اندفع بليك إيثر نحو "اللورد الجلاد الأعلى" بكل ما أوتي من قوة، وسيفه الفضي يلمع في العتمة كشهاب يخرق جدار الرعب، وكان عازماً على إنهاء هذه المحاكمة العبثية بضربة واحدة قاضية. ولكن، في اللحظة التي كاد فيها نصل السيف يلامس حافة القناع الأسود للجلاد، حدث شيء لم يكن في الحسبان؛ شعر بليك فجأة بفراغ مهول ينخر في عظامِهِ، وبرودة تجتاح كيانه كأنما سُحبت الحياة من عروقه. تلاشى الوميض الفضي، وبدأ السيف يتبخر بين يديه متحولاً إلى ضباب باهت، ثم تلاشت قبضته تماماً. تراجع بليك وهو ينظر إلى كفيه بذهول، وشعر بجسده يتقلص، وعضلاته تضمر، وقوته السحرية التي بناها بجهد شاق تتبدد كأنها لم تكن. تحول بليك، المقاتل الصنديد، إلى فتى نحيل بملامح مراهق ضعيف البنية، بائس، يرتجف خوفاً أمام هذا الكيان الجبار.
ضحك الجلاد ضحكة خفيضة مكتومة خلف قناعه، وقال بنبرة تفيض بالتشفي: "أتتساءلُ ما الذي حلَّ بقوتكَ الزائفة؟ أيها الفتى المسكين، إن نصل عدالتي لا يقطع الرؤوس فحسب، بل يقطعُ حبال الزمن. قدرتي المطلقة تكمن في إعادة خصمي إلى الحالة التي كان عليها في آخر لحظة سقط فيها في وحل الدنس. وبما أن بصيرتي تخبرني أن آخر عهدك بالخطيئة الكبرى كان في سنوات إعداديتك عندما لوثت عيناك بتلك الصور والخيالات الإباحية، فقد عدت الآن إلى ذلك الفتى الضعيف الذي كنت عليه حينها. أنت الآن مجرد مراهق غرير، لا سيف يحميك ولا مانا تنجدك، فكيف ستواجه حكم الفأس الآن؟".
سقط بليك على ركبتيه، وأنفاسه تتسارع بحدة، وشعر بذعر طفولي لم يذقه منذ سنوات. كان ينظر إلى الجلاد الذي بدا الآن كالجبل الشاهق أمامه. رفع الجلاد فأسه الثقيلة فوق رأسه، ونصلها يبرق ببرود قسري، وهتف بصوت كالرعد: "انتهى زمنُ الأكاذيب! القصاصُ واجبٌ الآن!". وبينما كان النصل يهوي في مسار محتوم نحو رقبة بليك، حدث تدخل لم يكن في حسابات القدر.
اندفعت هانا فيرتشايلد بحركة انتحارية، وألقت بنفسها فوق بليك، محتضنةً إياه بضعفها، ومعطيةً ظهرها للجلاد وللفأس الهابطة. أغمضت عينيها بشدة وهي تنتظر أن يخترق الفولاذ جسدها، لكن الصمت ساد فجأة، ولم يقع المحتوم. توقف النصل على بعد مليمترات قليلة من ظهرها، كأنما اصطدم بحائط غير مرئي من المبادئ والقوانين الكونية التي تحكم وجود هذا الوحش. كان الجلاد يرتجف، ليس خوفاً، بل بسبب صراع داخلي يمزق برمجته؛ إذ كانت يداه متصلبتين فوق الفأس، وعيناه خلف القناع تفيضان بالارتباك.
زأر الجلاد بغضب مكتوم، وصوته يخرج مخنوقاً: "لماذا.. لماذا لا يتحرك النصل؟ إن قانوني يمنعني من ضرب من لم يمسه الدنس قط.. قانوني يحظر عليَّ إراقة دماء الأنقياء الذين لم يعرفوا طريق الشهوات المحرمة. أيتها الفتاة.. كيف يمكن لروح أن تظل بهذا الصفاء في هذا العالم القذر؟ أنتِ لستِ زانية، ولم تلمس الخطيئة فكركِ أبداً.. وفأسي لا تجدُ فيكِ موضعاً للقصاص".
