كانت الأبوابُ الفولاذيةُ للمدرسةِ الثانويةِ تَئنُّ تحتَ وطأةِ ضغطٍ غيرِ بشريّ، صرخاتُ الموتى الأحياءِ وزمجرةُ الكائناتِ الهجينةِ تَتصاعدُ كإعصارٍ يَقتربُ من مركزه، وفجأةً، انفجرَ القفلُ الأخيرُ مِخلفاً وراءهُ طوفاناً من المسوخِ التي بَدأتْ تَتدافعُ كالسيلِ الأسودِ في ردهاتِ المدرسةِ الضيقة.

بليك إيثر، الذي كانَ يقفُ في منتصفِ الممرِ وكأنهُ السدُّ الوحيدُ أمامَ هذا الجحيم، لم يرمشْ لهُ جفن. أخذَ نفساً عميقاً، وشعرَ ببرودةِ المانا وهي تتدفقُ في عروقهِ كأنها أنهارٌ من الزئبقِ البارد. نطقَ بكلماتٍ قديمةٍ بالكادِ سُمعتْ وسطَ الضجيج، وفجأةً، ضَربَ بيدهِ الأرضيةَ الرخامية. انطلقتْ موجةٌ من الصقيعِ المُطلق، صقيعٌ لم يكنْ مجردَ انخفاضٍ في درجاتِ الحرارة، بل كانَ تجسيداً لغيابِ الحياة. في غضونِ ثوانٍ، بدأتِ الجدرانُ تَتغطى بطبقاتٍ سميكةٍ من الجليدِ الأزرقِ المتوهج، وامتدتِ الشرايينُ المتجمدةُ لِتغلقَ كلَّ نافذةٍ مفتوحة وكلَّ بابٍ مُحطم، صانعةً دروعاً جليديةً بصلابةِ الماسِ حَبستِ الوحوشَ في الخارجِ وقطعتْ دابرَ الإمدادات.

تنهدَ بليك وهو يَنظرُ إلى الممرِ الذي غصَّ بالفعلِ بالعشراتِ ممن نجحوا في التسللِ قبلَ إتمامِ الختم. التفتَ إلى بابادوك وقالَ بنبرةٍ مُثقلةٍ بالمسؤولية: لقد عَزلتُ المدرسةَ عن العالمِ الخارجيّ يا بابادوك، لكننا الآنَ عالقونَ في الداخلِ مع بقايا الكوابيس. الخطرُ لم ينتهِ، بل تَرصَّنَ داخلَ هذهِ الجدران.

ضحكَ بابادوك ضحكةً جافةً وهو يَنفضُ الغبارَ عن معطفهِ الأسود، وردَّ بهدوءٍ مُريب: العزلةُ هي ملعبي المفضل يا بليك، لكنْ يَبدو أنَّ أحدَ ضيوفِنا لا يَهوى الهدوء.

من بينِ ظلالِ الفصلِ الدراسيّ القريب، انطلقتْ شراراتٌ كهربائيةٌ زرقاءُ مَزقتِ الصمت، وخرجَ كيانٌ بَدا وكأنهُ مَنتزعٌ من تجربةٍ فيزيائيةٍ فاشلة. كانَ "الدكتور شوك"، العالمُ المجنونُ الذي اشتهرَ في رواياتِ فيرتشايلد بعبقريتهِ الملوثةِ بالجنون. شعرهُ كانَ منتصباً كأنهُ مَصعوقٌ بمليونِ فولت، وعيناهُ تلمعانِ بوميضٍ كهربائيٍّ غيرِ مُستقر، وجسدهُ مُحاطٌ بهالةٍ من البرقِ تتركُ آثارَ حروقٍ على الأرضِ مع كلِّ خطوة.

