن روحٍ أخرى، أن يقلقَ إذا تأخرت، وأن يبتسمَ لضحكتها الصافيةِ التي كانت تملأُ الزوايا الميتةَ حياة.

يتذكرُ فيرتشايلد بوضوحٍ ذلكَ الصباحَ الذي رافقها فيه إلى المدرسةِ لأولِ مرة. كانتْ هانا تمشي بجانبهِ بخطواتٍ واثقة، فتاةً ذكيةً، جميلةً، واجتماعيةً بشكلٍ ساحر، تأسرُ القلوبَ بعفويتها. كان ينظرُ إليها والناسُ من حولهِ يثنونَ على أدبها وفطنتها، فيبتسمُ بمرارةٍ مخفية؛ فقد كانتْ ذكيةً وجميلةً واجتماعيةً تماماً كما خطَّ حبرهُ في مسودةِ خلقها. لم تكن هناك مفاجآت، بل كان يرى كلماته تتحركُ على الأرض.

كانت تجلسُ بجانبهِ في المساء، تغوصُ في قراءةِ كتبهِ، تضحكُ لنكاتهِ المكتوبة، وتناقشهُ في حبكاتِ قصصهِ بشغفٍ لا ينطفئ، وكانتْ دائماً تتمنى لهُ الأفضل، وتغمره بحبٍ ابويٍّ طاهرٍ لا تشوبه شائبة.. تماماً كما صاغَ مشاعرها في السطورِ الأولى من وجودها.

كان فيرتشايلد يخفي عنها حقيقتها الورقية بكل جوارحه؛ لأنه أراد لها، ولو من باب الخداع، أن تشعرَ بلذةِ كونها بشرية حقيقية. كانت هي النور الوحيد في نفق حياته المظلم، وكان في لحظاتِ تجليه يتوهمُ أن إيمانها العميق بأنها فتاةٌ من لحمٍ ودم قد يكسرُ قوانين الطبيعة ويحولها يوماً ما إلى بشريةٍ حقيقية. لكنه، في قرارةِ نفسه، كان يعرفُ أن ذلك لن يحدث أبداً.

كان يعرفُ القيدَ الذي كبّلَ به وجودها؛ فهو لم يصنع كائناً حراً يتطور، يخطئ، وينمو من تجاربه، بل صنع النموذج المثالي للابنة التي تمناها. كتبها لكي تكون ابنة والداها المطيعة والمحبة إلى الأبد، دون أن تملك القدرة على التمرد أو التغيير. لم يكن هناك تطورٌ حقيقي في شخصيتها، فهي ولدت ناضجةً ومثاليةً ومبرمجةً على حبه. كانت حياتها بأكملها تدور في فلك الرضا الذي خطه لها بمداده.

لهذا السبب، ورغم حبه العنيف لها، لم يستطع فيرتشايلد يوماً أن يؤمن بها كابنةٍ حقيقية. كان ينظر إلى نجاحاتها الباهرة، وتفوقها الدراسي، ومواقفها النبيلة، بعينٍ باردةٍ خلف قناع الأب الفخور؛ فكل إنجازٍ حققته كان بالنسبة له أمراً "متوقعاً" ومحسوماً سلفاً، لأنه هو من وضع تلك الصفات في جيناتها الحبرية. لم يكن هناك فخرٌ بالجهد، بل كان فخراً بدقةِ الوصفِ وسحرِ الكتابة. لقد أحبها كأجملِ تحفةٍ فنيةٍ صنعها، لكنه لم يثق يوماً بأنها تمتلكُ روحاً حرةً يمكنها أن تخيب ظنه أو تفاجئه.

عادَ وعيُ فيرتشايلد إلى الحاضر، وهو لا يزالُ معلقاً بيدِ بليك على الجدار، وعيناهُ تفيضانِ بالانكسار وهو يهمس: "لقد أحببتُ الكمالَ الذي صنعتهُ فيها يا بليك.. لكنني قتلتُ إنسانيتها قبلَ أن تبدأ، لأنني خفتُ أن تتركني لو تطورتْ كما يفعلُ البشر الحقيقيون.. لقد جعلتها سجينةً لمثاليةٍ لا تتبدل".