أدركت هانا في تلك اللحظة الحرجة أن عفويتها ونقاء سريرتها التي استمدتها من نشأتها وسط كتب والدها وخيالها البريء كانت هي الدرع الوحيد الذي عجز سحر بليك وقوته عن توفيره. لم تضيع ثانية واحدة؛ استغلت حالة الذهول التي أصابت الجلاد، وقبضت على يد بليك المرتجفة، وجذبته بقوة لتقوم بسحبه من تحت النصل المعلق. قالت بصوت يرتجف لكنه مليء بالإصرار: "انهض يا بليك! الآن هي فرصتنا!".
بدأت هانا بالركض وهي تجر بليك خلفها، الذي كان لا يزال مذهولاً من تحوله ومن الموقف المحرج الذي وضع نفسه فيه. انطلقا في ممرات المدرسة المظلمة والمغطاة بطبقات الجليد، وأصداء خطواتهما ترتطم بالجدران الباردة. خلفهما، استعاد الجلاد توازنه، وبدأ يتحرك بخطوات ثقيلة وموزونة، وفأسه تجر خلفه على الأرضية الرخامية، مُحدثةً صوتاً حاداً ومنتظماً يشبه نبضات ساعة الموت. كان لا يزال يطاردهما، ليس رغبة في قتل هانا، بل إصراراً على الوصول إلى بليك الذي لا يزال في نظره "الهدف المدنس" الذي يجب أن يلقى جزاءه، مهما حاولت تلك الروح النقية حمايته. تداخلت أنفاس هانا المتلاحقة مع صوت صرير الفأس في الممرات، وهي تعلم تماماً أن النجاة هذه المرة لا تعتمد على السحر، بل على قدرتها على إخفاء "المذنب" عن أنظار "العدالة المشوهة" في غياهب هذا الحصن الجليدي.
انطلقَ بليك وهانا داخلَ أحدِ الفصولِ الدراسيةِ المهجورة، وأغلقا البابَ خلفهما بهدوءٍ مشوبٍ بالحذر، ليربضا خلفَ صفوفِ المقاعدِ الخشبيةِ وسطَ سكونٍ لم يقطعهُ سوى قرقرةِ أسلاكِ الكهرباء المقطوعة. من خلالِ شقٍ صغيرٍ في الباب، أبصرَ بليك ظلاً ثقيلاً يمرُّ في الرواق؛ كانَ اللورد الجلاد الأعلى يسيرُ بهيبةٍ قاتلة، وفجأةً توقفَ أمامَ خزانةٍ معدنيةٍ كبيرةٍ كانت تَهتزُّ بفعلِ أنفاسٍ مكتومة. بضربةٍ واحدةٍ من فأسه، حطمَ الجلادُ بابَ الخزانةِ ليكشفَ عن مراهقينِ اختبأوا هناك، وبمجردِ أن لمحتْ بصيرتُهُ أرواحهم، لم يتردد؛ ففي شريعةِ هذا المسخ، لا يوجدُ مراهقٌ نجا من لوثةِ الفضولِ أو الدنسِ العاطفيّ. ارتفعَ صريرُ الفولاذِ ليعقبهُ صمتٌ أبديّ، حيثُ قضى عليهم دونَ ذرةٍ من رحمة، معتبراً إياهم وقوداً لعدالتهِ العمياء.
انكمشَ بليك على نفسهِ في الزاوية، وقد غطى وجهَهُ بيديِهِ اللتينِ بدتا نحيلتينِ وغريبتينِ عليه، وهمستْ هانا بصوتٍ يكادُ لا يُسمع: "بليك.. ماذا سنفعل؟ الجلادُ لا يمزح، وقوتكَ تلاشتْ تماماً، كيفَ سنواجهُ هذا الحطامَ الذي صرنا إليه؟".