توقفَ الدكتور شوك ونظرَ إلى بابادوك بابتسامةٍ ملتويةٍ تنضحُ بالغطرسة، وقالَ بصوتٍ مَشوبٍ بزيزِ الكهرباء: كائنٌ غامضٌ يرتدي السوادَ ويحملُ مظلةً في وسطِ عاصفةٍ أنا مَصدرها؟ يا لها من معادلةٍ غيرِ منطقية! أنتَ لستَ سوى طاقةٍ بدائيةٍ يا هذا، وأنا السيدُ المطلقُ للنبضِ العصبيّ والشرارةِ الكونية. سأقومُ بتحليلِ جزيئاتِكَ وتشتيتها حتى لا يتبقى منكَ سوى رمادٍ مُتأين.

لم يتراجعْ بابادوك، بل رفعَ مظلتهُ ببرودٍ واستدارَ ليواجههُ قائلاً: العلمُ دونَ حكمةٍ ليسَ سوى ضجيجٍ فارغٍ يا دكتور. أنتَ تتحدثُ عن النبضات، وأنا أتحدثُ عن الماهية. مظلتي هذهِ لم تُصنعْ لتقيَ من المطرِ فحسب، بل لِتقيَ العالمَ من حثالةٍ أمثالك.

لم ينتظرْ الدكتور شوك رداً آخر، بل انطلقَ كالسهمِ الضوئيّ. كانتْ حركتهُ تكتيكيةً بامتياز، إذ لم يهاجمْ من الأمام، بل استخدمَ الممراتِ المعدنيةَ للأسقفِ لينتقلَ خلفَ بابادوك في رمشةِ عين، مُطلقاً صاعقةً مُركزةً استهدفتِ النخاعَ الشوكيّ لخصمه. لكنَّ بابادوك، بمهارةٍ فائقة، فتحَ مظلتهُ وقلبها في الهواءِ كأنها درعٌ مغناطيسيّ. اصطدمَ البرقُ بنسيجِ المظلةِ الذي بدا وكأنهُ يمتصُّ الطاقةَ ويُشتتها في الهواء.

زأرَ الدكتور شوك بغيظ: هل تظنُّ أنَّ نسيجاً بالياً سيوقِفُ فيضَ الإلكترونات؟ سأحرقُ مظلتكَ وصاحبها!

انقضَّ العالمُ المجنونُ بسلسلةٍ من اللكماتِ الكهربائيةِ السريعة، مُستخدماً سرعةَ البرقِ لِيخلقَ صوراً وهميةً لنفسهِ حولَ بابادوك. كانَ القتالُ مَزيجاً من العلمِ الفوضويّ والسحرِ المظلم. بابادوك، الذي أدركَ أنَّ السرعةَ ليستْ في صالحه، قررَ تغييرَ قواعدِ اللعبة. في اللحظةِ التي حاولَ فيها الدكتور شوك غرسَ يدهِ المشحونةِ في صدرِ بابادوك، تحولتْ ذراعُ بابادوك اليمنى فجأةً، تضخمتْ العضلاتُ وتمزقَ القماشُ ليظهرَ طرفُ الجنِّ العملاق، يدٌ سوداءُ مُغطاةٌ بحراشفَ شيطانيةٍ ومخالبَ تقطرُ ظلاماً.

أمسكَ بابادوك بساعدِ الدكتور شوك بيدهِ المتحولة، وشعرَ العالمُ المجنونُ لأولِ مرةٍ أنَّ كهرباءهُ تُخنقُ داخلَ تلكَ القبضةِ غيرِ البشرية. قالَ بابادوك بصوتٍ عميقٍ زلزلَ الردهة: النملُ يلدغ، لكنَّ الجبالَ لا تشعرُ بالألم.