وعلى الجانب الآخر من تلك المأساة الصامتة، كانت هانا تعيش صراعاً خفياً لم يدركه فيرتشايلد قط؛ فمنذ أن بدأت تعي وجودها، امتلكت بصيرةً نافذةً تجاه نظرات والدها. كانت تشعر في أعماق روحها أن تلك الابتسامة التي تعلو وجهه عندما تفوز بسباق، أو ذلك البريق الذي يلمع في عينيه حين تتفوق في اختباراتها، لم يكن فخراً حقيقياً نابعاً من دهشة الاكتشاف، بل كان فخراً زائداً، فخراً بارداً يشبه نظرة شخص يتابع فيلماً يعرفُ تفاصيل نهايته مسبقاً، لكنه يحاول بصبرٍ واصطناع أن يمثل دور المتفاجئ أمام الأحداث.

كان هذا الفخر الزائف هو الوحش الذي يطارد هانا في أحلامها، والدافع الذي صاغ هدف حياتها الوحيد؛ أن ترى يوماً "عين الفخر الحقيقية" على وجه والدها، تلك النظرة التي تنبع من قلبٍ مذهولٍ بإنجازٍ لم يتوقعه، عوضاً عن ذلك الفخر المعلب الذي كان يُشعرها بأنها مجرد آلة تؤدي وظيفتها بإتقان.

طوال حياتها التي لم تكن تتذكر بدايتها – كأنها ولدت في منتصف حكاية – كانت هانا في سباقٍ محموم مع المستحيل. حاولت أن تتجاوز حدود ما كُتب لها، فعلت أموراً خارقة، وحصدت ألقاباً رياضية، وكونت شبكة واسعة من الأصدقاء بذكائها الاجتماعي الفائق، وفي كل مرة كانت تعود بالمداليات أو بالشهادات، كانت ترمق وجه والدها بلهفة المترقب، لعلها تجد ثغرة في ذلك الجمود، لعلها تلمح دهشةً حقيقية تكسر رتابة توقعه. لكنها دائماً ما كانت تصطدم بتلك النظرة؛ النظرة التي لم تستطع كرهها رغم مرارتها، لأنها كانت مغلفةً بحبٍ أبوي صادق، لكنه حبٌ يفتقر إلى الإيمان بقدرتها على مفاجأته.

اجتهدت هانا بكل ما أوتيت من قوة لتصل إلى أقصى حدود المثالية. دخلت أفضل مدرسة ثانوية في شنغهاي، وتفوقت في امتحاناتها بعلاماتٍ كاملة أبهرت الجميع، وحصدت الجوائز في رياضاتٍ متعددة، ومع كل نجاحٍ جديد، كانت الصدمة تزداد في قلبها؛ فالفخر الزائف على وجه فيرتشايلد كان ثابتاً لا يتزحزح، كأنه نقشٌ حجرِيّ لا تصله رياح التغيير.

بدأت هانا تغرق في بحرٍ من التساؤلات الوجودية التي لم تجد لها جواباً: "لماذا لا يتغير؟ هل المشكلة تكمن فيَّ؟ هل أحاولُ أكثر مما ينبغي؟". كانت تشعر بضياعٍ مهول؛ فكلما تقدمت خطوة نحو القمة، وجدت والده ينتظرها هناك بابتسامته المتوقعة، وكأنه هو من رسم لها الطريق ووضع لها القمة قبل أن تبدأ بالركض. لم تكن تدري أنها في كل مرة تحقق فيها إنجازاً مذهلاً، كانت فقط تؤكد لفيرتشايلد دقة "كتابته" وسحر "قلمه"، مما يزيد من قناعته بأنها مجرد شخصية ورقية متفوقة، وليست ابنةً حقيقية تمتلك إرادةً لتخيب ظنه أو تبهر وجدانه.

مع مرورِ الأعوام، بدأَ الشكُّ يتسللُ إلى قلبِ هانا كخيطِ دخانٍ بارد. كانت تراقبُ زملائها في المدرسةِ بكثيرٍ من التأملِ والقليلِ من الحزن؛ رأتهم يخطئون، يكذبون، يخافون، يقعون في الحب، ويحملون أحلاماً جامحةً تارةً وساذجةً تارةً أخرى. رأت فيهم "بشريةً" لا تملكها؛ فالبشرُ يتطورون من خلال عثراتهم، أما هي، فكانت وكأنها "بارعة" في كل شيءٍ منذ البداية، كأنَّ مهاراتها لم تُكتسب بل وُجدت معها.