رفعَ بليك رأسَهُ ونظرَ إليها بعينينِ يملؤهما الخجلُ والانكسار، وقالَ بنبرةٍ خافتةٍ تليقُ بفتىً في الإعدادية: "لا أدري يا هانا.. حقاً لا أدري. لقد استعدتُ شخصيتي القديمةَ بكلِّ مساوئها؛ كنتُ في تلكَ المرحلةِ فتىً خجولاً إلى أبعدِ الحدود، لا أقوى على اتخاذِ قرارٍ واحد، والأسوأُ من ذلك، أنني كنتُ أعجزُ تماماً عن التحدثِ إلى الفتيات، خاصةً الجميلاتِ منهن.. لهذا تجدينني الآنَ أرتجفُ أمامكِ لا أمامَ الجلادِ فحسب".
تنهدتْ هانا في حيرةٍ واضحة، ونظرتْ إليهِ بمزيجٍ من الدهشةِ والشفقة، وقالت: "لا أصدقُ أنَّ ذلكَ المقاتلَ الصنديدَ الذي حمى المدرسةَ قبلَ قليلٍ كانَ يُخفي خلفهُ هذا الفتى المرتبك. كيفَ يمكنُ للزمنِ أن يقلبَ الموازينَ بهذهِ البشاعة؟". سادَ صمتٌ قصيرٌ قبلَ أن يسألها بليك، وهو ينظرُ إلى الأرض: "ولكنْ أخبريني.. كيفَ نجوتِ من حكمِ الفأس؟ كيفَ بقيتِ بهذا النقاءِ والطهارةِ وأنتِ في هذا العمر؟".
ردتْ هانا وهي تُبعدُ خصلةً من شعرها عن وجهها، بنبرةٍ تعكسُ براءةً أصيلة: "الأمرُ بسيطٌ يا بليك.. أنا لم أفكرْ يوماً في تلكَ الأشياءِ الهابطة، ولم أسمحْ لخيالي أن يتلوثَ بما يُفسدُ الروح. كانتْ كتبي وعالمُ والدي القصصيُّ هما ملاذي الوحيد، والجمالُ في نظري كانَ دائماً أسمى من تلكَ الغرائز."
في تلكَ الأثناء، اقتربتْ هانا من النافذةِ بحذرٍ لترصدَ تحركاتِ الجلادِ الذي كانَ لا يزالُ يضربُ بفأسهِ أبوابَ الفصولِ القريبةِ باحثاً عنهما. وبينما كانتْ غارقةً في مراقبةِ الموتِ الذي يدورُ في الخارج، كانَ بليك يقفُ في الظلِ لوحده، وبفعلِ هرموناتِ المراهقةِ التي استعادها مع جسدهِ القديم، لم يتمكنْ من منعِ عينيهِ من اختلاسِ نظرةٍ سريعةٍ ومحتقنةٍ بالخجلِ نحو صدرها. لم تحتجْ هانا لِتستديرَ لتعرف؛ فإحساسها الفطريُّ دفعها لِلالتفاتِ بسرعةٍ وتوجيهِ صفعةٍ قويةٍ لِوجههِ الصغيرِ المرتجف، لِيُدوي صوتُ الصفعةِ في الغرفةِ الساكنة.
تأوهَ بليك وهو يمسكُ خدهُ المحمر، وفجأةً، توقفتْ ملامحهُ عن الارتجافِ وحلَّ مكانها بريقٌ غريب. اقتربَ من هانا وأمسكَ بكتفها، وبدأ يهمسُ في أذنها بكلماتٍ سريعةٍ ومكثفة. كانت تعابيرُ وجهِ هانا تتغيرُ مع كلِّ جملةٍ ينطقُ بها، من الذهولِ التامِ إلى الشك، ثمَّ أخيراً إلى نوعٍ من الإصرارِ المشوبِ بالخوف.
بعدَ أن انتهى من شرحِ خطتهِ السريّة، سألتهُ هانا والارتباكُ يملأُ ملامحها: "هل سيُفلحُ هذا فعلاً؟ هل تظنُّ أنكَ تخدعُ قدراً مبرمجاً وقانوناً كونياً بهذهِ الطريقة؟". ردَّ بليك وهو يتجهُ نحو البابِ بإصرارٍ عجيب: "ليسَ أمامنا سوى التجربة. لقد وضعتِ الخطةُ كلَّ شيءٍ في ميزانِ المخاطرة، وعلينا التنفيذُ الآن."