حاولَ الدكتور شوك تحريرَ نفسهِ بإطلاقِ انفجارٍ كهربائيٍّ شاملٍ من جسده، مما أجبرَ بابادوك على التراجعِ قليلاً، لكنَّ المظلةَ عادتْ لتتحولَ في يدِ بابادوك إلى سيفٍ قاطعٍ مَزقَ الهواءَ والشرارات. بَدأ بابادوك يَستخدمُ تحولاته الجزئيةِ بذكاءٍ مفرط؛ فتارةً تتحولُ ساقه لِيضربَ الأرضَ بقوةٍ تَهدمُ توازنَ الخصم، وتارةً يظهرُ رأسهُ كحيوانٍ جهنميٍّ لِيطلقَ زئيراً يَبثُّ الرعبَ في قلبِ العالمِ المختل.

قالَ الدكتور شوك وهو يلهث، والشراراتُ تخرجُ من فمهِ كأنها دماءٌ ضوئية: ما أنت؟ أيُّ نوعٍ من الكوابيسِ مَثَّلَهُ فيرتشايلد لِيخلقَ مِسخاً مثلك؟

ردَّ بابادوك وهو يتقدمُ بثبات، ومظلتهُ تلمعُ ببريقٍ أسود: أنا لستُ من خيالهِ يا دكتور، أنا الحقيقةُ التي يهربُ منها الجميعُ إلى الخيال. والآن، دعنا نرى إنْ كانَ علمُكَ يستطيعُ تفسيرَ العدم.

تطايرت الشظايا الكهربائية في أرجاء الردهة كأنها نيازك زرقاء متمردة، وكان الدكتور شوك قد فقد كل ذرة من تعقله المزعوم؛ إذ تحول جنونه العلمي إلى هياج غريزي صرف. بدأ يطلق قذائف البرق في كل اتجاه بلا تمييز، محولاً المقاعد الخشبية وخزانات الطلاب إلى رماد مشتعل، ولم يعد هدفه بابادوك فحسب، بل صار يضرب الجدران والأسقف في نوبة ذعر وقوة مفرطة، وكأنه يحاول تمزيق نسيج الواقع الذي حبسه في هذا المكان المتجمد.

في الجهة المقابلة، كان بليك إيثر يراقب المشهد بعينين ثاقبتين، وأدرك على الفور أن الصراع بين الكيانين قد خرج عن السيطرة، وأن التلاميذ المذعورين الذين تجمعوا في زوايا القاعة باتوا أهدافاً سهلة لتلك الصواعق العشوائية. انطلق بليك بحركة انسيابية، مستخدماً سحر الهواء ليخلق هالات دفع رقيقة حول الطلاب، موجهاً إياهم بعيداً عن مسار الانفجارات الكهربائية. كان يلقي بنفسه أمام كل شرارة طائشة، محولاً إياها بسيفه الفضي أو بصدور مانا منيعة، وهو يصيح بنبرة حازمة: ابقوا في الخلف! لا تلتفتوا وراءكم، الزموا ممرات الصيانة الجانبية!

وسط هذا الزحام، تعثرت هانا فيرتشايلد، التي كانت تراقب والدها في المكتبة بقلب مثقل قبل أن يجرفها الزحام. كادت صاعقة مرتدة من سقف الممر أن تسحقها، لولا أن بليك قبض على معصمها في اللحظة الأخيرة وجذبها خلف عمود خرساني ضخم. نظرت إليه هانا بعينين متسعتين من الذهول والخوف، وقالت بصوت متهدج: إنه يحطم كل شيء.. هذا العالم ليس كبقية الوحوش، إنه يمثل غضب والدي المكبوت، الجنون الذي كان يخشى كتابته!

ثبت بليك نظره عليها، وبالرغم من دوي الانفجارات خلفه، كان صوته هادئاً كهدوء القبور، وقال: الخوف لن يحميكِ الآن يا هانا، ولا لوم والدكِ سيفيد. الوحوش التي خرجت من الورق أصبحت لحماً ودماً وكهرباء، وعلينا التعامل معها كحقائق مادية. ابقي مع زملائكِ، ولا تسمحي لليأس بأن يكسر دفاعاتكم النفسية، فأنتم مرساة هذا المكان للواقع.