لم تكن هانا تكذب، فما الداعي للكذبِ في عالمٍ لا تملكُ فيه ما تخفيه؟ لم تكن تخاف، فما الذي يرهبُ كائناً مثالياً لا يشعرُ بتهديدِ الفشل؟ كانت تنظرُ للجميعِ بمنظورِ "الشخصِ الثالث"، تراقبهم من بعيدٍ وهم ينسجون علاقاتهم المعقدة، بينما هي لا تحبُّ سوى والدها، حباً ثابتاً، رتيباً، ومبرمجاً. لم تكن تحلم، بل الأدهى من ذلك أنها لم تكن تدركُ "معنى" الحلم؛ فالحلمُ هو رغبةُ المرءِ في الوصولِ لشيءٍ ينقصه، وهانا لم يكن ينقصها شيء.. سوى أنها كانت تشعرُ بأنها "أقل" منهم جميعاً.

على الرغم من إنجازاتها التي لم يسبق لتلميذٍ عاديٍّ تحقيقها، إلا أنها كانت تدركُ دون فهمِ السبب أنها أدنى مرتبةً من أولئك الذين يحاولون التسلقَ إليها. هم يملكون "المكان" للصعود، يملكون الرحلة، يملكون لذةَ تكوينِ الشخصية، أما هي، فكانت تجلسُ فوق القمة وحيدة، تنتظرُ شيئاً لا يأتي، وتحسدهم بمرارة: "لماذا ولدتُ هكذا؟ لماذا أنا جيدةٌ في كل شيء؟ لماذاااااااا؟".

وسط هذا التيه، برز هدفها القديم كمنارةٍ أخيرة: "تغيير نظرة والدها". وهنا، ظهر أول شذوذٍ في "النص" الذي كتبه فيرتشايلد. أدركت هانا أنها مهما ارتقت في سماء المثالية، فلن تنال سوى ذلك الفخر الزائف. لذا، وبدلاً من النظر للسماء، قررت أن تنظر للأرض تحتها وتبدأ بحفرها؛ فإذا لم تستطع الحصول على "نظرة فخر حقيقية"، فستنتزعُ منه "نظرة خيبة أمل حقيقية".

بدأت هانا تتمردُ لأول مرةٍ في حياتها. تعمدت الرسوب في الاختبارات، رفضت الانخراط في أي نشاطٍ رياضي، وعاملت والدها ببرودٍ وجفاءٍ لم يعهده منها. وأثناء فعلها ذلك، كان صدرها يكاد ينفجر؛ شعورٌ مؤلمٌ وغير مريحٍ يجتاح كيانها كلما خالفت "طبيعتها"، وكأنَّ فطرتها المكتوبة تحاول منعها بصراخٍ صامت، لكنها لم تقبل الاستسلام.

وبينما كانت هانا تترقبُ بلهفةٍ لترى نظرة "خيبة الأمل" التي ستثبتُ بشريتها، كان في ذهن فيرتشايلد شيءٌ آخر تماماً. كان ينظرُ إليها بذهولٍ لم يسبقه مثيل، لكنه ليس ذهول الخيبة، بل هو ذهول "المبدع" الذي رأى خلقهُ يتمردُ على السطور!

قال فيرتشايلد في نفسه وعيناه تلمعان ببريقٍ جديد: "لقد تطورت شخصية هانا.. لم تعد أحادية الأبعاد! لقد تمردت على طبيعتها الكاملة التي وضعتها لها.. هذا مذهلٌ لأبعد الحدود!". وعوضاً عن خيبة الأمل، رأت هانا في وجه والدها نوعاً آخر من الفخر؛ فخرُ الشخص الذي رأى معجزةً أدبيةً تتحقق أمام عينيه، فخرُ الكاتبِ الذي آمن أخيراً بأنَّ ابنتهُ الورقية قد تصبح يوماً ما كياناً مستقلاً يملكُ إرادةً خاصةً به.

انقطع الفلاش باك، وعاد بليك ليرى فيرتشايلد وهو يرتجفُ بين يديه، ودموعه تنهمرُ بحرارة، هامساً: "تلك اللحظة.. تلك اللحظة التي تمردت فيها، كانت المرة الأولى التي آمنتُ فيها أنها قد تكون حقيقية.. كانت أجمل فصول حياتي يا بليك".