خرجا من الفصلِ لِيصطدما مباشرةً بنظراتِ الجلادِ المرعبةِ في نهايةِ الرواق. وبمجردِ أن رآهما، زأرَ الجلادُ ورفعَ فأسهُ منطلقاً نحوهما، لكنَّ بليك انطلقَ بسرعةٍ فائقة في الاتجاهِ المعاكس، هارباً نحو القاعةِ الأخرى لِيستدرجَ الجلادَ ويشتتَ انتباهه. وفي تلكَ اللحظةِ الحاسمة، اعترضتْ هانا طريقَ الجلادِ بجرأةٍ تامة. وبما أنَّ الجلادَ محكومٌ بقانونهِ الصارمِ الذي يمنعهُ قطعيّاً من المساسِ بالأنقياء، وجدَ نفسهُ عاجزاً عن اختراقها أو دفعها بعيداً، مما مكنها من عرقلةِ خطواتهِ الثقيلةِ والتشبثِ بهِ لتعطيله، بينما كان بليك يركضُ بكلِّ ما أوتيَ من قوةٍ لتنفيذِ الجزءِ الغامضِ من خطتهِ التي قد تَقومُ بقلبِ الطاولةِ على هذا الجلادِ إلى الأبد.
كان اللورد الجلاد الأعلى يندفع في الرواق كإعصار من الفولاذ الأسود، متجاوزاً محاولات هانا لعرقلته ببراعة حركية لا تليق بجسده الممتلئ. صبّ جلّ تركيزه على بليك الذي كان يركض أمامه بجسد مراهق مرتعش، يصرخ بليك بنبرة يملؤها الذعر وصوته يكاد يختنق بالعبرات: "هانا! أسرعي يا هانا! أرجوكِ!". كان الخوف الذي يسكن بليك حقيقياً، خوف فتىً يرى الموت يتبعه بوقع خطى ثقيلة وفأس تجرّ خلفها شراراتٍ على الأرضية الرخامية، بينما كانت هانا قد انطلقت في مسارٍ مغاير، تنهب الأرض بقدميها نحو قاعة التجمعات الكبرى حيث كان بقية الطلاب يلوذون بالفرار والاختباء خلف الأثاث المحطم.
اقتحمت هانا القاعة، وأنفاسها تتلاحق كأن صدرها سينفجر، وقفت في المنتصف وصرخت بصوتٍ جهوري هزّ جدران المكان: "أيها الرفاق! اسمعوني جيداً! أي أحد منكم يحمل في حقيبته مجلة إباحية أو صوراً فاضحة فليعطها لي الآن! حالاً!". ساد صمتٌ مطبق للحظة، وتبادل الفتيان نظراتٍ ممزوجة بالذهول والريبة، وارتسمت على وجوه بعضهم ابتسامات منحرفة لم تفهم الموقف الجدي الذي تمر به المدرسة. لم تنتظر هانا تفسيراً، بل رمتهم بنظرة حادة ومخيفة، نظرة تقدح شرراً جعلت الدماء تتجمد في عروقهم، فاندفع أحد الفتيان مرتجفاً وفتح حقيبته ليخرج مجلةً ذات غلافٍ براق ومشبوه، وسلمها لها بيدٍ مرتعشة. خطفتها هانا منه بلمحة بصر وقالت بحدة: "شكراً لك!"، ثم استدارت وانطلقت كالسهم عائدةً إلى الممر الذي تركت فيه بليك يواجه مصيره المحتوم.
في هذه الأثناء، كان بليك قد وصل إلى نهاية ممرٍ مسدود، حيث انقطعت به السبل تماماً. التفت بظهره إلى الجدار المتجمد، ليجد الجلاد شاخصاً أمامه كظل الجحيم. امتدت يد الجلاد الضخمة والمغطاة بقفاز جلدي خشن، وقبضت على عنق بليك النحيل، ليرفعه عن الأرض ببطءٍ مرعب. بدأ بليك يرفس بقدميه في الهواء، وصوته يخرج مبحوحاً ومتقطعاً من شدة الخنق: "ها.. هانا.. أسرعي.. أرجوكِ". كان نصل الفأس يرتفع عالياً في يد الجلاد الأخرى، مستعداً لإسدال الستار على حياة بليك، وفجأة، سُمع صوت ركضٍ سريع يتردد في الردهة، وظهرت هانا وهي تصرخ: "بليك! أمسك!".