أومأت هانا برأسها بصمت، وشعرت بقوة غريبة تستمدها من هدوء هذا الشاب الذي بدا وكأنه لا يخشى الموت. دفعها بليك برفق نحو بقية الناجين، ثم استدار ليعود إلى ساحة المعركة، متمتماً لنفسه: والآن، لنترك بابادوك ينهي رقصته مع هذا المختل.

عاد المشهد ليركز على بابادوك الذي كان يقف وسط عاصفة البرق ببرود مرعب. كان الدكتور شوك يصرخ عالياً، وصوته يمتزج بأزيز الكهرباء: لماذا لا تسقط؟ لقد استهلكتُ طاقة تكفي لإحراق مدينة كاملة! أنت مجرد ظل، والظل يتبدد أمام الضوء!

ضحك بابادوك، وكانت ضحكته هذه المرة أعمق، وأكثر وحشية، حيث بدأت ملامحه تتغير بشكل تدريجي. تحولت يده اليسرى الآن لتجاري اليمنى، ونبتت مخالب أطول، بينما بدأت ساقه تزداد ضخامة، محطمة الرخام تحت ثقل هيئة الجن الكاملة التي بدأت تبرز من تحت معطفه. قال وهو يلوح بمظلته التي صارت تقطر سواداً: الضوء يطرد الظلال الضعيفة يا دكتور، لكنه يجعل الظلال العظيمة أكثر وضوحاً وحدة. أنت لست ضوءاً، أنت مجرد شرارة تافهة في ظلامي الشامل.

انقض الدكتور شوك في هجوم انتحاري، جامعاً كل طاقته في قبضتيه ليصنع كرة بلازمية هائلة، لكن بابادوك لم يصد الهجوم هذه المرة بالمظلة فحسب، بل رفع ساقه التي تحولت إلى طرف جن عملاق وضرب بها صدر العالم المجنون. كان الاصطدام مروعاً؛ إذ اختلط بريق البرق بسواد المانا، وارتد الدكتور شوك إلى الخلف محطماً ثلاثة جدران متتالية قبل أن يستقر في قاعة المحاضرات الكبرى، وهو يئن من تحطم أضلاعه وتشتت طاقته.

تقدم بابادوك ببطء، وجزء من وجهه قد بدأ يظهر عليه قناع الجن بجلده الخشن وقرونه الصغيرة، وقال بنبرة تملؤها السخرية المظلمة: هل انتهت محاضراتك العلمية؟ أم أنك بحاجة إلى درس إضافي في ماهية الألم الوجودي؟

كان بليك قد أمن آخر الطلاب في الممر الآمن، ووقف بعيداً يراقب بزوغ قوة بابادوك الكاملة، وقال بنبرة خفيضة: استمر يا بابادوك، فالوقت يداهمنا، والورقة الأخيرة لم تُكتب بعد.

في زاويةٍ قصيةٍ من المدرسة، داخل قاعة المسرح الكبرى التي خيّم عليها صمتٌ ثقيلٌ لا يقطعه إلا صرير القلم وصوت احتكاك الورق، كان "فيرتشايلد" يقبع خلف طاولته الخشبية المهترئة، محاطاً بظلالٍ تتراقص على وقع شموعٍ أوشكت على الانطفاء. كانت ملامحه شاحبة، وعيناه المحتقنتان بالدم تائهتين بين السطور؛ لقد توقف فيض الأفكار فجأة، وجفّ حبر خياله أمام عظمة الكارثة التي خلقها. كان يهمس لنفسه بنبرة يائسة: "كيف أنهي هذا؟ كيف أضع حداً لكوابيس صارت تمشي على قدمين؟"، وبينما كانت يده ترتجف فوق الآلة الكاتبة، انفتح باب المسرح الخلفي ببطء، ليدخل منه كائنٌ ضخمٌ حجب بظله العملاق ضوء الشموع الضعيف.