أرخى بليك قبضته عن ياقة الكاتب، ليتراجع فيرتشايلد بخطىً مثقلة قبل أن يستند إلى آلة كتابته، ويمسح آثار الغضب عن قميصه. رفع الكاتب رأسه ونظر إلى بليك بعينين يملؤهما إيمانٌ غريب، وقال بنبرة تفيض بالحكمة الممزوجة بالألم: "بليك.. إن كنت تهتم لأمرها حقاً،

فعليك أن تتقبلها كما هي الآن. انظر إليها وهي تحارب حقيقتها المطلقة، وتصارع جوهرها الورقي لكي تتحرر من تلك الأوراق الساذجة التي كتبتها في لحظة ضعف. هي الآن تخوض أعظم معارك الوجود لتصير إنساناً كاملاً، فهل ستقف في طريقها أم ستكون سنداً لها؟".

نظر إليه بليك بعينين يملؤهما الشك والاستنكار، ورد بصوتٍ أجش: "وكيف يمكن لذلك أن يحدث؟ أخبرني أيها الكاتب.. كيف لفتاة لم تولد من رحم حقيقي، ولم تشعر يوماً بدفء أمٍ بشرية، ولم يجرِ في عروقها دمٌ إنساني، أن تصبح بشراً؟ أنت تتحدث عن المستحيل!".

اعتدل فيرتشايلد في وقفته، وأشار بيده نحو كومة الأوراق المتناثرة قائلاً: "إن آمنتَ بذلك يا بليك، فسيصبح حقيقياً. الإيمان والخيال وجهان لعملية واحدة، نسيجٌ واحد يربط الروح بالوجود. إذا آمنت بخيالك لدرجة أن يطغى على واقعك، فسوف يستسلم الواقع ويصبح ما تخيلته حقيقةً ملموسة. الخيال ليس هروباً، بل هو المادة الخام التي يُصنع منها الكون".

استدار بليك بجسده، وأعطى ظهره للكاتب وهو يزمجر بضيق: "كلامٌ غبي ومثالي لا يسمن ولا يغني من جوع.. هذا الذي تتحدث عنه يتجاوز حدود الخيال حتى، إنه عبثٌ لا يقبله عقل".

رد عليه فيرتشايلد بهدوءٍ مرعب، وصوته يتردد في جنبات المسرح كأنه صدىً من عالمٍ آخر: "ربما يكون كذلك.. فلا أحد يعلم يقيناً ما الذي يوجد خلف الخيال. هل هناك كتاباتٌ لناسٍ صادقة أصبحت قصصها واقعاً؟ أم هي أساطيرُ صُنعت من ركام الواقع؟ أو ربما هو واقعٌ صُنع من وحي الأساطير؟ اسمعني جيداً يا بليك.. الخيال هو المكان الأساسي في هذا العالم، وبدونه لا شيء كان سيكون حقيقياً. لولا الخيال لظل كل شيء خيالياً، ولما خطونا خطوةً واحدة نحو الحقيقة".

توقف بليك مكانه فجأة، وشعر بصداعٍ خفيف يضرب صدغيه. في تلك اللحظة، انفتحت في عقله زاويةٌ مظلمة ومتربة من ذاكرته البعيدة؛ تذكر وجه جده ثيودور وهو يجلس بجانبه قرب تلك البحيرة الهادئة حين كان في السادسة من عمره، وتذكر كلماته التي كانت تتحدث عن نفس هذا الغموض، عن الشمس التي تغرب خلف حدود ما ندركه.

صكَّ بليك على أسنانه وقال بحدة: "تباً لك.. اصمت! أنت تذكرني بذكرياتٍ كانت مدفونة في خلفية عقلي منذ فترة طويلة، كلماتٌ لم أكن أفهم مغزاها حتى الآن".

لم يعلق فيرتشايلد، بل عاد بآليةٍ صامتة إلى كرسيه، وأمسك بقلمه لِيغرق من جديد في الصفحات الأخيرة من قصته، حيث لم يتبقَّ سوى سطورٍ معدودة لتنتهي المأساة أو تبدأ حقيقةٌ جديدة. أما بليك، فقد خرج من الغرفة بخطواتٍ واسعة، تاركاً وراءه دخان التساؤلات، ليعود إلى ساحة القتال مجدداً. كان جسده يشحن بطاقةٍ جديدة، وعقله يتهيأ لمواجهةٍ لا تشبه ما سبقها؛ مواجهةٌ لا تعتمد على السيف والسحر فحسب، بل على الإيمان بما يقبع هناك.. خلف الخيال.

2025/12/19 · 4 مشاهدة · 2274 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025