رمت هانا المجلة بقوة في الهواء، ليلتقطها بليك بيده الحرة في اللحظة الأخيرة قبل أن يفقد وعيه. وبحركة خاطفة، فتح بليك صفحات المجلة عشوائياً، لتظهر صفحة تحمل صورةً فاضحة وصريحة تماماً، ووضعها مباشرةً أمام ثقوب القناع الأسود الذي يغطي وجه الجلاد. تيبّس الجلاد في مكانه، ولم يستطع صرف بصره؛ إذ كانت بصيرته الأخلاقية وقدرته مبنية على "الرؤية"، وبمجرد أن وقعت عيناه على تلك التفاصيل الجسدية المكشوفة في الصورة، حدث زلزالٌ في كيانه الروحي والبرمجي.
أفلت الجلاد قببضته عن عنق بليك، الذي سقط أرضاً وهو يسعل ويحاول استعادة أنفاسه، بينما تراجع الجلاد خطواتٍ إلى الوراء وهو يطلق زئيراً ينمّ عن غضبٍ عارم وألمٍ وجودي غير مسبوق. كان الجلاد يرتجف بعنف، وقدرته التي كانت تمنحه التفوق بدأت تنقلب ضده؛ لقد أصبح الآن "ناظراً للدنس"، ومشاركاً فيه بالرؤية القسرية.
وقف بليك بصعوبة، ومسح الدموع من عينيه، ورسم ابتسامة انتصارٍ مريرة على وجهه المراهق، وقال وهو يلهث: "أرأيت؟ لقد سقطتَ في الفخ الذي نصبته لنفسك. أنت الآن لست أفضل منا، لقد أصبحت زانياً بنظرك وبصيرتك، تماماً كما اتهمتني واتهمت هؤلاء الطلاب. لقد تلوثت روحك يا سيادة اللورد الجلاد!".
انفجر الجلاد بصراخٍ مروع، صرخة لم تكن بشرية تماماً، بل كانت صرخة قانونٍ يحطم نفسه. وبما أن برمجته وجوهره يقومان على إبادة كل من تلوث بالدنس دون استثناء، وجد الجلاد نفسه أمام الحقيقة المرة: لقد أصبح هو الهدف التالي لعدالته. وبحركة هستيرية وخارجة عن السيطرة، رفع اللورد الجلاد الأعلى فأسه الضخمة بكلتا يديه، وبدلاً من أن يوجهها نحو بليك، هوى بها بقوةٍ ساحقة على عنقه هو، منفذاً حكم الإعدام في نفسه قبل أن يسقط جسده الضخم على الأرض ككتلة من الحجر الميت، تاركاً خلفه صدى صرخة تلاشت في أرجاء المدرسة الموحشة.
بمجرد أن سقط جسد اللورد الجلاد الأعلى هامداً وتحول إلى غبارٍ أسود تذروه الرياح داخل الردهة، شعر بليك إيثر برعشةٍ كهربائية تجتاح أطرافه. استردت ملامحه حدتها، وعادت عضلاته لتتضخم تحت ثيابه، واستعادت يداه خشونة المحارب التي ألفها. لقد تلاشت لعنة "الرجوع بالزمن"، وعادت المانا لتتدفق في عروقه بغزارة، مما جعله يأخذ نفساً عميقاً وكأنه يولد من جديد، منتعشاً باستعادة قوته المسلوبة.
خطت هانا فيرتشايلد نحوه، وهي لا تزال تمسك بطرف ردائها الذي تمزق قليلاً أثناء عرقلة الجلاد، وقالت بنبرة يملؤها الإعجاب الممزوج بالدهشة: "لقد كانت خطةً ذكيةً حقاً يا بليك.. بل كانت انتحارية لدرجة العبقرية. لم أكن أتخيل أن قانون ذلك المسخ يمكن قلبه ضده باستخدام أداة دنسٍ هابطة كمجلة إباحية. لقد جعلته يرى ما كان يحرمه، فأجبرته على تنفيذ حكمه في نفسه".