كان ذلك هو "رأس اليقطين"، الوحش الذي لطالما أرعب القراء في رواية "هجوم فوانيس اليقطين". كان جسده بشرياً ضخماً، يرتفع ليرتطم بسقف القاعة بارتفاع اثني عشر قدماً، وفي أعلاه، استقر رأسٌ ضخمٌ عبارة عن ثمرة يقطين برتقالية متحللة، نُحتت فيها ثقوب للعينين والفم ينبعث منها ضوء أخضر باهت ومريب. زفر الكائن ريحاً برائحة الخريف العفن، وتقدم نحو فيرتشايلد بخطوات ثقيلة هزت خشبة المسرح، مصدراً صوتاً يتردد بين الزمجرة وحفيف الأوراق الجافة.

تراجع فيرتشايلد إلى الخلف، واصطدمت ظهره بالستارة المخملية الحمراء، وهو يصرخ بذعر: "أنت.. أنت لم يكن من المفترض أن تكون هنا! القصة لم تنتهِ بعد!". لكن الوحش لم يستجب، بل رفع يديه الضخمتين اللتين تشبهان جذوع الأشجار الميتة، محاولاً سحق صانعه تحت وطأة قوته الغاشمة. وفي لحظة اليأس تلك، تعثرت يد فيرتشايلد بمصباح زيتي كان موضوعاً بجانب أوراقه، فانقلب المصباح واشتعلت النيران في طرف السجادة القديمة.

بلمحة من الغريزة، أدرك فيرتشايلد نقطة الضعف التي وضعها بنفسه في رواياته؛ فهذا الكائن، رغم عظمته، ليس سوى قشرة نباتية جافة من فصيلة اليقطين. أمسك الكاتب بقطعة من القماش المشتعل وألقاها بشجاعة يائسة نحو رأس الوحش. وبمجرد أن لامست النار تلك القشرة المتآكلة، اندلعت النيران في رأس اليقطين بسرعة البرق. صرخ الكائن صرخة مكتومة، وتطايرت منه شرارات برتقالية بينما بدأ جسده الضخم يتداعى كأنه كومة من القش المحترق، حتى تحول في غضون ثوانٍ إلى رماد يتناثر في هواء المسرح، تاركاً خلفه رائحة احتراق السكر والنباتات الميتة.

وقف فيرتشايلد يلهث، والشرر يتطاير في عينيه، لكنه لم يشعر بالخوف هذه المرة، بل شعر بشرارة من نوع آخر؛ شرارة الإلهام. نظر إلى الرماد المتساقط، وتذكر فجأة فكرة "التحول والتلاشي". مسح العرق عن جبينه، وجلس بجموح خلف آلة الكتابة، وبدأت أصابعه تضرب الحروف بقوة لم يعهدها من قبل. لقد أدرك الآن أن الوحوش ليست منيعة، وأن لكل كابوس نهاية يمكن حياكتها بالكلمات.

بدأ يكتب بسرعة مذهلة، وهو يتمتم: "إذا كان اليقطين يحترق، فإن الجليد سيتكسر، والبرق سيتفرغ.. النهاية ليست في القوة، بل في معرفة الجوهر". ومع كل كلمة يكتبها، كانت الأجواء في المدرسة تبدأ بالتغير، وكأن نسيج الواقع يستعد لاستقبال الفصل الأخير من هذه الملحمة الدامية، بينما ظل صدى ضربات الآلة الكاتبة يتردد في أرجاء المسرح كأنه نبض قلبٍ عاد للحياة من جديد.

بينما كانتِ النيرانُ تلتهمُ بقايا "رأس اليقطين" داخل المسرح، كانَ المشهدُ خارجَ أسوارِ المدرسةِ يتخذُ طابعاً تكنولوجياً حاداً. تقدّمَ ماركو بخطواتٍ محسوبة، وعيناهُ مسمرتانِ على شاشةِ جهازِ التعقبِ التي أضاءتْ وجههُ بوميضٍ أخضرَ متسارع، والإشارةُ تنبضُ بقوةٍ غيرِ مسبوقةٍ معلنةً أنَّ سفينتهُ الفضائيةَ باتتْ على مرمى حجر. وبجانبهِ، كان "قط الكذب" يسيرُ بهدوءٍ مريب، أذناهُ تتحركانِ مع كلِّ حفيفِ ريح، وعيناهُ الأرجوانيتانِ تلمعانِ بذكاءٍ فطريٍّ صامت.

توقفَ ماركو فجأةً عندما انشقتْ غلالةُ الضبابِ لتكشفَ عن سدٍّ منيعٍ يقطعُ الطريق. كانتْ مجموعةٌ ضخمةٌ من "المدمرين 3000" تقفُ في تشكيلٍ عسكريٍّ صارم. هذهِ الروبوتاتُ التي صممها فيرتشايلد في قصصهِ كآلاتِ إبادةٍ متناهيةِ الدقة، بَدتْ في الواقعِ كألعابٍ معدنيةٍ ضخمةٍ ذاتِ زوايا حادة، وعيونٍ عدسيةٍ حمراءَ توحي ببرودةِ الخوارزمياتِ التي تُسيّرها.

أصدرَ الرائدُ الآليُّ من بينهم صوتاً معدنيّاً مجهداً، انبعثَ من مكبراتِ صوتهِ الصدئة: "توقفْ أيها الكائنُ العضويّ. نحنُ هنا لحمايةِ المنطقةِ من الغزوِ الخارجيّ، وبرمجتنا تمنعنا من إيذاءِ الأبرياء.. نحنُ رسلُ السلامِ في هذهِ الفوضى."

في تلكَ اللحظة، وبوسطِ الصمتِ الذي أعقبَ هذا التصريحَ الآليّ، فتحَ "قط الكذب" فمهُ الصغيرَ وأطلقَ صوتاً حاداً ومختصراً: "كذب."

ابتسمَ ماركو بسخريةٍ وهو يسحبُ مسدسهُ الفضائيَّ من غمده، وقالَ بنبرةٍ جافة: "لقد سمعتَ القطةَ أيها الصفيحُ الخردة. رسلُ سلامٍ يحملون فوهاتِ ليزرٍ حراريّ؟ يبدو أنَّ كاتبكم كانَ يمرُّ بيومٍ سيءٍ من التناقضاتِ عندما صممكم."

لم تمنحِ الروبوتاتُ ماركو فرصةً أخرى؛ إذ توهجتْ عيونها الحمراءُ بقوةٍ وانطلقتْ أولُ زخاتِ الليزرِ لتمزقَ جداراً خلفهُ. قفزَ ماركو في الهواءِ بحركةٍ بهلوانية، وفي منتصفِ قفزتهِ، ضغطَ على زنادِ مسدسهِ الفضائيّ. انطلقتْ "طبقاتٌ" من النبضاتِ البلازميةِ الزرقاء، كلُّ طبقةٍ كانتْ تضربُ درعاً معدنيّاً فتخترقهُ كأنهُ ورقٌ محروق. كان ماركو يُطلقُ النارَ بتكتيكٍ عالٍ، مستهدفاً المفاصلَ الركبيةَ للروبوتاتِ لِيُسقطها أرضاً قبلَ أن يُجهزَ على مراكزِ المعالجةِ في رؤوسها.

كان القتالُ عنيفاً؛ فالليزرُ الأحمرُ كان يتقاطعُ مع البلازما الزرقاء في سماءِ المدينةِ المظلمة. الروبوتاتُ كانتْ تتقدمُ بآليةٍ لا تعرفُ الخوف، بينما كان ماركو يستغلُّ خفةَ حركتهِ وضيقَ المكانِ لِيجعلها تضربُ بعضها البعض. وفي كلِّ مرةٍ كان الروبوتُ يُصدرُ فيها بياناً برمجياً يدعي فيهِ التفوقَ أو العدل، كان صوتُ "قط الكذب" يرتفعُ بكلمتهِ الوحيدةِ "كذب"، لِيُحطمَ زيفَ تلكَ الآلاتِ قبلَ أن يُحطمَ ماركو أجسادها المعدنية.