ابتسم بليك وهو ينفض الغبار عن كتفيه، لكن هانا تابعت حديثها بنبرة مشوبة بالمزاح اللاذع: "ولكن أخبرني.. كيف استطاع ذلك الفتى الذي رأيته قبل قليل، ذلك المراهق المنحرف، الكريه، الخائف، والبكّاء الخجول الذي كان يرتجف أمامي، أن يحيك مؤامرةً بهذا الدهاء؟ لقد كنتَ في هيئة الإعدادية تجسيداً لكل العيوب الممكنة!".
احتقن وجه بليك غضباً، وصاح منفعلاً بصوتٍ رجولي هذه المرة: "هانا! توقفي عن وصفي بتلك الأوصاف البشعة! نعم، كنتُ خجولاً وربما مرتبكاً، لكنني لم أكن مجرد كتلة من العيوب في تلك المرحلة. لقد كنتُ أمتلك ذكاءً وقاداً وسرعةً لا يُستهان بها. في الواقع، كنتُ واحداً من أسرع العدائين في مدرستي الإعدادية، ولولا تلك المهارة لما استطعتُ الصمود في مطاردة الجلاد المجنونة تلك المسافة كلها!".
ضحكت هانا بخفة، وبدأت تمازحه حول الفوارق الشاسعة بين شخصيته الحالية كمقاتل أسطوري وشخصيته الماضية كفتىً يفرّ من ظله. تنهد بليك بعمق، وبدأ يسترجع شريط الأحداث في عقله؛ لقد أدرك أن تلك المواجهة لم تكن مجرد قتال من أجل البقاء، بل كانت مواجهة مع ماضيه الذي حاول نسيانه. أقرّ في نفسه بأن التجربة غيرته، وبأن القوة التي يمتلكها الآن لم تكن لتكتمل لولا ذلك الضعف الذي تعلم منه كيف ينجو.
وفجأة، وبينما كانا يسيران وسط الرواق المتجمد، تعثرت قدم هانا فوق طبقة من الجليد الزلق، فسقطت أرضاً بصرخة خفيفة. في تلك اللحظة، كان القمر في الخارج يتخذ شكلاً بشعاً وموحشاً، وكأن ضياءه ملوثٌ بسحرٍ قديم. تسلل نور القمر الفضي الشاحب عبر النافذة المقابلة ليغمر جسد هانا الملقى على الأرض.
تقدم بليك بسرعة ليمد يده ويساعدها على الوقوف، لكنه تجمد في مكانه كأن صاعقة ضربته. تحت ضوء القمر المباشر، بدأت هانا تتغير؛ أصبح جسدها شبه شفاف، وكأنها مصنوعة من غشاءٍ رقيق من النور، وبدأت تشع بلونٍ أبيض مزرقٍ غريب، تماماً كالكائنات التي تتولد من حبر القصص المسحورة. كانت هانا تنظر إليه ببراءة، تمد يدها لتستند إليه وهي تقول باستغراب: "بليك؟ مابك تنظر إليّ هكذا؟ م الخطب؟".
ابتلع بليك ريقه بصعوبة، وشعر ببرودة في قلبه تتجاوز برودة الجليد من حوله. أدرك بوضوح أن هانا لا تشعر بما يحدث لجسدها، ولا تدري أنها تفقد ماديتها البشرية تحت ضوء القمر. ساعدها على الوقوف بحذر شديد، وهو يحاول إخفاء ارتعاش يده، وقال بنبرةٍ حاول جعلها تبدو طبيعية: "لا شيء.. مجرد إرهاق. لنعد إلى القاعة الرئيسية فوراً، علينا البقاء مع البقية".
بينما كانا يمشيان، كان عقل بليك يضج بحقيقةٍ واحدة مرعبة ومذهلة، حقيقة تفسر نقاءها المطلق وعجز الجلاد عن لمسها: "هانا فيرتشايلد ليست مجرد ابنة للكاتب.. إنها واحدة من مخلوقات كتب فيرتشايلد أيضاً، إنها قصةٌ تمشي على قدمين، ولم تكن يوماً بشراً حقيقياً