تراجعَ ماركو خلفَ حاويةِ نفاياتٍ معدنيةٍ لِيُعيدَ شحنَ سلاحه، والشراراتُ تتطايرُ من حوله، ونظرَ إلى قط الكذب الذي كان يربضُ بجانبهِ مستعداً للوثبةِ القادمة. قال ماركو وهو يلهث: "العددُ كبيرٌ يا صديقي، لكنَّ السفينةَ قريبة.. أشعرُ باهتزازِ محركاتها في قدميّ. لننتهِ من هذهِ الدمى المعدنية، فلدينا موعدٌ مع العودةِ إلى الديار."

استجمعَ ماركو كلَّ طاقته، وانطلقَ من خلفِ الساترِ ليصبَّ وابلاً من الطلقاتِ الفضائيةِ المركزةِ على صفوفِ "المدمرين 3000" المتبقية، محولاً إياهم إلى حطامٍ يتطايرُ في كلِّ اتجاه، بينما ظلَّ قط الكذب يراقبُ الموقفَ بعينينِ لا تغفلان، مستعداً لكشفِ أيِّ زيفٍ قد يطرأُ في هذهِ المعركةِ المحتدمة.

بينما كان بليك إيثر يبذل قصارى جهده لتأمين ممرات المدرسة وتوجيه الطلاب المذعورين نحو الملاجئ الآمنة، انشقت الأرضية الرخامية عن حضورٍ ثقيلٍ ومفاجئ، حضورٍ لم يكن يحمل طابع الوحوش الخيالية المشوهة، بل كان يحمل رعباً واقعياً مفرطاً. من خلف غبار المعارك، ظهر "اللورد الجلاد الأعلى"، الشخصية التي استلهمها فيرتشايلد من عتمة العصور الوسطى في روايته "ليلة في برج الرعب". كان رجلاً قصير القامة، ممتلئ الجسد بشكل يمنحه ثباتاً مرعباً كأنه صخرة سوداء، يرتدي قميصاً قذراً وبنطالاً من الجلد المهترئ، ويغطي وجهه بقناع جلدي أسود لا يظهر منه سوى بريق عينين باردتين كالموت.

لم ينتظر الجلاد طويلاً؛ وبحركة خاطفة لا تتناسب مع قصر قامته، أرجح فأسه الضخمة ذات النصل الفولاذي العريض، ليحصد أرواح عدد من الطلاب الذين كانوا يحاولون الفرار. كانت الضربة رحيمة من حيث السرعة، لكنها كانت وحشية في تنفيذها، حيث سقطوا جثثاً هامدة دون أن يدركوا ما أصابهم. اهتز كيان بليك من هول المشهد، واندفعت الدماء في عروقه غضباً، فصرخ صرخة هزت أركان الممر واستجمع طاقته السحرية ليطلق موجة من سحر النار المركز نحو الجلاد. اندلعت ألسنة اللهب واحتوت جسد الجلاد بالكامل، لكن الغريب أنه لم يصدر عنه أي صوت تألم، بل ظل واقفاً وسط الحريق وكأن النار مجرد هواء ساخن يداعب ثيابه. خمدت النار تدريجياً لتكشف عن الجلاد وهو يتقدم بثبات، ولم يتأثر جسده أو ثيابه بأي حرق، وكأن طبيعته البشرية الظاهرية تخفي خلفها حصانة مطلقة ضد العناصر.

توقف الجلاد على بعد أمتار قليلة من بليك وهانا، وركز بصره البارد عليهما. كان صوته عميقاً وأجشاً، يخرج ببطء شديد كأنه صادر من بئر قديمة، حيث قال: "أنا لستُ وحشاً يبحث عن الدماء بغير هدى، أنا ميزان العدل المائل في هذا العالم المشوه. عملي هو التطهير، وفأسي لا تسقط إلا على رقاب الدنسين؛ أولئك الذين انغمسوا في الزنا، أو نكحوا غير أزواجهم، أو تلوثت أعينهم وأرواحهم بمشاهدة الإباحية القذرة. هذا هو عهدي، وهذا هو قدري الذي خُلقتُ لأجله".

وقفت هانا فيرتشايلد مصدومة، وهي التي كانت تحفظ روايات والدها عن ظهر قلب، فصرخت في وجهه بنبرة حادة ممزوجة بالذهول: "هذا جنون! لقد قرأتُ كتابك بعناية، وأعرف شخصيتك جيداً. أنت في الرواية مجرد حارس لبرج التعذيب، وظيفتك تنفيذ الأوامر، لم تكن قط مدعياً للفضيلة أو قاضياً أخلاقياً! هذا الذي تقوله هو انحراف صارخ عن جوهر الشخصية التي خطها والدي!".

لم يلتفت الجلاد نحو هانا، ولم يبدِ أي اهتمام بكلماتها، بل ظل شاخصاً بصره نحو بليك. وبصوت يخلو من أي عاطفة، أردف قائلاً: "الكلمات على الورق كانت قيداً، أما هنا فالروح هي التي تتحدث. إنني استشعر الدنس كما يستشعر الكلب رائحة الفرائس، وبصيرتي تخبرني بأن هذا الفتى الذي يقف أمامي ليس طاهراً كما يدعي، بل هو زانٍ في فكره، وتستحق رقبته القصاص".

تراجع بليك خطوة إلى الوراء، وقد استبد به العجب، فسأل بصوت متهدج: "وكيف لك أن تجزم بهذا الهراء؟ كيف تعرف خفايا الأنفس أيها القاتل القصير؟". رد الجلاد وهو يرفع فأسه ببطء: "لي بيرة قصيرة، بيرة روحية لا تكذب أبداً، وهي تهمس في أذني الآن بأنك واحد من أولئك الذين غرقوا في وحل الشهوات المحرمة".

اتسعت عينا هانا ونظرت إلى بليك باستغراب وتساؤل، فشعر بليك بمزيج من الخجل والارتباك يكسو وجهه، وصرخ منفعلاً وهو يحاول الدفاع عن نفسه أمام نظرات هانا: "حسناً! حسناً! لقد شاهدتُ بعض الأفلام الإباحية عندما كنتُ في المرحلة الإعدادية، كنتُ صبياً فضولياً وطائشاً! لكنني أقسم أنني لم أشاهد أي شيء من هذا القبيل منذ سنين طويلة! هل هذا سبب كافٍ لتصنفني كزانٍ وتستبيح دمي؟".

لكن الجلاد لم يكن مهتماً بالأعذار أو بمرور الزمن؛ فبالنسبة له، الخطيئة وشم لا يزول إلا بحد السيف. اندفع اللورد الجلاد الأعلى فجأة نحو بليك، هاتفاً بصوت رعدي: "التوبة لا تعني سقوط الحكم! الفأس تطلب حقها!". أرجح الجلاد فأسه الضخمة بقوة هائلة نحو رأس بليك، الذي استطاع بصعوبة بالغة أن يتفادى الضربة عبر القفز جانباً، ليصطدم نصل الفأس بالأرضية الرخامية ويحطمها تماماً، مسبباً فجوة عميقة. بدأ القتال بينهما في ردهات المدرسة، بليك يحاول استخدام سرعته وسحره لتفادي الضربات القاتلة، والجلاد يلاحقه بضربات فأس متتالية لا ترحم، في مواجهة غريبة امتزجت فيها الأخلاق المشوهة برعب الواقع الملموس

2025/12/16 · 3 مشاهدة · 2743 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025